على رغم مسيرته الإبداعية المميزة، يرى الروائي المصري بهاء طاهر1935 أنه مقصر في حق مشروعه الأدبي، ويقول:"عشت حياة مليئة بالمحن لم تسمح لي بأكثر مما قدمت"، ويعتقد صاحب"الحب في المنفى"أن الأدب الباقي هو الأدب الذي يسعى إلى الإجابة على أسئلة باقية"، ويؤكد أنه دفع مع جيله من الكُتّاب ثمناً فادحاً مقابل أن يكون صادقاً..."اكتوينا بنيران السياسة ما بين سجن وطرد ونفي، لكن هذا جاء في مصلحتنا". وعن المشهد الثقافي العربي الراهن يقول طاهر:"إن فكرة الثقافة العربية الجامعة لم تعد موجودة على الإطلاق". لمناسبة صدور مجموعة قصصية جديدة له أخيراً عنوانها"لم أعرف أن الطواويس تطير"التقت"الحياة"بهاء طاهر، الحاصل على الجائزة العالمية للرواية العربية"البوكر"في دورتها الأولى عن روايته"واحة الغروب"، وأجرت معه هذا الحوار: لتكن بداية الحديث حول فترة التكوين التي تشكل أهمية في حياة كل مبدع؟ - قبل الالتحاق بالمدرسة الابتدائية، حفظت جزءاً لا بأس به من القرآن الكريم، أعتقد أنه لعب دوراً أساسياً في تكوين لغتي، إذ جعلني إلى حد كبير لا أتحمل اللغة السقيمة. والدي كان شيخاً أزهرياً يدرس اللغة العربية وكان من بين تلامذته الكاتب محمود السعدني. أعتقد أنني كنت محظوظاً فقد نشأت في عصر يحتفي بالثقافة والأدب، ويكفي أنني حزت المركز الأول في كتابة القصة وأنا في الصف الرابع الابتدائي. كان طه حسين وزيراً للمعارف، وكانت الكتب توزع علينا في المدرسة مجاناً فقرأت في هذه المرحلة المبكرة أعمالاً لكبار الكتاب، مثل"يوميات نائب في الأرياف"لتوفيق الحكيم، و?"أبو الهول يطير"لمحمود تيمور. وفي مرحلة التعليم الثانوي كنت أتابع عن كثب الصراع بين رشاد رشدي ومحمد مندور، وأنتظر مقالات لويس عوض وأتابعها. وفي الجامعة وجدت ما يشبه الملتقيات الأدبية التي كانت تضم كوكبة من الأدباء الذين كانوا شباباً آنذاك، أذكر منهم رجاء النقاش وشقيقه وحيد النقاش، وكامل أيوب، والشاعر عبدالمنعم عواد يوسف. في السبعينات عايشت تجربة إقصائية، كيف أثرت هذه التجربة على مشروعك الإبداعي؟ - يجيب على هذا السؤال"إن أول رواية نشرتها"شرق النخيل"1985 كانت مكتوبة في بداية السبعينات، أي في الفترة التي كنت ممنوعاً فيها من النشر". في كتابك"في مديح الرواية"ثمة محاولة للكشف عن مقومات الكتابة الجيدة عبر اختبارين أطلقت عليهما اختبار القارئ واختبار الزمن؟ - الاختبار الأول يمكن أن يكون خادعاً، وكم من أعمال على مر التاريخ نجحت نجاحاً مدوياً لدى صدورها وبعد سنوات قلائل ماتت وذهبت طي النسيان، وهناك أعمال أخرى لم يقبل عليها الجمهور لعجزه عن تذوقها، ثم أصبحت بعد ذلك من كلاسيكيات الأدب. وهنا أتذكر مقولة الكاتب الألماني شيلر عندما لم تلق مسرحيته"اللصوص"قبولاً:"أنا مصمم على عرض هذه المسرحية إلى أن يقتنع الجمهور أنها أفضل بكثير من رأيه فيها". والمسرحية الشهيرة لتشيكوف"الطائر البحري"فشلت فشلاً ذريعاً عندما عرضت للمرة الأولى في روسيا، وبعد عشرين عاماً عرضت ثانية لتحقق نجاحاً مدوياً. الأدب الذي لا يلتفت إلا للعارض والموقت هو أدب محكوم عليه بالنسيان. إذا كان اختبار القارئ خادعاً فإلى أي درجة يمكن أن يؤثر هذا الخداع على المبدع؟ - إلى الدرجة التي نجد معها أن عملاً أدبياً لا قيمة له نجح نجاحاً مدوياً، لدرجة أن كتاباً كثيرين يقلدون هذا العمل. هل ترى أن مجموعتك القصصية الأولى"الخطوبة"الصادرة عام 1964 صمدت أمام اختبار الزمن؟ - يسعدني كثيراً أن أجد قارئاً يقول لي أنه معجب بهذه المجموعة وأنه يشعر وكأنها كتبت الآن، فهذا يعني أن بها شيئاً يستحق. في روايتك"الحب في المنفى"تعرضت لتجربة البطل في منفاه الاضطراري، إلى أي درجة يمكن أن يحمل العمل الأدبي جزءاً من حياة الكاتب وتجاربه؟ - كل شيء ولا شيء، بمعنى أن كل كاتب في الدنيا لديه معين ينهل منه. هذا المعين هو تجاربه وخبراته الحياتية. ولكن أسوأ أنواع الكتابة هي الكتابة التي يكون محورها الكاتب نفسه. وللأسف يقع كثير من الكتاب في هذا الفخ عندما يعتبرون أنفسهم مهمين، لدرجة أن أي شيء يخص حياتهم يكتبونه. يرى بعض النقاد أن أصعب ما في كتابة بهاء طاهر، هذه الطريقة في إحكام العلاقة بين الواقعي والرمزي والوجودي. انطلاقاً من هذا، هل للأدب وظيفة؟ - أنا مقتنع بأن للأدب وظيفة، وبأن الأدب الباقي هو الأدب الذي يسعى للإجابة على أسئلة باقية وليست وقتية، وأن العمل الأدبي الذي يعيش هو العمل الذي يتصدى للهموم الفردية والاجتماعية والكونية الوجودية، وليس بالضرورة أن تتوافر هذه العناصر كافة في الوقت ذاته، ولكن المهم هو أن يمس الكاتب حاجة من الحاجات الباقية عند النفس الإنسانية أو المجتمع البشري. تنوعت البيئات التي تناولتها في أعمالك، كيف تعاملت مع إشكالية أن يكتب الكاتب عن عوالم ليست عوالمه؟ - ظللت لمدة عامين بعد سفري إلى خارج مصر من دون أن أكتب حرفاً واحداً، ولم يكن السبب صدمة الحضارة الغربية التي مر بها"أدب"طه حسين، لكن كانت لدي صدمة من نوع آخر، صدمة إنسان انتزع من جذوره. الكتابة عن هذه العوالم أصعب بكثير، لذا أجدني أُدهش كثيراً من بعض الكتاب الذين يسافرون إلى بلد ما لمدة شهر أو شهرين ويعودون ليكتبوا عنه، فمثل هذه الكتابة هي ككتابة السائح. المؤسف هو أن كثيراً من كتابنا كتبوا بهذا الشكل السياحي، والمؤسف أكثر هو أننا كنا نصدقهم. تتميز لغتك بسهولة تجعل البعض يظن أن في الإمكان تقليدها؟ - اللغة اليسيرة ليست أمراً سهلاً، ولا يعرف القارئ أنني قد أعيد كتابة جملة واحدة عشرات المرات، فالكتابة بالنسبة لي هي إعادة الكتابة. أكتب العمل وأعيد كتابته. ويكفي أن تعرفي أن مسودات رواية"قالت ضحى"في حجم رواية"الحرب والسلام". هل أنت من أنصار فكرة"المجايلة"في الأدب؟ - لست من أنصار هذه الفكرة وأرفضها رفضاً تاماً، ولكن من المؤكد أن الأفراد الذين عاشوا تجربة معينة وكانت أفكارهم متقاربة يمكن أن يمثلوا تياراً ما، ولكي نكون منصفين فإنه يحدث أحياناً أن يتشكل تيار أدبي أو تتشكل طريقة أدبية في التعبير تنسب إلى جيل بعينه كما حدث في الأدب الألماني عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة عندما شكل جيل 48 صوتاً جديداً في هذا الأدب. وماذا عن جيل الستينات في مصر الذي تعتبر أنت من أبرز المنتمين إليه؟ - أظن أنه أيضاً في الستينات كان هناك صوت جديد في الأدب العربي وكنا نعبر عنه هنا في مصر وفي لبنان وسورية والعراق وكل قطر عربي. كان هذا الجيل يعبر عن شيء جديد، لذا فمن الممكن أو المقبول أن نتحدث عن جيل يسمى جيل الستينات. أما الحديث بعد ذلك عن جيل السبعينات أو الثمانينات أو حتى التسعينات، فهذا أمر غريب بعض الشيء. كيف ترى مصطلحات مثل"الكتابة عن الجسد"، و?"الكتابة الجديدة"؟ - مصطلح"الكتابة الجديدة"يدل على شيء نسبي. الكتابة في تصوري الشخصي نوعان لا ثالث لهما، إما كتابة جيدة أو كتابة رديئة. أما الكتابة عن الجسد فهذه نزعة ظهرت عندما خرج علينا بعض الكتاب ليقول: أنا لا أعرف سوى جسدي، لذا أنا أكتب عنه. الكاتب مطالب بأن يعرف نفسه وجسده وأن يعرف الآخرين أيضاً، وأعتقد أن هناك كتّاباً جيدين في مصر تخلصوا من هذه النزعة، لكنهم يحتاجون إلى تسليط الضوء عليهم. في كتابك"أبناء رفاعة: الثقافة والحرية"عرضت للكثير من القضايا الثقافية، كيف ترى المشهد الثقافي العربي الآن؟ - في الماضي كانت الثقافة العربية ثقافة واحدة. كنا بلا استثناء من المشرق إلى المغرب نلتف حول مجلة مثل"الكاتب المصري"القاهرية لطه حسين، و?"الآداب"البيروتية لسهيل إدريس، و?"الأقلام"العراقية. الآن كل قطر عربي مستقل بذاته، وفكرة الثقافة العربية الجامعة لم تعد موجودة على الإطلاق. وفي تقديري يعد هذا أهم عنصر سلبي وأعتقد أن هذا شيء إن لم يكن مخططاً له فهو على الأقل موضع رضا من المسؤولين، لكن وعلى رغم هذا التعتيم على الثقافة العربية على المستويين القطري والإقليمي ما زال هناك إبداع جيد في كل قطر على حدة ولو أن هناك ناقداً في قامة محمد مندور أو لويس عوض لاستطاع أن يجد أرضاً خصبة لتحليل وتقييم المضامين الموجودة لاكتشاف العناصر الجامعة في الأعمال التي تصدر في الأقطار العربية المتفرقة. العلاقة بين المبدع والناقد، كيف تراها؟ - كانت في الماضي علاقة عظيمة، وإليها يرجع الفضل في رواج الكتابة الجيدة في الخمسينات والستينات. كان القارئ يثق في أحكام النقاد. عندما كتب رجاء النقاش عن الطيب صالح ولم يكن أحد في مصر يعرفه على الإطلاق، التفت إليه العالم العربي. حدث الشيء نفسه عندما كتب لويس عوض عن صلاح عبدالصبور، ومحمد مندور وطه حسن عن نجيب محفوظ. أظن أن النقد كان يقيم علاقة صحية مع المبدع والقارئ في الوقت ذاته لأنه كان يعامل باعتباره نشاطاً مهماً تفرد له الصفحات. الآن اقتصرت الكتابة النقدية على زوايا صغيرة في بعض الصحف ولم يعد القارئ يثق في أحكام النقد التي أصبحت في أحيان كثيرة تصدر عن هوى. وللأسف بات المجتمع يتعامل مع الأدب إبداعاً ونقداً باعتباره نشاطاً هامشياً. لا يوجد جيل أدبي في مصر لم يتأثر بالسياسة، بشكل أو بآخر، كيف أثرت السياسة في كتابات بهاء طاهر؟ - أنا وكتاب جيلي اكتوينا بنيران السياسة ما بين السجن والطرد والنفي، وربما كان هذا في مصلحتنا، وأظن أنه على رغم كل ما عاناه هذا الجيل فإنه وإلى حد كبير كان يدفع ثمناً لا بد من دفعه لكي يكون ما يكتبه صادقاً، وتعد رواية"تلك الرائحة"لصنع الله ابراهيم أولى الروايات التي كتبت حول هذه التجربة. وعن نفسي أبديت معارضتي الشديدة لسياسات عبدالناصر في رواية"خالتي صفية والدير"، أما الآن وبعد أن شهدت ما حدث بعد رحيله ازداد يقيني بأنه كان على صواب. البعض يأخذ عليك أنك مقل في أعمالك؟ - أعترف أنني مقصر، لكن ظروف حياتي لم تكن تسمح لي بأكثر من ذلك، فقد عشت حياة مليئة بالمحن. في كثير من الأحيان ألوم نفسي واتهمها بالتقصير وبأنها لم تعمل كل ما كان ينبغي عمله، ولكنني عندما أفكر في ما كتبته وفي الظروف التي كتبت فيها أتأكد من أنه لم يكن يمكنني أن أعمل أكثر من ذلك. وهنا أود أن أشير إلى أن فترة عملي في الإذاعة التي امتدت لعشرين عاماً عطلت مسيرتي الإبداعية كثيراً. ماذا تعني الترجمة بالنسبة لك؟ - ترجمة الأدب العربي في حد ذاتها لا تفيد إلا إذا حصلت معجزة مثل الحصول على جائزة نوبل. قبل سنوات عدة التقيت هنا في القاهرة ناشراً ألمانياً في حضور جمال الغيطاني وآخرين. هذا الناشر أخبرنا أنه ترجم رواية"زقاق المدق"لنجيب محفوظ وأنها ظلت في المخازن لسنوات طويلة لم يبع منها سوى 700 نسخة فقط، وعندما حصل محفوظ على نوبل باعت الرواية 100 ألف نسخة خلال أربعة أشهر. في مجموعتك القصصية"لم أعرف أن الطواويس تطير"ثمة دعوة خفية للاستمتاع بالحياة حتى في أحلك اللحظات، فهل كنت تقصد ذلك؟ - لا أكتب استناداً إلى قرارات، لكن لو حدث هذا مصادفة فهي مصادفة جيدة أن تحمل المجموعة أملاً في الحياة، فأنا ممن يحتفون بالحياة ويحبونها، وأرى أن كل يوم يمر علينا هو هدية لا بد أن نتقبلها وأن نسعد بها ونعرف كيف نستغلها.