تصلُ فرانفكورت متأخراً، هطولُ الثلج الغزير ترك بصماته على كلّ شيء هنا، وفي خضم هذه الفوضى التي تتبين ملامحها على المسافرين والمنتظرين الذين وصلوا مثلك الآن. في محطة القطار ترى الفوضى ذاتها، تأخذ قطاراً كان المفروض أن يمرّ قبل أربع ساعات. بالنسبة إليك، لست مهتماً إلا بأن تعتاد على درجة الحرارة المنخفضة، التي كأنك نسيتها بعد عامين من الفراق. تريد أن تصل، أن تأوي إلى السرير الدافئ وأن تنام لكي تخرج في نزهة إلى الحقول المجاورة وقد غطتها الثلوج. تسأل نفسك أنت الذي ولد في البرية وأمضى أعوامه الأولى في تلك الأماكن القصية، على الأغلب كان العطشُ آنذاك يكضك وتضربك ريحُ السموم، باحثاً عن الظل، لاهثاً مثل كلب، أنت الآن هنا تسأل نفسك، وتمنّيها بنزهة في الحقول البيضاء، بل أنك كنت تترقب حلول فصل الشتاء وبالتالي هطول الثلوج، لم يغب عن بالك ذلك المشهد قبل ثلاثين عاماً، حينما خرجت ليلاً في كولونيا، وإذا بتلك المسافات المعشبة الواسعة التي كنت تقطعها كلّ يوم، وقد أضحت بيضاء، لم يدر بخلدك إلا الصحراء، تلك البرية، النجومُ تتلامض في السماء الصافية والتربة تتكسر تحت وقع قدميك! تلك كانت المرة الأولى التي ترى فيها الثلوج! هل وجدتَ بديلاً لصحرائك؟ لكنه بديل لا يحضرُ في خيالك إلا في الليل، لأنه في النهار يبدو بعيداً عن صورة صحرائك، ولا يذكّر بها أبداً. قبل وصولك إلى ألمانيا اليومَ، كنتُ تريد أن تكتب وتقارن، صحيح أنك سجلت في ذهنك: التهذيب في التعامل، اللغة الواضحة، الفرق بين الصحافة العربية والألمانية، فالألمانية على عكس العربية فيها دائما ما يُقرأ. لكنك بدل هذا متّعت نفسك بالتجوال، وبالقراءة، وقعت على كتاب للفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين لم يُنشر سابقاً، فسيطرت عليك فتنته تماماً، وأخذت تقرأُ فيه يومياً حتى تنام. في مدينة لودفيغبورغ، شاهدت تمثال الشاعر فريدريش شيلر وقد التحف رأسه بغطاء ثلجي، متحفهُ ليس بعيد عن هنا، وهو يضم أيضاً أكبر أرشيف للثقافة الألمانية. وليس بعيداً من هنا أيضاً، في مدينة توبنغن، يشمخُ بتواضع على نهر "النكار" ذلك البرج، الذي أمضى فيه الشاعر فريدريش هولدرلين ثلاثين عاماً.. كنتَ هناك كثيراً، وفي هذه المرة أيضاً، لكنك وبسبب الوقت والثلوج لمحته فقط من بعيد هذه المرّة. كلُّ الذي كانَ، وكأنه لم يكن، مياهُ النهر تجري ببطء ومازال الفلاحون يعرضون بضاعتهم في ساحة المدينة، تخطو وكأنك لا تخطو، تحلمُ وكأنك لا تحلم.. تتنفس وكأنك لا تتنفس، الحياة مجرد تمارين لغوية، هكذا تفكّر بينك وبين نفسك. وتلك الأفكار؟ لا تدري من أين تأتي ولا كيف تأتي. كنتَ منكمشاً على نفسك طيلة الوقت تقريباً، حتى فيما بعد وأنت في كولونيا، كنت تكتفي بالجلوس، ثمة احساس طاغٍ يدفعك إلى طاولة الكتابة، ثمة كثير الذي تشعر به وكأنه على طرف اللسان، وما عليك إلا الجلوس إلى الطاولة والتسجيل على الورق، لكنك تتكاسلُ مع الكتب ويأخذُ أغلبَ وقتك البحثُ عن الدفء. أنت تبدو مقسّماً هذه المرّة، تريد أن تنصف حالك بعد عامين، بأن تتوازن في داخلك وأن لا تضيّع الأيام والأشهر ركضاً وراء سراب أو في انتظار شيء لن يصل أو لن يحدث. في الصباح وأنت في التاكسي إلى محطة القطار، الظلامُ مازال مخيّماً، ذاب الثلج واختفى من الشوارع، درجة الحرارة تصل إلى العاشرة فوق الصفر، حينما جئتُ إلى هنا قبل أسبوعين كانت عشرة تحت الصفر. تفكّر: ربما جئتُ إلى هنا لكي أذيب الجليد. في القطار إلى مطار فرانكفورت، وفي الطائرة، كنتَ تفكّر بأنك قد ضعت، بأنك موجود وغير موجود، لا مكان لديك، مجرد طيف بين المدن والبلدان، في الهواء والتراب. تُريدُ أن تصف لنفسك، أو ربما لأطفالك، نفسَك، حالَك من الداخل، أن ترسمَ صورة ألمك ومتاهتك، سعيك في كلّ ما قرأتَ وكتبت وسمعت أن تذوبَ في المياه أو أن تصبحَ خيالاً ورغبةً في الهواء.