قبل عام تقريباً، قررت لأسباب، بعضها واقعي والآخر ربما غير مفهوم، أو حتى غير واضح بالنسبة إلي، الهجرة من جديد. قبل ثلاثين عاماً رمتني الأقدار شاباً لاجئاً في ألمانيا، وقبل عام هاجرت من جديد شائب الشعر إلى لبنان. الأسباب الواقعية لا تعنيني، فأنا قلما أفكّر بها، لكن الذي أفكّر فيه دائماً هو تلك الأسباب التي تجعلك تنجذب إلى هذا البلد أو ذاك! أحياناً تمزح مع الأصدقاء: ثلاثون عاماً في ألمانيا تكفي! أنت نفسك تتعجب وتنتبه إلى هذا الرقم: ثلاثون عاماً! هل فعلاً أمضيت هذه الأعوام وكأنك أتيت البلد البارحة؟ ألم تكبر؟ أبناؤك يدرجون حولك، بعضهم أضحى أطول قامة منك، وأنت ما زلت ذلك الصبي الذي كنته، وهو يتأبط كتباً، ساهم الوجه، يقرأ ويقرأ، يريد أن يسير في البلدان وأن يكتشف عوالم أخرى، وقد سار فعلاً، لاحت له البلدان والقارات ولكنه ما زال يحتفظ في داخله بذلك الصبي الخجول، بآلامه التي تشبه آلام اليتيم، أو أنها فعلاً آلام اليتيم وإن بطريقة أخرى. بعضهم يقول له: لماذا عُدت؟ وهو يتعجب، فهو لم يعد، انه يهاجر! وحتى لو يعاد فهو لا يمكنه أن يعود إلى العراق مثلاً، حيث قدِم أصلاً، لم يعد له مكان بذاته ليعود إليه، فهو قد أصبح وكأنه ابن مدن ومتاهات، نفسه تحنّ إلى مدن كثيرة، وقد توزعت روحه تلك المدن! حتى القاهرة التي تصوّر أنه لا يحبها، وكلما ذهب اليها، ذهب إليها مرغماً، وجد نفسه يسيح فيها، يشتري سندويشه من"فلفلة"ويجلس في"زهرة البستان"ثم يقف، ليس بعيداً من"مكتبة مدبولي"هناك يدخل، يلقي التحية، ثم يأخذ التاكسي، في الصباح خصوصاً، إلى"كوبري قصر النيل"، هناك أمام"كازينو قصر النيل"وعند شجرة المطاط بالضبط، حيث صديقه"خالد"، بائع الجرائد، وسميّه أيضاً، يجلس عنده على دكة الجسر، أحياناً على كرسي، يتناول معه ما توافر من ساندويشات ويشرب الشاي المزبوط، يتحدثان عن العالم الذي لا يرحم!"خالد"هذا، القادم من الصعيد، ربما كان هو المفتاح الصحيح لكي يلج إلى مصر، وبالتالي إلى القاهرة، يرى بواسطته حياته التي هي رواية، مصر من جديد، يتذوق أطعمتها من جديد ويسير في دروب الفقراء والأغنياء. هناك، من خلال بائع الجرائد هذا، عرف أنه قد وجد الروح الشقيقة. عدتَ إلى ألمانيا، لتجد أن الحياة ذاتها لم تتغيّر كثيراً، لكنك نفسك تغيّرت قليلاً ربما! هل هذا هو أثر الإقامة البيروتية؟ الألماني لا يهتم بشكله الخارجي بالطريقة المبالغ بها في بيروت، ولا يهتم بالمظهر على حساب واقع الحال. لكنك تتفاجأ، بالمساحات، بالمناطق الخضراء، بالهدوء نوعاً ما، بذلك النظام الذي يجعلك تسير بهدوء وتنتظر دورك من دون أن تفكر في أحد ما سيأتي ليدخل قبلك. تفتقد الجمال اللبناني، الحقيقي والمصطنع، صدمة ما تصيبك! لكنه الهدوء وقد عاد بعضه، أو بكامله، الهدوء الذي افتقدته في بيروت! فكّرت ربما، بزيارة ألمانيا في الصيف، في شهر آب أغسطس بالذات، هو أفضل حل! حيث يسافر الكثير في عطلهم، وبهذا لست مجبراً على لقاء جميع الناس! تكلّم نفسك وأنت تقرأ الجريدة، تجد عذراً للجريدة التي بدت لك فارغة، فهذا هو الصيف في ألمانيا. في شقتك القديمة، شقتك الألمانية، حيث راكمت في غرفة منها بعض البقايا وجدت شريطاً قديماً، افتقدته كثيراً، تصوّرت أنك قد أضعته، وكم كنتَ سعيداً إذ وجدته هنا، إشارة إلى عراقك القديم، الأقدم من ولادتك، انه شريط لمسعود العمارتلي، تلك المغنية المسترجلة، يأتيك صوتها عابراً السنوات البعيدة، وكأنه يأتي عبر بوابات التاريخ المغبّر! حاملاً آلام الحب والفراق والجوع والتيه في تلك البراري التي تعرفها حقاً، لكنها في ذلك الوقت كانت أكثر رثاثة، أكثر تهدّماً وأكثر إثارة منها الآن، مغنية مسترجلة قَدِمت من مدينة"العمارة"الجنوبية إلى بغداد، لتعتلي المسرح وتغني، ومن أجل مزيد من التخفّي تزوجت امرأتين، لكن حياتها ستنتهي على يد الزوجة الثانية مسمومة، لأسباب لا نعرفها! قبل أعوام، وفي معرض شامل عن المستشرق، وسليل العائلة المصرفية من كولونيا اوبنهايم، سمعت تسجيلات نادرة احتفظ بها هذا الديبلوماسي الغريب الأطوار، وهي أغنيات من ذلك الجنوبالعراقي حيث تصلك الهمسة واللوعة وكأنها تخرج من بالوعة عميقة، غرغرتها غير واضحة، لكنها تخترقك بثقة وأُلفة. والألم، هل تكتب عن الألم؟ شيء شبيه به، ربما هو خلطة من القشعريرة وأشياء أخرى، يخترقك لتبقى مشدوداً، وربما مسحوباً بحبل خفي إلى أعماق تلك البالوعة، إلى الماضي، الماضي الذي عرفته، والماضي الذي عرفه الأكبر سناً منك. * في الطريق من كولونيا إلى جنوبألمانيا، قرب مدينة مارباخ، مدينة شيلر، هناك، فرايبرغ على النكار، و"النكار"هو النهر الذي عاش عنده، طويلاً في البرج، هولدرلين، هذا البرج زرته سابقاً قبل أعوام كثيرة، تصورت عنده، ولكن لم أكتب شيئاً، أردت ذلك ولكنني لم أستطع أبداً. أحياناً نكتفي بالذكرى. بالإيحاء الذي يبدو لنا موجوداً. كنا هناك، لكننا نتهيّب الكتابة أو المقارنة. تقرأ في النهار عن ريلكه وله، وفي المنام تلاحقك الصواعق والبيوت المتهدمة، الكارثة بأفضل ما تكون، ثم تتنفس الصعداء حينما تستيقظ وتجد قنينة المياه قربك فتشرب وكأنك عائد من رحلة الشقاء. تبدو المدن هنا، وكأنها غير موجودة إلا في الأحلام، نظيفة، واسعة الشوارع، بيوتها جميلة وزواياها أجمل، حيث تنتشر المقاهي وتباعد وجود المكتبات والتي تتعجب من كونها، أحياناً أكثر تنوعاً من مكتبات المدن الكبيرة. تسيرُ في شوارعها، تدخل في مكتباتها، وتحلم بالحياة من جديد، تريد أن تبدأ مرة ثانية، أن تجلس إلى طاولة وتكتب الحياة... تفكّر في هولدرلين، دائماً تسأل نفسك لماذا لم يترجم هذا إلى العربية؟ حتى لو نُشرت له هنا وهناك بعض المختارات أو القصائد المتفرقة؟ لكن لا تتذكر مرة أنه عبر إلى الشواطئ العربية! وأنت نفسك، لم تحاول أبداً القيام بذلك! خشية الفشل! ربما! على رغم أنك في ساعات يأسك القصوى تعود إليه، إلى هاينريش هاينه، إلى باول تسيلان، سيوران، نيتشه، المعري، النفري، والمتنبي أحياناً. تريح نفسك على صفحات كتب الآخرين، تتيّه نفسك، تجد نفسك أحياناً في بعض المجلات، تتعجب، كيف نسيت هذا؟ لماذا زهدت نفسك به، زهدت بهذا الحضور الذي تقلّص زهوه أمام ألم الكتابة، ألم الولادة؟ وصرت أسيراً في انتظار كلمات عدّة تجلبها إلى الورقة! قد تصل وقد لا تصل أبداً إلى الورقة. في السابق كان ثمة عزاء في كتابة الرسائل، رسائل إلى كل جهات الأرض، تقرأ الرسائل وتكتب أجوبة أو تكتب رسائل إلى عناوين لست متأكداً من صحتها، ومع شيوع الإنترنت، تلاشت كتابة الرسائل تقريباً وتحولت إلى مجرد اختصارات تنتهي حال استلامها! الكتاب أضحى منقذك الوحيد، الموسيقى، تأمل الطبيعة، وكلما قلّت ساعات عزلتك تضاعفت درجات ألمك وتضاعفت حدّة الجمر ليلاً، تتقلّب طيلة ساعات الليل بين النوم واليقظة وتستيقظ بطعم المرارة. لأخي الصغير"كامل"أسلوب جميل في الكتابة، أحب قراءة كلّ ما يكتب، رسائله نِعَمٌ تصلني عبر الإنترنت، ترجماته تعجبني لغتها، والأكثر اختياراته... - وأخي هذا ولد في عام النكسة، وهرب أثناء انتفاضة 1991 إلى السعودية عبر صحراء السماوة، مشياً على الأقدام ومن هناك وبعد أعوام من الانتظار استقر في الولاياتالمتحدة حيث يواصل دراساته المعمقة ? لكنه مقلّ في الكتابة. لسان حاله يمكن أن يقول: لا توجد كتابة بالمجان، الكاتب الحقيقي لا يستطيع أن يهذر... وحينما التقينا بعد 27 عاماً من الفراق، كان الصمت هو المهيمن والعزلة هي السائدة. من يتكلّم - بحسبه - يتألّم. كولونيا - بيروت - القاهرة في محطة القطار الرئيسة في مدينة كولونيا، تعود إلى فكرة المقارنة بين الشرق والغرب، الحقوق والواجبات، الحياة المنظمة، السهولة في إجراءات الأعمال، في المصرف، في البريد، في اللغة والقاموس، في الأسواق وفي المطاعم، في إنجاز الأعمال الإدارية المحضة، إنجاز جواز سفر، طلب وثيقة ما، نظام الصرف والدفع الماليين، بلا أدنى مشاكل أو متاهات أو أوقات ضائعة في الانتظار أو في إيجاد المكان والعنوان الصحيحين لهذا أو ذاك. أماكن وقوف السيارات، نظام السير للمشاة والعربات، الأرصفة الخاصة للمشاة، الحدائق الكبيرة، أماكن اللعب الخاصة للأطفال كلها مفتوحة ومبذولة ولكل من يريد أن يتجاوز مكاناً على الرصيف، يُنظر إليه فيما إذا كان الأمرُ ممكناً بترتيب خاص وقانوني ولا يتعارض مع المصلحة العامة. وأنتَ تفكّر! لقد عشتَ هنا ثلاثين عاماً، وكل هذا كان شيئاً طبيعياً، فقد كنتَ تسافرُ لأيام عدة في بلدان ومدن مختلفة وتعود إلى شقتك لتمارس حياتك من جديد. حتى اليوم الذي قررت فيه لسبب ما، أن تنتقل إلى بيروت وتتاح لك فرصة المقارنة. أنت هنا وهناك وفي مكان آخر، مكان ثالث موجود، ولكنك تحمله معك بصور وصيّغ مختلفة، تكره الأماكن، لكنك تعود لكي تحبها من جديد، تتمنى أن تراها، أن تكون فيها، وأن تجلس في بعض زواياها لكي تتذوق أطعمتها من جديد. لم يكن بعيداً ذلك اليوم، حيث جلسنا مجموعة من الأصدقاء قدموا من بلدان مختلفة في مقهى"ريش"في القاهرة ومنه انطلقنا إلى مطعم ما، ربما اسمه"مطعم المجزرة"كان معنا يوسف أبو ريه... كان يوماً سيئاً بالنسبة اليك، يوماً قاتماً، أو حتى أنه كان يأتي ذكره كنكتة، لكنه يحضر بقوة، ربما لأنه ربطني بذكرى يوسف أبو ريه الكاتب الذي رحل في شكل مفاجئ، أو حتى بخيري عبدالجواد، والذي لم يكن معنا، ولكنه يحضر الآن، والذي تلقيت بألم خبر وفاته، فقد كنت أنتظره في معرض القاهرة الدولي للكتاب كالعادة، ولكنه حضر عبر خبر قصير في الجريدة. هكذا، صورته مع خبر صغير جداً... لحظات التعاسة هذه، لا يمكن وصفها، فهي تأتي مثل القصف أو الهزة الأرضية، أو ثورة بركان ما، انفجار عبوة بين قدميك أو تحت كرسيك... لكنك وأنت تجلس بصمت يتمزق داخلك ألماً! أهكذا نحب الأماكن لأن أصدقاءنا يموتون فيها ويتركوننا لتعاستنا. شخص ما، لم أعد أتذكر اسمه، قال إنه كان ضابطاً في الجيش العراقي السابق، قبل أعوام، كان يأتي إليّ سنوياً في معرض الكتاب في القاهرة، كل عام بعذر جديد، بأنه يحتاج مثلاً إلى هذا المبلغ أو ذاك، لأنه قدِم إلى القاهرة عبر دمشق، لغرض المعالجة، وهو يحاول أن يريني قدمه التي لا أدري بأي حادث قد تخرّبت، قال إنه من مدينة"المحاويل"جنوببغداد. أنا في ذاكرتي ترتبط هذه المدينة بصداقة من أيام الشباب. شاب قيل إنه من أقربائي، ربما هكذا ادعى أو هكذا توهمت! هكذا أضحينا أصدقاء لأشهر عدة، وبعدها اختفى واختفيت. ربما يكون هذا هو الشاب نفسه، هذا الضابط الجريح والذي لسنوات بقي يحاول العودة إلى العراق أو إلى دمشق، كما تشير بطاقة الطائرة، ولكنها في كل عام إضافات مالية بسيطة، عشرات أو مئات من الجنيهات المصرية التي تعوزه لكي يدفع تكملة البطاقة ويعود... أعوام عدّة، والعادةُ ذاتها، إلا أنه ذات عام، جاء ليخبرني انه جاء فقط لكي يسأل عني، وأنه سيعود قريباً، وأنه لا يحتاج شيئاً الآن، وكنت مستعداً بحسب العادة لكي أدفع له المقسوم، ولا يفوتني أن أذكر أنه قرأ كل كتاب أهديته إياه وعاد ليحدثني عنه بدقة... لن أنسى عكازه ووجهه الحزين المغبر وهو يعود لاكتشافي في كل مرّة في متاهات معرض القاهرة الدولي للكتاب.