الرياض تُتوَّج بلقب عاصمة البيئة العربية    في قصف استهدف رفح في غزة.. إسرائيل ترجح قتل يحيى السنوار    «حاجي» ضالة المنتخب    بلدية الظهران تزور أكثر من 1000 موقع إنشائي وتوجيه 156 إنذار للمخالفين    الأمير فيصل بن بندر يطلع على إنجازات جمعية تحفيظ القرآن الكريم بالرياض    برقية شكر للشريف على تهنئته باليوم الوطني ال94    إنفاذًا لتوجيهات القيادة .. تمديد فترة تخفيض سداد غرامات المخالفات المرورية المتراكمة على مرتكبيها    نقلة نوعية لتسهيل المدفوعات الإلكترونية ل 80.000 مؤسسة في المملكة    تجمع الرياض الصحي الأول يطلق فعاليات توعوية بمناسبة "اليوم العالمي للإبصار"    «القدية» تعلن إطلاق «صُنّاع اللعب» لتطوير الكفاءات السعودية    الشؤون الإسلامية في جازان تنظم جولة دعوية في بيان مفهوم الأمن الفكري والحديث عن نعمة الأمن    افتتاح فرع "واس" في الخرج    متوسطة وثانوية مسلية تنفذ مبادرة "رايتك وردية " في شهر التوعية بسرطان الثدي    وزير الثقافة ونظيره الصيني يوقعان البرنامج التنفيذي لإقامة العام الثقافي السعودي الصيني 2025    السباق يشتعل.. وفانس يتجنب الاعتراف بخسارة ترمب في 2020    متوفاة دماغيًا تنقذ ثلاثة مرضى في الأحساء    الموارد البشرية تُضيف الاستقدام من دولة تنزانيا بسقف أعلى قدره 5700 ريال    أمير المدينة يدشن المشاريع التعليمية الجديدة    السعودية تترأس اجتماعات الدورة ال 35 لمجلس الوزراء العرب لشؤون البيئة    الذهب يقفز لمستوى قياسي مرتفع وسط رهانات خفض أسعار الفائدة    دوري روشن يعود بعد التوقف بقمة الشباب والنصر    اليوم..ظهور القمر العملاق في سماء السعودية    مغادرة الطائرة الإغاثية الخامسة ضمن الجسر الجوي السعودي الذي يسيّره مركز الملك سلمان للإغاثة لمساعدة الشعب اللبناني    مصر والسعودية تؤكدان رفع وتيرة التكامل الاستثماري في ختام زيارة ولي العهد للقاهرة    فرنسا تمنع شركات إسرائيلية من المشاركة في معرض تجاري    الذكاء الاصطناعي يقارع الخبرات الإنسانية    الأرصاد: رياح نشطة مثيرة للأتربة والغبار في 5 مناطق    مصر.. مفاجأة جديدة في حادثة حافلة طلاب «الجلالة»    36 ألف جولات رقابية على جوامع ومساجد منطقة المدينة المنورة    مهرجان مزاد الإبل بنجران.. مزاين بلا تتويج    ولي العهد يترأس وفد المملكة في القمة الخليجية - الأوروبية    مطالبة سعودية - مصرية بوقف إطلاق النار ورفع الحصار عن غزة    العثور على المغني ليام باين ميتا في بوينس أيرس    الاحتفاء بالتاريخ ورجالاته    14 ميدالية.. حصدها الأبطال في الأولمبياد الخليجي للعلوم    تمكين المرأة من التنميط إلى استعادة الكرامة    انحناء الظل    المملكة تُنظّم معرضاً دولياً للحرف التقليدية في 23 نوفمبر المقبل    السعودية إنسانية تتجلى    88 ألف لاعب ولاعبة في بطولات رابطة الهواة    نباح من على منابر الشيطان    حملة ميدانية تضبط 3,371 دراجة آلية مخالفة    الأنظمة التشريعية القوية في بلادنا    100 ألف ريال غرامة إنشاء مصنع للمستحضرات بلا ترخيص    الجلاجل يرأس وفد المملكة في اجتماعات منظمة الصحة العالمية    5 عناصر لتقليل الإصابة ب«ضعف الإدراك»    مفوض الدوري الأميركي يتفهم دعوات المطالبة بإلغاء كأس العالم للأندية    آل العبدالكريم يستقبلون المعزين في فقيدهم    ألعاب السعودية الثالثة .. نادي الرياض لذوي الإعاقة يحقق ذهبية كرة الهدف    المفتي العام يستعراض أعمال "صون الإسكانيّة"    ولي العهد يرأس وفد المملكة في القمة الخليجية - الأوروبية    أمير القصيم يرأس اجتماع "الإسكان".. ويستقبل مجلس الربيعية    نائب أمير تبوك يستقبل أعضاء جمعية الدعوة والإرشاد وتوعية الجاليا    أمين الطائف يقف على المشاريع التطويرية بالمويه وظلم    سعود بن بندر يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية لهيئة تطوير المنطقة الشرقية    أمير القصيم يرعى حفل تخريج 153 حافظاً بجمعية تحفيظ القران الكريم ببريدة    26 من الطيور المهددة بالانقراض تعتني بها محمية الملك سلمان    العيسى يدشن المؤتمر الدولي «الإيمان في عالم متغير» للتصدي لشبهات الإلحاد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حضر جنازته رموز عالم الجريمة من كل القارات . مقتل زعيم المافيا الروسية يكشف حجم نفوذه العابر للدول... وحلفاؤه ينتظرون
نشر في الحياة يوم 17 - 11 - 2009

في وسط موسكو، ليس بعيداً من الكرملين، اقترب مسلحان من سيارة كانت تهمّ بالانطلاق وفتحا النار من أسلحة أوتوماتيكية على راكبيها. أحدهما رجل أعمال بارز والثاني سائق.
لحظات قليلة، وانتهى المشهد الدموي وغاب القاتلان في سيارة كانت في انتظارهما انطلقت بسرعة قبل أن يتمكن الشهود من حفظ لوحة أرقامها.
انها احد الحوادث التي غدت عادية في العاصمة الروسية، بعدما تكررت كثيراً حتى باتت تمر في التغطيات الإعلامية مرور الكرام.
لكن الحادث الذي وقع في موسكو في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر الجاري كان له وقع مختلف. ليس فقط بسبب كون الضحية المستهدفة هو رجل الأعمال شابتاي فون كالمانوفيتش المعروف بثرائه الفاحش، ولا لأنه كان محور فضيحة تجسس قبل سنوات، بين الاتحاد السوفياتي وإسرائيل، ولكن لأنه كان من أقرب المقربين إلى"عراب"المافيا الروسية فيتشسلاف إيفانكوف الذي قضى إثر تعرضه لهجوم مماثل قبل شهور.
بدأت إذاً"حرب المافيات"كما بات يطلق عليها في روسيا. وتستعد الجهات الأمنية لمواجهة موجة اغتيالات وتصفيات، وربما معارك دموية كبيرة، تسعى هياكل الجريمة المنظمة المختلفة من خلالها إلى فرض سطوتها وإعادة تقسيم مصادر الدخل بينها بعد رحيل الزعيم الذي ظل مسيطراً على الجميع لسنوات طويلة.
المافيا الكلمة الأكثر إثارة للرعب
ثمة عبارة يرددها خبراء في شؤون الجريمة المنظمة في روسيا مفادها أن"المافيا في إيطاليا لا تعدو كونها ابنة المافيا الروسية"، في إشارة إلى أن أكثر تشكيلات الجريمة المنظمة قسوة وسطوة هي تلك التي تأسست في بدايات القرن الماضي إما داخل روسيا القيصرية أو على يد مهاجرين روس في أوروبا. وظلت الهياكل المعروفة باسم"مافيا"ناشطة حتى في أحلك الأوقات في العهد السوفياتي عندما كانت البلاد تدار بقبضة من حديد.
والكلمة ذاتها"مافيا"ظلت دائماً محاطة بالرهبة والغموض. وهي ارتبطت دائماً بالصراعات الدموية، والسيطرة على مفاتيح قطاعات اقتصادية مهمة، وبالسياسة أيضاً. فكثير من رموز المافيا في روسيا وخارجها ارتبطت أسماؤهم بالحياة السياسية في شكل أو في آخر. لكن الأكثر إثارة ارتباطهم بعمل الأجهزة الخاصة. كالمانوفيتش مثلاً، كان الرجل الذي يحمل ثلاث جنسيات، هي: الروسية والإسرائيلية والليتوانية لسنوات طويلة، وكان عميلاً لجهاز"كي جي بي"السوفياتي، قبل أن تكتشف تل أبيب أمره، وتحاكمه، ليسجن تسع سنوات، غادر بعدها في العام 1993 إلى"وطنه"الأول روسيا وغدا واحداً من رموز الصناعة والتجارة... والجريمة المنظمة.
تقول بعض الروايات إن تاريخ كلمة"مافيا"يعود إلى القرن الثالث عشر مع الغزو الفرنسي لأراضي صقلية عام 1282، حيث تكونت في هذه الجزيرة منظمة سرية لمكافحة الغزاة الفرنسيين كان شعارها: Morte Alla Francia Italia Anelia ويعني:"موت الفرنسيين هو صرخة إيطاليا"، فجاءت كلمة مافيا MAFIA من أول حرف من كلمات الشعار.
وهناك وجهة نظر أخرى، ويذكر بعض زعماء المافيا وعلى رأسهم جو بونانو أن ظهور أولى تشكيلات المافيا كان تتويجاً للتمرد والعصيان الذي ظهر في صقلية عقب قيام أحد الغزاة الفرنسيين بخطف فتاة في ليلة زفافها، يوم اثنين من عام 1282، ما أشعل نار الانتقام في صدور الإيطاليين، وسرعان ما امتد لهيبها من مدينة إلى أخرى، فقتلوا عدداً كبيراً من الفرنسيين في ذلك الوقت انتقاماً لشرفهم المذبوح في هذا اليوم المقدس لديهم، وكان شعارهم في ذلك الوقت هو الصرخة الهستيرية التي صارت ترددها أم الفتاة وهي تجري وتبكي في الشوارع كالمجنونة.
خلال حكم الفاشية، هرب كثير من أعضاء المافيا إلى الولايات المتحدة خشية الاضطهاد والسجن، من بينهم جوزيف بونانو، الشهير ب"جو باناناز"والذي جاء ليسيطر على فرع المافيا في الولايات المتحدة الأميركية.
أما في روسيا، فكان أول ظهور لكلمة"مافيا"في ثلاثينات القرن الماضي، في عز حملات الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين القوية. ويروي خبراء روس أن الظروف الاجتماعية والسياسية كانت مواتية لازدهار نشاط تشكيلات الجريمة المنظمة التي قامت بتنشيط السوق السوداء، لكن بعضهم يؤكد أن"المافيا"الروسية تعود بجذورها إلى فترة طويلة جداً قبل ذلك.
عموماً، تقترب أرباح التشكيلات العالمية المعروفة باسم"المافيا"حالياً، من موازنات دول كبيرة. لكن الخبراء في شؤون الجريمة المنظمة يرون أن بنية هذه التشكيلات ونشاطها قد تأثرا كثيراً بالتغيرات التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، وأنها اتخذت شكلاً في غاية الدقة والتعقيد بسبب تعقيد النشاط الاقتصادي في العالم في شكل عام. وتستخدم كلمة"مافيا"في المرحلة الحالية للتدليل على أقصى درجات الإجرام تنظيماً ووحشية مثل المافيا الروسية والمافيا اليابانية: الياكوزا.
"الياباني"... نهاية الرجل الأسطورة
في يوم مشمس من أيام تشرين الأول أكتوبر اتخذت الأجهزة الأمنية الروسية احتياطات غير مسبوقة، بالقرب من مقبرة فاغانكوف وسط العاصمة الروسية. وكان الحضور الأمني ظاهراً وقوياً لدرجة لا تخفى حتى على المواطنين البسطاء الذين حاولوا زيارة بعض موتاهم في هذه المقبرة، فصدّهم رجال الأمن بقوة ونهوهم عن الاقتراب من المنطقة.
كانت موسكو تستعد في تلك اللحظة لدفن"الياباني"في احدى المقابر التي تضم رفات عدد كبير من عظماء روسيا، بينهم سياسيون وأدباء وفنانون مشهورون.
"الياباني"أو"يوبونتشيك"كما تُلفظ بالروسية، هو ذاته العرّاب فيتشيسلاف إيفانكوف الذي أوصى بأن يدفن إلى جانب والدته في هذه المقبرة بالذات. والتدابير الأمنية الصارمة سببها واضح وبسيط، فالمناسبة جمعت زعماء"المافيا"ليس داخل روسيا وحدها، إذ تجمّع كثر من"العرّابين"والرموز المعروفة في عالم الجريمة المنظمة من بلدان العالم ليودّعوا واحداً من أبرز زعماء"المافيا"في العالم.
وأعلنت الأجهزة الأمنية في لهجة تحذيرية مباشرة أنها"لن تتردد في اعتقال مطلوبين داخلياً وخارجياً فور ظهورهم في مكان الدفن"، لكن الحقيقة أن أحداً لم يعتقل على رغم تأكيد مقربين من يوبونتشيك أن كثيرين جاؤوا لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمانه ووداعه في رحلته الأخيرة.
الأكيد أن موسكو لم تكن ترغب في الدخول في مواجهة مبكرة مع أركان الجريمة المنظمة عبر اعتقال بعض المشاركين في الجنازة، فمواجهة من هذا النوع يمكن أن تنتهي على غير ما تشتهي الأجهزة الأمنية، وهو أمر لوّح به بعض أنصار"العرّاب"عندما أشاروا إلى أن"أصدقاء الراحل سيحضرون الدفن مهما كانت الظروف"في تحد مباشر للسلطات.
وهكذا، فإن مراسم الجنازة والدفن التي نقلت بعضها عدسات المحطات التلفزيونية وحظيت بتغطية لا تراها موسكو إلا عند دفن عظماء، مرت بسلام ومن دون مواجهات أو منغصات. وكان يمكن المراقب أن يرى في الجنازة خليطاً مثيراً من رجال مال وأعمال وجريمة منظمة وأجهزة أمنية وحتى... سياسيين في أحزاب عدة. وثمة من يقول إن السلطات الروسية اتخذت قرارها بعدم التدخل بهدف عدم توحيد فصائل الجريمة المنظمة ضدها و"الأفضل أن ننتظر قليلاً، فالمعركة بينهم ستبدأ قريباً جداً".
بهذا المنطق تعاملت السلطات الأمنية مع حادث مقتل أكثر الشخصيات في تاريخ الجريمة المنظمة في البلاد سطوة وتأثيراً، وهذا أمر دفع البعض إلى التلميح بأن الأجهزة المختصة بمكافحة الجريمة المنظمة ربما تكون ضالعة في قتل الرجل بهدف التسبب بحرب طاحنة بين التشكيلات"المافيوية"لترهقها وتضعف نفوذها، ما يسهّل على الدولة الدخول على الخط وتحجيم نشاطها وربما القضاء على من يتبقى من رموزها.
من هو"الياباني"؟
جرت العادة في أوساط الجريمة المنظمة أن يطلق"العرّاب"على نفسه صفة أو تسمية يتم استخدامها بدلاً من اسمه، و"الياباني"اختار هذه الصفة ليس فقط لأن عينيه الضيقتين توحيان بأصول آسيوية ينفي مقربون منه أن يكون تحدر منها، فالأهم من عينيه أن تسمية"يوبونتشيك"كانت تطلق على زعيم لجماعة إجرامية روعت روسيا في مطلع القرن العشرين، وكانت تعد أبرز تشكيلات"المافيا"الروسية في بدايتها، و"الياباني"الأول ظل على مدار عقود مضرب الأمثال بالنسبة إلى هياكل الجريمة المنظمة، حتى ظهر"خليفته"الذي قاد لسنوات طويلة"المافيا"الروسية في حلتها الجديدة. أكدت السلطات الروسية في منتصف تشرين الأول الماضي رسمياً نبأ وفاة الشخص الذي وصفه بعض الروس بأنه"الزعيم الأكثر تأثيراً ونفوذاً".
وتوفي فياتشيسلاف إيفانكوف 69 عاماً بعدما خضع لعمليات جراحية عدة وفشلت كل محاولات الأطباء لإنقاذ حياته إثر تعرضه لإطلاق نار مساء يوم 28 تموز يوليو أثناء مغادرته مطعماً في موسكو كان يتردد عليه. وتبدو المعطيات المتوافرة عن بداية انضمام الرجل إلى هياكل الجريمة المنظمة قليلة للغاية، لكن المعروف أن"الياباني"التحق بصفوف"المافيا"في ستينات القرن الماضي.
وكان إيفانكوف قابعاً في السجن عندما انهار الحكم السوفياتي في روسيا في العام 1991. وأفرج عنه بموجب قرار عفو أصدرته السلطات الجديدة. ولم يلبث"العرّاب"أن غادر روسيا في الفترة بين العامين 1992 و1993 متوجهاً إلى الولايات المتحدة الأميركية.
ويُعتقد أن إيفانكوف انخرط في نشاط"المافيا"الروسية في القارة الأميركية، ثم تمكن من شغل موقع بارز فيها، أهّله لزعامتها في فترة قياسية، ومعلوم أن هياكل الجريمة المنظمة الروسية الناشطة في الولايات المتحدة تضم أصلاً مهاجرين من الاتحاد السوفياتي. بدأ إيفانكوف يقع تحت دائرة اهتمام المباحث الفيديرالية الأميركية بعد فترة قصيرة جداً من انتقاله إلى الولايات المتحدة، ما يشير إلى أن نشاطه كان واسعاً جداً.
وتمكنت الأجهزة الأميركية من اعتقاله وترحيله عام 2004 بطلب من النيابة العامة الروسية التي اتهمته بقتل شخصين من الرعايا الأتراك في مطعم"فيدان"الموسكوفي عام 1992. ولكن، كما يجري عادة في الحوادث المماثلة، ما إن ظهر"الياباني"في قاعة المحكمة، حتى تراجع الشهود عن أقوالهم وأكدوا أن"هذا الرجل ليس هو من أطلق النار". ولم تستطع محكمة موسكو إدانته، ما اضطرها إلى إطلاق سراحه.
وكان يمكن هذه المحاكمة أن تمر بهدوء، لكن"العرّاب"المعروف بدمويته أدرك أن الحادث يدل إلى تربص البعض به، ويؤكد بعض المقربين منه أن معطيات توافرت لديه في حينه حول تورط بعض زعماء تشكيلات المافيا في محاولة زجه في السجن سنوات طويلة للتخلص منه بعدما شعروا أنه منافس قوي.
كانت هذه بداية"حرب المافيات"كما وصفتها مصادر أمنية، إذ شهدت المدن الروسية بعد الحادث عمليات اغتيال وتصفية حسابات وتفجيرات عدة، لم يلبث"الياباني"أن غدا بنتيجتها الزعيم الأوحد، وتربع على رأس هرم"المافيا"، حتى موته.
اللافت أن مؤشرات عدة ظهرت بعد ذلك وعززت فرضية ضلوع الأجهزة الأمنية في"تصفية العراب". فالحرب بين تشكيلات الجريمة المنظمة لم تلبث أن أطلت برأسها بقوة فور الإعلان عن استهدافه. إذ لم تكد تمر أيام، على إعلان تعرض"الياباني"لمحاولة اغتيال قبل تأكيد موته حتى ظهرت تسريبات نقلت بعضاً منها صحيفة"كومسومولسكايا برافدا"حول إعداد لائحة بأسماء 35 من زعماء"المافيا الجورجية"لقتلهم انتقاماً ل"الزعيم".
ومعلوم أن"المافيا"الجورجية التي تعد من أقوى تشكيلات الجريمة المنظمة في روسيا تعتبر من التشكيلات الخارجة عن سطوة"الزعيم"وهو خاض مع رموزها حرباً طاحنة في تسعينات القرن الماضي وتمكن من تقليص نفوذها في مراحل عدة.
خريطة الجريمة المنظمة في العاصمة الروسية
مشهد يثير الاستغراب للوهلة الأولى. خريطة كبيرة جداً للعاصمة الروسية، تكاد تغطي ثلثي حائط خلف مكتب مسؤول في جهاز مكافحة الجريمة المنظمة. وتظهر عليها خطوط تقسم موسكو إلى مناطق عدة. هذه ليست خريطة التقسيم الإداري كما يخيل لزائر المكتب للوهلة الأولى، بل... خريطة نشاط المافيا الروسية في العاصمة!
المسؤول فضّل عدم الكشف عن هويته واشترط ذلك قبل الإدلاء بأي تصريح. وعندما سألته"الحياة": لكنكم تعرفون مناطق توزعهم ونشاطهم وأسماء زعمائهم، فماذا يمنعكم من اعتقالهم وتوجيه ضربة قاضية لنشاطهم؟ جاء الجواب: هذا أمر صعب للغاية. لم يبد الجواب مقنعاً. ولم يشأ المسؤول أن يوضحه.
في نهاية العهد السوفياتي كان مجرد ذكر"عصابة سونتسوفا"كفيلاً بأن يبعث على الرعب. ولا تمتلك الجهات المختصة معطيات محددة تشير إلى تاريخ تأسيس المجموعة، لكن الأكيد أن"الياباني"أسسها"إما في الفترة الأخيرة من سجنه قبل الإفراج عنه، في نهاية العهد السوفياتي أو بعد خروجه من السجن مباشرة". و سونتسوفا"هو اسم حي يقع في جنوب العاصمة الروسية، لكن المفارقة أن"العصابة"التي حملت إسم هذا الحي غدت أشهر من الحي ذاته بكثير.
تعتبر"مافيا سونتسوفا"واحدة من أكبر تشكيلات الجريمة المنظمة في موسكو. وهي تسيطر على أكثر من عشر مناطق في العاصمة، وتفرض سيطرتها على عدد كبير جداً من الشركات والمؤسسات المهمة في المدينة. يبلغ عدد أفرادها الأساسيين بحسب تقدير الأجهزة الأمنية ما يقارب الألف عنصر مدربين جيداً على استخدام الأسلحة بأنواعها المختلفة. والعصابة متخصصة في مجال العقارات، لكن نشاطها الحقيقي يمتد إلى قطاعات كثيرة أخرى، وهي تفرض"حمايتها"على آلاف المؤسسات والشركات التي تعمل ضمن مناطق"نفوذها"وهي مرغمة على"دفع المعلوم"شهرياً، وهي حصة من عائداتها تذهب الى المافيا، من أجل"اتقاء شرها"وأيضاً الاستعانة بها في حال تعرضت الشركة ل"تطاول"من أي طرف بما في ذلك الدولة.
أيضاً تنشط"سونتسوفا"في مجال عمليات غسل الأموال المجموعة من تجارة المخدرات، عبر عدد كبير جداً من"المشروعات النظيفة"التي تديرها. ويقع قطاعا الخدمات الفندقية والتنظيفات العامة في دائرة اهتمام العصابة، بما في ذلك العائدات من جمع القمامة وهي خرافية كما يؤكد عاملون في الأجهزة المختصة.
وغني عن القول إن الحديث يدور عن المجموعة التي أسسها"الياباني"وتولى قيادتها سنوات طويلة، ويبدو أن"سونتسوفا"حالياً، تبحث عن خليفة ل"العرّاب"الراحل يكون قادراً على الإمساك بزمام الأمور ليس على صعيد العصابة وحدها بل وأن يكون قادراً على فرض سيطرته على كل التشكيلات الأخرى بالدرجة ذاتها التي تمكن"العراب"من فرضها حتى حانت ساعته الأخيرة.
أحد حلفاء"العراب"الأساسيين يتزعم تشكيلاً آخر من عصابات المافيا الروسية تقع دائرة سيطرته في وسط موسكو.
إنه"الجد"كما بات معروفاً في أوساط الجريمة المنظمة. ولمن يعرف أكثر فهو"الجد حسن"الذي يتزعم جناحاً ضخماً جداً من"المافيا"الجورجية في موسكو.
وقبل الدخول في التفاصيل، لا بد من توضيح المقصود بالانتماء القومي عند الحديث عن توزيع هياكل الجريمة المنظمة. ففي موسكو تنشط مجموعات جريمة منظمة تقوم على أساس قومي.
وفي حين أن"سونتسوفا"هي أقوى تشكيلات المافيا الروسية، فإن المجموعات القومية الأخرى الكبيرة العدد والتي تمسك بمفاصل مهمة في الحياة الاقتصادية للمدينة والبلاد عموماً لها وجودها الواسع والمتجذر. فهنا تبرز"المافيا الأذربيجانية"و"المافيا الجورجية"وغيرهما الكثير وسط موسكو يقع تحت"حماية"العصابة الجورجية التي يقودها"الجد حسن"، ويبلغ تعداد أفرادها حوالى 3 آلاف شخص، يقودهم"العراب"أصلان أوسويان الذي حصل في فترة معينة على لقبه المعروف حالياً"حسن"، أما"غرفة عملياته"فتقع في مدينة سوتشي على البحر الأسود في مكان لا يبعد كثيراً من وطنه الأصلي. تتخصص عصابة"الجد حسن"في مجالات النفط والفنادق والأسواق وصالات القمار. وهي أيضاً مهتمة بالأعمال المصرفية والتجارة في المعادن وقطاع الأعمال والسياحة وتجارة السيارات وكذلك غسيل الأموال.
وكان"الجد حسن"حليفاً أساسياً ل"الياباني"طوال السنوات الماضية، إذ لم تسجل الأجهزة الأمنية صراعاً بين الطرفين. وسبب ذلك، إضافة إلى تقاسم المهمات و"مناطق السيطرة"أن"الجد حسن"يخوض صراعاً مريراً منذ سنوات مع العدو اللدود ل"الياباني"وهو جورجي أيضاً يتزعم تشكيلاً"مافيوياً"جورجياً آخر، يطلق عليه اسم"مافيا تبليسي".
ويبدو أن التنافس بين الزعيمين الجورجيين لعب دوراً مهماً في التقارب بين"العرابين"الأساسيين"الياباني"و"الجد حسن". ويتهم كثيرون حالياً زعيم"تبليسي"بالمساهمة في تصفية"الياباني".
وتسيطر تبليسي على المنطقة الوسطى، في موسكو. ويقودها الجورجي تاريل أونياني المعروف ب"تارو". وتضم هذه العصابة أكثر من 3 آلاف شخص. وهو ملاحق حالياً من الشرطة الإسبانية لجرائم عدة ارتكبها هناك. وعلى رغم ذلك، فإن المقر الأساس لعصابته يقع في إسبانيا.
القمار والمصارف
وتعد نوادي القمار، القطاع الأساس الذي يهتم به"تارو"، لكنّ له أذرعاً ممتدة أيضاً إلى القطاع المصرفي، ومجالات العقارات والمخدرات والأسلحة وغسيل الأموال. وشهدت فترة التسعينات من القرن الماضي صراعاً مريراً بين عصابتي"سونتسوفا"و"تبليسي"كانت في كثير من الحالات دموية جداً، إذ عثرت الشرطة بعدها على جثث كثيرين ينتمون إلى الفريقين.
وفي جنوب موسكو تسيطر"المافيا السلافية"وهي تضم كما يبدو من اسمها عناصر ينتمون إلى القومية الروسية السلافية. لكن الطريف أن قيادة هذه المجموعة تتمركز في الولايات المتحدة. وهي متخصصة في تجارة السيارات المسروقة وتهريب البضائع. وأيضاً يدخل ضمن دائرة اهتمامها القطاع المصرفي، ونوادي القمار، وتكنولوجيا المعلومات. وتشير معطيات الأجهزة الأمنية إلى وجود تعاون وثيق و"تداخل في العمل"بين أعضاء هذه العصابة ومجموعة"الجد حسن".
أما في المنطقة الشمالية من العاصمة الروسية، وتحديداً منطقة إسماعيلوفا التي كانت حتى زمن قريب تعد واحدة من أنشط مناطق العمل التجاري"الأسود"في روسيا، فتفرض"مافيا"تطلق على نفسها تسمية"إسماعيلوفا"سيطرتها ويتزعمها"عراب"قضى نصف عمره في السجن وهو معروف في عالم الجريمة باسم"أكسين"المشتق من اسمه الأصلي أكسينوف. يبلغ عدد عناصره أكثر من ألف شخص. ويتخذ من موسكو مركزاً لقيادة عمليات مجموعته حتى لو كان في السجن. وبحسب المعطيات المتوافرة، فهو كان دائماً حريصاً على إظهار ولائه ل"يابونتشيك"وحليفه الأساس"الجد حسن".
العصابات الاذربيجانية
أما العصابات الأذربيجانية فهي تفرض سيطرتها على أسواق الخضر في موسكو، ويعمل زعماؤها على فرض معايير صارمة لا يخرج عنها أحد، وهي تضمن بقاء السيطرة على هذه الأسواق في أيدي المجموعات الأذرية، ولا يوجد لدى المجموعات الأذرية زعيم واحد ينظم نشاطها بل تعتمد على عدد من الزعماء يحرصون على تنسيق نشاطاتهم لقطع الطريق أمام التشكيلات الأخرى على تهديد مصالحهم.
وتعد التشكيلات السابقة كلها"تقليدية"بالنسبة إلى أجهزة الأمن الروسية، لكن الجديد هو ظهور"مافيا صينية"في السنوات الأخيرة.
وبخلاف المجموعات الأخرى، فإن الصينيين يتميزون بمرونة كبيرة وقدرة على التخفي، إذا لا يظهر اسم زعيم لها، بل تقوم"المافيا الصينية"بتبديل الشخصيات الأساسية التي تقودها في شكل مستمر.
وتنشط هذه المافيا في تهريب السلع الاستهلاكية، وبيع المعدّات والأدوية. وهي تسيطر على قسم كبير من الأسواق التي تدر بلايين الدولارات سنوياً.
وإضافة إلى الهياكل الكبرى المعروفة، ثمة مجموعات صغيرة بدأت خلال السنوات الأخيرة تزيد من نشاطها وتتخذ شكلاً أكثر تنظيماً وتنسيقاً، بينها مجموعة"غوليانوفسكايا"التي يتزعمها"عراب"يطلق على نفسه اسم"باشا". وهذه العصابات متخصصة في السرقة بما في ذلك السرقة البسيطة القائمة على خطف الحقائب والهواتف المحمولة في الأماكن العامة، وتنشط أيضاً في مجال الأعمال الصغيرة، أي السيطرة على المشروعات الصغيرة. وهذه المجموعة تفرض نفوذها في عدد من الأسواق والشركات التجارية.
ومن الطبيعي أن الحروب بين أجنحة المافيا المختلفة تستعر عادة عندما يسعى أحدها إلى"التطاول"على"منطقة نفوذ"مجموعة أخرى.
واللافت أنه بعد مقتل"الياباني"ترددت معلومات تشير إلى أنه ذهب ضحية محاولة إصلاح بين"الجد حسن"الذي يعد صديقاً مقرباً له و"تارو"خصمه اللدود. وبحسب معطيات تسربت إلى الصحافة، فإن"تارو"بدأ في الفترة الأخيرة المطالبة ب"حصة"اعتبر أنها سلبت منه في مناطق نفوذه، والحديث يدور على نواد للقمار، وبعض مؤسسات تجارة الكومبيوترات، وصناعات النفط. وأشار خبير في شؤون الجريمة المنظمة إلى أن"الياباني"الذي حافظ على زعامته خلال فترة طويلة جداً لأنه"لم يهدد مصالح أي طرف"، سعى إلى التدخل كوسيط، لحل مشكلات بين الأجنحة المتصارعة، لكن الأسوأ من ذلك أنه"تدخل في مجالات خطرة جداً، فهو بدأ يسعى إلى السيطرة على بعض وسائل الإعلام وتكنولوجيات الكومبيوتر، كما تعاون مع الحكومة في شكل أساء الى بعض زملائه، ما أثار حفيظة كثيرين عليه في الفترة الأخيرة". اللافت أن العبارة الأخيرة نقلتها صحيفة روسية مرموقة عن"أحد رموز الجريمة المنظمة في البلاد"!
ومع رحيل"العرّاب"وبدء مسلسل التصفيات، يتوقع مراقبون أن تستعر الحرب لتطاول كل أجنحة الجريمة المنظمة في البلاد. وبحسب معطيات الأجهزة المختصة ينشط في روسيا حالياً"400 زعيم لتشكيلات المافيا المختلفة"غالبيتهم يحملون جنسيات بلدان أخرى تقع على رأسها جورجيا التي تعد المصدر الأساس للجريمة المنظمة في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق.
"مافيا" تواكب العصر
لم يعد إطلاق النار وسيلة للتصفية الجسدية لدى مافيا القرن ال 21، اذ اصبحت البراعة في تنفيذ بعض العمليات الاقتصادية، والاحتيال والرشوة وشراء المعلومات عن المنافسين لابتزازهم، والحصول على المعلومات في الوقت المناسب من الشرطة وغيرها... في المقام الأول.
كما يقوم رجال المافيا المعاصرون باستثمار أموالهم في أعمال تجارية، وفي تمويل النشاطات الدينية والأعمال الخيرية، وفتح شركات إنتاجية وفنية، ويقومون بدفع الضرائب المالية، كما يطمحون لاحتلال مراكز في السلطة.
ومع الإعلان عن مشاريع بناء المدينة الأولمبية لاستضافة الألعاب الشتوية في سوتشي في العام 2014، فُتح منفذ اقتصادي جديد، ومجال لكسب أموال طائلة. وتتنافس مجموعات الجريمة المنظمة كما يؤكد خبراء حالياً، على اقتحام هذه المشروعات.
كما أن الأزمة الاقتصادية العالمية امتدت وطاولت حتى عالم الجريمة. خصوصاً أن الأعمال البسيطة والمتوسطة تعاني من الخسائر، وبالتالي أثرت على الفور في دخل مجموعات الحماية غير المشروعة و"العصابات"المتخصصة في حماية الأسواق. وكمثال على التطورات التي تشهدها"المافيا"حالياً، فإن أسواق الخضر في العاصمة الروسية، التي كانت حكراً على العصابات الأذربيجانية دائماً، بدأت تشهد أخيراً مساعي لإزاحتها منها يقوم بها مساعد زعيم مجموعة كوتايسي تاريل، الشاب أونياني شاركو.
ويعتقد كثيرون أن التدهور الاقتصادي عموماً سيزيد من ضراوة الحرب بين أجنحة"المافيا"ويرفع درجة التنافس بينها.
... "العرّاب" الجديد!
أعلن مكتب المباحث الفيديرالي أخيراً، أن رجل الأعمال سيميون موغيليفيتش يستطيع التأثير في الاقتصاد العالمي لمجرد أن يجري اتصالاً هاتفياً. ذلك أن هذا الرجل يملك نفوذاً هائلاً على تنظيمات الجريمة الاقتصادية. وأوضح بيتر كوفنهوفن، مسؤول المكتب، أن لدى موغيليفيتش القدرة على الاتصال بأي شبكة إجرامية منظمة في العالم وهو"يشكل لذلك خطراً فادحاً". وأشار مسؤول آخر هو مايكل ديكسون إلى أن ل?"موغيليفيتش"سطوته في بلدان معينة. وأضاف أن موغيليفيتش يستعين بفريق مستشارين على درجة عالية من الكفاءة وأن هؤلاء يساعدونه في الإفلات من العدالة.
وهناك معلومات تفيد بأن سيميون موغيليفيتش بدأ بمزاولة نشاط مشبوه في روسيا في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي. ويُعتقد أنه أصبح بعد تفكك اتحاد الجمهوريات السوفياتية زعيماً مرموقاً في أوساط الجريمة في الساحة السوفياتية سابقاً، وهو حالياً، مطلوب لدى السلطات الأميركية والروسية والأوكرانية والبريطانية.واعتقلته السلطات الروسية عام 2008 بتهمة الوقوف وراء تهرب شركة"اربات بريستيج"من دفع الضرائب. وحُبس موغيليفيتش على ذمة التحقيق في ذلك الوقت. وأفرج عنه في تموز يوليو 2009 بعدما تعهد بأنه لن يغادر روسيا إلى حين استكمال التحقيق.
وكان سيميون موغيليفيتش أو سيرغي شنايدر بحسب الاسم الذي يحمله في جواز سفره الإسرائيلي يتردد على إسرائيل في الأعوام القليلة الماضية.
وفي ما يخص مكتب المباحث الفيديرالي الأميركي، فقد استدل من تصريحات موظفيه أن السلطات الأميركية تنتظر ظهور موغيليفيتش في أميركا.
نشر في العدد: 17028 ت.م: 2009-11-17 ص: 27 ط: الرياض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.