ما كدت أوغل في قراءة رواية عادل محمود "الى الأبد و... يوم" دار الصدى ، دبي حتى أخذتني فكرة مُحيّرة بعض الشيء:"هل هذه سيرة ذاتية للكاتب الذي أعرفه شخصياً أم هي رواية فعلاً؟". وصفحة بعد أخرى غاب هذا السؤال عن ذهني، فقد أخذني السرد الروائي المتدفق الى متعة حقيقية غطت على سؤالي المحيّر في البدايات. وحين وصلت الى الخاتمة حين استردّت محبوبة الراوية بما يشبه المعجزة قدرتها على النطق بعد إصابة طويلة بالبكم وهي المشهورة بصوتها الرخيم الذي"يفتت الصخر"بهذا الحدَث الخارق، بدا أن الرواية انتهت فعلاً. غير انني فوجئت بصفحتين إضافيتين شعرت حين قرأتهما أنهما لازمتان وأن الكاتب لم يلحقهما بالخاتمة إلا لأنه أحسّ مثلي بالحيرة نفسها أن عمله يمكن أن يحيّر النقّاد، فأضاف الصفحتين الجميلتين بالفعل وكأنه يحسم الموقف مع نفسه ومع الآخرين قائلاً بما معناه:"هذا أنا... وما كتبته قد لا تنطبق عليه مقاييسكم النقدية، ولكنني أظن أو أعتقد أنها مقاييس من الممكن اختراقها وصولاً الى تجربة فنية حرّة جديدة لا تخلو من المتعة". ما هي"الحدوتة"في هذا العمل الروائي الذي فاز بجائزة"دبي"الثقافية للإبداع المركز الأول في الرواية في دورتها الخامسة عن عامي 2006 - 2007؟ الحدوتة هي حياة عادل محمود بالذات منذ نشأته في قرية"عين البوم"في محافظة اللاذقية الى انتقاله الى المدينة فالعاصمة لمتابعة دراسته الثانوية فالجامعية الى مشاركته في حرب تشرين الأول اكتوبر 1973، كمراسل حربي صحافي الى انغماسه في العمل السياسي السري ذي النزعة اليسارية الماركسية وبعض المخاطر التي تعرّض لها بسببه، الى الأسفار خارج القطر التي أبعدته نسبياً عنها مع محافظته على مشاركاته النضالية الى عودته الى بلده وبعد ذلك قد لا تكون الأحداث واقعية فعلاً بل متخيلة وقد نوى أن يلجأ الى قريته التي يعود إليها كمحارب يختار استراحته أخيراً مع الفتاة الرائعة نفسها التي كانت حبه الأول والأكبر والتي يسميها دائماً"كسّارة البندق"والتي آثرت مثله أن تختار استراحتها مع حبيبها الأول والأخير بعد تجارب مريرة عَصَفت بها بعيداً منه والتي تسببت أحداثها الموجعة الأخيرة بفقدانها القدرة على النطق الى أن استعادتها في صحبة الحبيب وهو في عزلته الأخيرة مع الطبيعة الوحشية الخارقة المروعة وحيواناتها المفترسة التي ألِفَتْه وألِفَها، ومع القليل من البشر البسطاء والطيبين في تلك القرى الضائعة في أعالي الجبال والتي تكاد تقفر من سكانها. العمل حافل بالأحداث والشخصيات المثيرة، غير أن الإثارة الحقيقية التي تمنحنا إياها القراءة ليست في الأحداث ذاتها بل في الأسلوب الذي تُعرض من خلاله والذي يبدو متأثراً بأن عادل محمود نفسه شاعر موهوب حديث ومعروف كما في طريقة التنقل بين الأمكنة والأزمنة والأشخاص من دون ترتيب مُنظّم تماماً كما في بعض القصائد الطويلة وبهذا المعنى ان هذه الرواية تطرح ثلاث قضايا فنية أساسية استطاع الشاعر الذي أصبح روائياً الآن في تجربته الروائية الأولى أن يقدّم تطبيقياً حلولاً فنية مقنعة لها وهي: أولاً: كيف نتعامل مع أدب السيرة الذاتية في شكل لا يفقد فيه العمل الروائي خصوصيته كجنس أدبي مستقل؟ ثانياً: كيف نتعامل مع غزارة الأحداث والذكريات وصولاً الى تكثيف معقول للمختار منها والذي يخدم المقولة الأساسية للعمل؟ ثالثاً: كيف يمكن الروائي التعامل مع اللغة الشعرية من دون الانجراف بعيداً مما يتطلب السرد الروائي من مواصفات لا يحتاج إليها الشاعر عادة كصاحب لغة ذات طابع ذاتي خالص، بعكس لغة السرد الروائي؟ وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من تحديد المقولة الأساسية للعمل. وهنا يبدو أن هذه المقولة، مثل عنوان الرواية، مُحيرة بعض الشيء وبالتالي متروك اكتشافها للقارئ والمؤلف معاً. ذلك أن المؤلف وقد اختار التحرر نسبياً من القيود الأكاديمية قد وضع عنواناً لروايته"الى الأبد و... يوم"متحرراً من أحادية المعنى. فكلمة"الى الأبد"مفتوحة بكل اتساعها الفلكي والإنساني على الوجود البشري بأكمله، ولكن إضافة كلمة"ويوم"تساعدنا بعض الشيء على فهم المقولة الأساسية، فما هو هذا اليوم الواحد الذي يكاد يعادل الأبدية حتى يتميز بهذا التخصص. كيف صنع إذاً عادل محمود في حلّ مشكلات التعامل مع الأسئلة الثلاثة الآنفة الذكر، وصولاً الى خدمة مقولته الأساسية؟ فمع السؤال الأول استطاع وهو يتجسس على ذكرياته ? بحسب تعبيره ? أن يخفي بعضاً منها ويكشف عن بعضها الآخر، وبهذه اللعبة الماهرة استطاع أن يصنع"رواية"وليس"سيرة ذاتية"، ودليلنا على ذلك مثلاً مروره العابر بتجربة حرب تشرين المهمة مع أنه عاش في ساحتها، ومروره الجانبي بأجواء التخفّي والرعب التي يعيش فيها المناضلون الوطنيون في بلد تهيمن عليه الأجهزة الأمنية. فالمهم ? انسجاماً مع المقولة الأساسية للعمل ليس الحديث عن تجربة الحرب مثلاً أو السجن أو التخفي. فالمعركة بمعناها الأعمق وجودية أكثر منها سياسية مع نظام حكم معين، ذلك أنها تدور ضد ذواتنا أو المقربين منا أكثر منها ضد هذا النظام أو ذاك. ومع المسألة الثانية حول غزارة الأحداث والذكريات عمد الكاتب الى اختيار دقيق يخدم مقولته حين أفاض مثلاً في وصف هواية الصيد لديه. إنه لم يصنع ذلك في تصورنا إلا بهدف إيصال معلومة معينة عن جانب من طباع شخصية"الراوي"وعن مزاجه العميق كإنسان رقيق الحساسية وكاره للقسوة والعنف. وفي تعامله مع اللغة الشعرية التي يحذّر منها الناقد الروسي الكبير باختين لم يبالغ عادل محمود في استخدام أسلوب المجاز، فلم يظهر الطابع الشعري إلا في حالات عالقة بين النثر والشعر. وهكذا احتفظت اللغة بطزاجتها ومفاجآتها التعبيرية عبر مجاز لطيف عابر في سياق السرد الروائي. ومع ذلك يبدو الكاتب غير مقتنع تماماً بأنه خدم مقولة مُحددة حين يقول في الصفحتين الأخيرتين"المضافتين":"بدأ هذا الكتاب أهو رواية؟ بكافكا وانتهى بحمزاتوف... إننا لا نفعل شيئاً سوى ما يصفه النقاد في برود حكيم بأن الكتابة ليست سوى نشاط تعويضي...". لا يا عزيزنا الكاتب... إن القرد الذي تركته يشرب محبرتك لم يكن هو الذي نثر حِبرها على الورق كي يصنع روايتك، فأنت الذي شربت وكتبت، وحِبرك لم يكن مرّاً بالتأكيد!