يحتل محمد برادة الرباط 1938 مكانة بارزة في المشهد الثقافي المغربي، ناقداً وروائياً ومترجماً. وعلى مدى 35 عاماً استطاع ان يترك بصماته الواضحة على جيل من الادباء المغاربة، سواء من موقعه الاكاديمي كأستاذ في كلية الاداب في الرباط تقاعد هذا العام أو من خلال اشرافه على تحرير عدد من المجلات والصفحات الثقافية، فضلاً عن رئاسته "إتحاد كتاب المغرب" دورات عدة. أصدر برادة بعض الأعمال النقدية ومنها: "فرانز فانون او معركة الشعوب المتخلفة" ترجمة - 1963 و"محمد مندور وتنظير النقد العربي" 1979، لكنه ومنذ "سلخ الجلد" قصص - 1979 راح يتوجه نحو الكتابة الابداعية، وهكذا أصدر "لعبة النسيان" رواية - 1987 و"الضوء الهارب" رواية - 1994. ويأتي عمله الأخير "مثل صيف لن يتكرر" محكيات، الدار البيضاء - 1999 ليكرس هذا الاتجاه كما لو كان يريد ان ينقص المقولة الشائعة "الناقد مبدع فاشل". في هذا الحوار اطلالة على عالم محمد برادة النقدي والروائي انطلاقاً من كتابه الأخير أو محكياته عن مصر بما يشبه الاحتفاء بالمكان والناس والذكريات. الى أي مدى يمكن اعتبار "مثل صيف لن يتكرر" سيرة ذاتية؟ - صحيح، انني في هذه التجربة أقترب من المعيش او مما يمكن ان يسمى عناصر السيرة الذاتية، لكنني لم أكن اقصد ان اكتب سيرة ذاتية، ليس فقط لأني لا أستشعر قيمة خاصة تخولني ان اكتب هذه السيرة، ولكن قصدي هو ان تجربتي في الكتابة آلت الى اقتناعي بأن الشيء الأهم بالنسبة للكاتب هو ان يعرف كيف يوجد فسحة للقول، فسحة للكتابة، كتابة ادبية بهذا المعنى، أي تقع على تخوم الخطابات ولا تزعم ان تبلغ او تلقن درساً بل هي فسحة ودعوة للقارئ ليتحرر من المألوف ويتفاعل مع ما يقرأه من خلال وجدانه واستحضار مخيلته. اذن، القصد لم يكن سيرة ذاتية بالمعنى المتعارف عليه بل كما قلت ايجاد امكانية للكتابة مع الحفاظ على مسافة تتيح لي ان انظر الى الاحداث التي عشتها او تخيلتها من قبل، ان انظر اليها، من مسافة تتيح النقد والتشكيك واعادة النظر. يمكن ان اقول ايضاً حول هذا النص: انه ليس سيرة ذاتية بل هو اقرب الى التخييل الذاتي، هذا المصطلح الذي بدأ يشيع في العقدين الاخيرين، أي ان الكاتب يعطي لنفسه حق ان يجعل هويته - التي هي آخر حصن يربطه بالواقع - موضعاً للتخييل. معناه ان القارئ لا يستطيع ان يبحث عن مقارنة بين الحقيقي وبين المزيف، وبين ما عيش بالفعل وما كان مجرد حلم. ماذا تعني بالتخييل الذاتي؟ - التخييل الذاتي معناه ان الكاتب يعيد خلق ذاته من خلال ما عاشه في الماضي ولكن على صلة وثقى بوعيه الحاضر، ومن ثمة فإنه لا يتحدث عن حياة ثابتة. واذا صح التعبير، فهذه المحكيات هي محاولة لإعادة تصور الذات من فضاء ماض ينطلق من وعي حاضر، ولم يكن همي مطلقا ان اتقيد بحقيقة ما، بل كان القصد هو ان انغمر في هذه الكتابة التخييلية. لم اكن اقصد مطلقاً ان اعبر عن حقيقة ما. واظن ان هذا حق من حقوق الكاتب، ان يبحث عن فسحة الكتابة اينما وجدها، مثلما ان من حقه بل من واجبه ان يستعمل كل المواد الخام الممكنة، وان يتعامل معها على قدم المساواة سواءاً كانت تنتمي الى دائرة الاجتماعي او دائرة العاطفي. كل هذه العناصر في العمل الفني يجب ان تتساوى، وان يكون هدفها هو ابداع نص ابداعي يقدم المتعة ويحرك الوجدان. ولكن ثمة وقائع واحداث مرتبطة بزمن أو أزمان محددة؟ - ان تجربتي في هذه المحكيات وضعتني فعلاً امام سؤال كبير هو سؤال العلاقة مع الزمن، والعلاقة مع الزمن تشغل الجميع، الشعراء، الروائيين، المسرحيين، لكن الامر قد يكون عند الروائيين اكثر ثقلاً، لان استعادة الزمن الماضي دائماً تطرح اشكالات كثيرة، اما امكانات القصة، والحكاية، والسرد بصفة عامة فهي تختلف الى حد كبير عن امكانات البحث التاريخي او السرد التاريخي الحدثي، على رغم الالتقاء في الكثير من العناصر المشتركة. اذن، هذه الحكايات تتحدث عن الزمن، وفي الآن نفسه تزعم انها توجد خارج الزمن، او تريد ان تنفلت من قبضة هذا الزمن. فالاقتراب من مشكلة الزمن، من مشكلات السنوات المخزونة في الذاكرة وصياغته او محاولة صياغته في كلمات، يقترب، كما لاحظ بعض الكتاب، من عملية تنفيذ، فكأن الانسان ينفذ موتاً على اناه او ذاته، ومع ذلك فالكاتب تبقى له هذه الامكانات، هذه الاحتمالات، ان يعيد الكرة وان يعيد التجربة، لأنه كلما كتب نصاً ينتهي الى القول : "ليس هذا ما كنت اريد ان اكتبه، هناك شيء آخر يتخايل ولا بد ان اعاود الكتابة لأقترب منه". وهنا اريد ان ابدي ملاحظة، لعلكم تتفقون معي فيها، وهي انه عندما نراجع نصوص الادب المغربي الحديث نجد ان عدد الكتاب المغاربة الذين كتبوا ما يشبه الرحلات او كتبوا عن فضاءات غير مغربية قليل جدا بالقياس مع ما كتب في القرن 19 او ما تكتبه الشعوب الاخرى، حتى في مصر يكتبون اكثر عن رحلاتهم وعن علاقاتهم بفضاءات خارج بلادهم. واعتقد ان من حق كل كاتب ان يستوحي فضاءات متعددة سواء كانت داخل بلاده او خارجها وبالشكل الذي يبدو له. ليس من الضروري ان يتاكد انه يستطيع ان ينفذ الى اعماق شعب ما او الى مجتمع ما ليصيب في الحكم، في هذا المجال تكون الكتابة دائما في شكل تفجرات متشظية ومن خلالها يمكن ان يستجمع الكاتب لمحات تتيح للقارئ النفاذ الى بعض الاشياء. وهذا ما جعلني أتجرأ ان اكتب عن مصر بنوع من الحرية ولم يكن غرضي مطلقاً ان احلل تاريخ مصر رغم ان هذا التاريخ حاضر، ولكن كان القصد هو ان اعرب عن حبي لمصر من خلال هذه الحرية وأحياناً من خلال النقد المبالغ فيه، او حتى القسوة في النقد، ولكن شفيعي كما قلت، هو ان مصر ايضاً شكلت، بالنسبة لي ولادة لها امتدادات اخرى في نفسي. قبل مصر، كانت طنجة محور روايتك "الضوء الهارب". هل يعني هذا ان المدينة تستثيرك للكتابة؟ - لم يكن الدافع اصلاً لكتابة "الضوء الهارب" هو المكان، أي فضاء طنجة، بل كان مجموعة من المشاعر والتجارب والتأملات تبحث عن نص آخر بعد "لعبة النسيان"، وتحاول ان تجيب على هذه الاسئلة المتراكمة التي تنشأ لدينا، من خلال مواجهة العالم، ومواجهة المجتمع. ويمكن أن أقول ان هذه التجربة في "الضوء الهارب" التي تلامس قضايا واحساسات تتصل بعلاقة الفنان بالعالم، علاقة الرجل بالمرأة، علاقة الانسان بالمحرمات، اتجهت تدريجياً نحو فضاء طنجة على اعتبار انها مدينة تعيش متبترة في مخيلتنا بمجموعة من الميثولجيات، منها ميثولوجية التحرر والاباحية والكسموبوليتية، وهذا لكونها مدينة دولية عاشت عقوداً من السنوات في نظام خاص أتاح لها توافد اجناس متباينة، وجعل العادات والسلوكات والعلاقات داخل طنجة وبين الطنجاويين مختلفة نوعاً ما عن بقية المدن المغربية. إضافة الى موقعها الجغرافي في أقصى الشمال كبوابة تصلنا بالشاطئ الآخر، أوروبا. انا اعرف طنجة. كنت اتردد عليها باستمرار، ولدي ذكريات وتجارب عشتها هناك، ولذلك يسهل على الروائي او الكاتب ان يكتب عن فضاءات معينة بنوع من المعرفة. لا أزعم أن ما حاولته هو أن اشخص أو ان أرسم طنجة في كل تفاصيلها، ولكن أن أبتدع أو أبتكر فضاء لها، ولذلك فان الكتابة عن طنجة في هذه الرواية لم تأخذ طابعاً ترصيفياً أو منتظماً، بل كانت تجيء في ثنايا النص وفي ثنايا السرد والحكي، ثم في نهاية النص بشكل شذرات في دفاتر العيشوني - أحد شخصيات الرواية - وهو يتذكر في فقرات بعض التجارب المشاهد التي علقت بذاكرته. من هنا، يمكن ان اقول ان فضاء طنجة وظف على مستويين: المستوى الميثولوجي الذي يسعف طبيعة الموضوع والفنان الذي يبحث عن نفسه، عن ذاته، أو ذواته من خلال الآخرين. والمستوى الثاني، طنجة كما يمكن أن تبدو أحياناً بدون هذه الاصباغ، عندما أحاول أن أشير الى حياتها اليومية العادية وما تعرفه من بؤس أو من إهمال، أي صورة معاكسة للصورة التي يكتبها او يرسمها الكتاب الاجانب في معظم الاحيان. الوعي النقدي أولاً هل تعتقد ان على الروائي العربي أن ينشغل بواقعه الاجتماعي، قصد تحليله واعطاء وجهة نظر معينة عنه؟ - أنا لا افترض ان هناك حدوداً فاصلة بين التفكير والوعي النقدي والتأمل وبين الكتابة الروائية. بطبيعة الحال، الاحتكام هو دائما للتحقق الفني، أي هل يقنعنا بمكوناته، كرواية او قصة او قصيدة؟ ولكن هذا لا يعني ان التحقق يفترض الابتعاد عن التفكير أو الوعي النقدي. اعتقد ان هذه الفكرة يجب ان نتجاوزها لأنها اصبحت متجاوزة، بمعنى ان الكاتب والشاعر والقصاص ملزم اليوم في ثقافة العصر بأن يفكر في ادواته، فلم يعد بالامكان ان يكتب مثلما كان الكاتب يفعل في السابق، كأن يكتب عن تلقائية او الهام، فهذا غير صحيح في واقع الأمر، لأن كل فنان وكل كاتب يكوّن معجمه ومقاييسه الفنية وطرائقه في الكتابة من خلال التأمل والتفكير فيما يقرأ من نصوص، ولهذا انا اذهب للقول ان على الكاتب أو الروائي ان يتسلح في نفس الوقت بوعي نقدي كي لا يعيد كتابة ما كُتب من قبل. ليس المطلوب هو انتاج اكبر عدد من النصوص المتشابهة، أو أن يظل الناقد متدثراً بسذاجته الفنية أو بحسه الفني وكأنه يحتمي من التلوث النقدي، لا على العكس، هذا الانفتاح على النصوص وقراءتها الواعية تحتمان عليه أن يطرح اسئلة أساسية، لماذا اكتب الرواية؟ ورواية ثانية او ثالثة؟ هل أريد ان أضيف شيئاً؟ هذا هو ما يكوّن نوعاً من الوعي الخلفي الموجه للكتابة. ماذا اردت ان تثبت بانتقالك من مجال النقد الى كتابة الرواية؟ - بدأت بكتابة القصة، وانا طالب، قبل ان اكتب النقد. وكتابة النقد التي جاءت لاحقاً، أي بعد تخرجي من الجامعة، يمكن ان اقول انها لأكل العيش. بعد ذلك، وعندما اصبحت استاذاً في كلية الآداب، أصبح الاهتمام بالكتابة النقدية أساسياً لأنني حاولت من خلال النقد أن أجيب على أسئلة تشغلني وتشغل مجتمعي والثقافة العربية. ولكنني لم أجد على الدوام أن هناك تعارضاً اصلياً أو فطرياً في الأنسان بين الناقد وبين الشاعر والقصاص والروائي، لأن الكتابة اصلاً تأتي نتيجة للمارسة والتجربة لإحساس داخلي، فكل واحد يستطيع أن يميز الشكل الاقدر أو الاصلح للتعبير عن تجربة معينة. ونتيجة لمسار خاص في حياتي اهتممت بالكلام وبالمحاضرات واللقاءات والنقاشات ولم اكتب نصوصاً ابداعية في بداية التجربة، مثلما كتبت في مجال النقد والمقالة والتحليل، لكن في نهاية السبعينات أحسست ان هناك تجربة اخرى لا يمكن ان تتبلور، او تأخذ مجموعة تضاريسها الاٌ من خلال نص روائي، ومن هنا اتجهت الى كتابة "لعبة النسيان" بهاجس أساسي هو أن أُشخص ما لا يمكن ان تقبض عليه من مفاهيم ومصطلحات نقدية، ولهذا كان هناك نوع من الارتداد الى ذاكرة الطفولة، والى فضاء فاسوالرباط قبل اربعين عاماً، ومحاولة المقارنة بين الماضي وما نعيشه الآن او منذ الثمانينات. اذن، الهاجس الروائي مختلف عن الهاجس النقدي، ويتجلى هذا الاختلاف أيضاً في تحقيق النص، أي في اللجوء الى حوارات تغرف من اللغة الشفوية المحكية الى جانب اللغة الفصحى وتحاول ان تجعل هذا المحكي او اللغة الدارجة جزء عضوياً في رسم الشخصيات. شخصية سي ابراهيم مثلاً في "لعبة النسيان" يمكن ان نعثر على نظائر لها في المجتمع المغربي، مثل هذا الرجل الذي نسميه أُمياً يمتلك ثقافة لها اصول شعبية وشفوية من خلال تردده على المساجد ودروسها والاستماع الى الحلقات والحكايات، وعندما يتكلم وتتجاوب في لغته كلمات اخرى دارجة أو فرنسية انما يشخص نموذجاً معيناً لا نستطيع أن نتعرف عليه لو اعتمدنا فقط اللغة الفصحى، لأن الكلمة ونطقها تسعف ايضا في احالتنا على نوعية الشخصيات. هذا الهاجس في كتابة الرواية جاء منبثقاً من ذاتي لأنني، وكما قلت، أحسست ان الكتابة النقدية عندي لا تستطيع ان ترتقي الى مستوى هذه التجربة المعقدة التي تحكي عن فترة الكفاح ضد المستعمر الفرنسي وعن الاستقلال والنكسات وخيبات الأمل، ولأن فضاء الرواية هو الأقدر على تشخيصها، وبعد التجربة أحسست ان ارتباطي بالرواية هو شيء طبيعي الى جانب الكتابة النقدية. ما أهمية النص الذي يكتبه مَن يمارس التجربتين النقدية والروائية، وهل طغى الناقد فيك على الروائي؟ - لا يمكن ان نميز بدقة بين الناقد والروائي لأن صفة الناقد الروائي ليست صفة جوهرية. انني اعيش مفتوحاً على القراءات النقدية والروائية، وعندما اكتب لا يمكن ان اقول انني سأكتب كناقد، لكنني استطيع ان أُميز عند انتهائي من النص، وهذا هو الأساسي عندي، كما استطيع ان استمع الى ردود فعل النقاد على ما اكتب من نصوص روائية، وهذا قد يكون مفيداً، ولكن في المنطلق لا يمكن التمييز. ليس هناك تعريف يقول انت روائي من البدء الى النهاية، والدليل ان كثيراً من الروائيين العرب كتبوا نصوصاً نقدية أو دراسات، كما أن كثيراً من النقاد كتبوا الرواية ولكن لقيت نوعاً من الأهمال لأن القراء أو النقاد اعتبروها نوعا من التطفل، كروايات الدكتور رفعت السعيد وصلاح عيسى، التي لم يلتفت اليها كثيراً. اعتقد ان المسألة هي ليست بالكم وليست بالتخصص، الأحتكام دائماً هو الى نتيجة النص، في حين تجد روائيين يكتبون نصوصاً سيئة ربما لأنهم يتطلعون الى تحقيق نوع من التحليل الفكري الذي لا يتلائم مع النص، واذكر أكثر من رواية كتبها نجيب محوظ بين 1970 و1980 لم تكن ترقى الى مستوى الرواية مثل "يوم قتل الزعيم" و "لم يبق من الزمن الا ربع ساعة" وهي نصوص كتبها لأنه لا يستطيع ان يعيش بدون ان يكتب، ولكن قد لا تكون متوفرة على الحد الادنى من العمق ومن الحبكة ومن الصياغة الملائمة. هل تمارس سلطتك النقدية على ما تكتب؟ - يمكن ان اقول انني عندما انتهي من الكتابة أعيد القراءة لأرى هل هناك ثغرات في الصياغة، وهذا شيء طبيعي، واظن ان الكاتب سواء أكان يمارس النقد أم لا يقوم بهذه العملية، أي معاودة النص ومراجعته وتنقيحه على اساس تصور ما، وكيف يريد لهذا النص ان يكون، وما هي النغمة التي يريد ان تصل الى القارئ، من خلال هذه العناصر ربما كان كل كاتب يمارس نوعاً من السلطة النقدية عندما ينتهي من النص، لكن قد نلجأ الى بعض الاصدقاء ليقرأوا النص قبل نشره، وربما جاءت ملاحظاتهم لتثير الانتباه الى ما يمكن ان يستكمل او يحور ويعدل، وانا الجأ الى اصدقائي في بعض الاحيان. في "الضوء الهارب" و"مثل صيف لن يتكرر" استخدامات للمفردة الشعبية او بعض العبارات المكتوبة بلغة اجنبية او لمقاطع شعرية، هل تعتبرها جزءاً من اللعبة الروائية؟ - انني اعتبر ان امكانات الرواية تستلزم هذا التنويع في المستويات اللغوية وفي منظومات السرد وتعدد الاصوات. التأمل في العالم وفي المجتمع يفضي بنا الى وجود هذه التعددية في مستويات التعبير واللغة والاصوات والنظرة الى الأشياء، ولذلك يذهب الكثيرون الى ان الرواية اصلح لألتقاط هذا التعدد المختلف، بمعنى ان هذا التعدد الموجود في المجتمعات وفي اللغات وفي الرؤى وفي العقائد يمكن أن نقترب منه عندما نغير مفهومنا للرواية فلا نعتبرها مجرد تحليل نفسي أو مجرد تعبير عن تجارب مباشرة، بل تشخيص عبر اللغة وداخل اللغة المتعددة وعبر تعدد الاصوات وتعارضها لهذه الرؤى وهذه المواقف داخل مجتمع الرواية وبالتالي داخل المجتمع الحقيقي. وبالنسبة لي، ان الرواية العربية الآن وفي المستقبل المنظور محتاجة الى ان تستوعب هذه الامكانات التعبيرية حتى تتمكن من تحقيق شيء أساسي هو تفتيت اللغة الاحادية الرسمية التي تريد أن توهمنا بأن كل الأشياء ظلت على ما هو عليه في حين انها في المجتمع العربي على اختلاف اشكاله وواقعه هي متعددة ومتصارعة ومختلفة، اذن هنا اللغة في الرواية شيء اساسي اذا وعى الروائي امكاناتها لأنه بذلك يستطيع ان يشخص للقارئ تدريجياً وعبر المخيلة وعبر المواقف الفنية ان يقنعه بهذه التعددية، بمصدرها بنوعية الصراع وكيف تتشكل اساساً داخل اللغة، وكيف ان تغيير المجتمع وتغيير متخيله انما يبدآن اساساً من اللغة، على ان تغيير البنيات الاقتصادية لا يكفي لنحافظ على نفس اللغة ونفس العقلية ونفس الرؤية، هذه رهانات مطروحة على كثير من الخطابات السياسية والأيديولوجية، كما انها مطروحة أيضاً على الخطاب الادبي والروائي خاصة، وربما المسرحي والقصصي لأنها تستطيع ان تحسس القارئ العربي في تغير مجتمعه الذي هو تغير غير واضح في بعض الاحيان. أسئلة الرواية المغربية اجابتك تثير لدى التساؤل عن الرواية المغربية كمفهوم خصوصاً لجهة قلة الأعمال الروائية، فهل نستطيع الحديث عن رواية مغربية؟ - بغض النظر عن القيمة او النوعية لا بد من الحديث عن الرواية المغربية، البعض يقدرها من النشأة الى الآن بين 120 و150 نصاً سنجد بينها على الاقل 30 أو 40 نصاً تؤشر على أشياء. وبطبيعة الحال من خلال التراكم يمكن ان تتبلور ملامح متميزة، وفي الآن نفسه يصعب الحديث عن رواية مغربية بهذا المعنى، لأن الرواية، على كل حال، هي مغربية عربية، لأنها مكتوبة باللغة العربية وأيضاً رواية ذات ابعاد كونية لأنها تستوحي وتستخدم طرائق روائية عالمية، ولكن المسألة هي عددية أو كمية ونوعية في وقت واحد. لأن الرواية عند الذين يكتبون هنا تعتبر قبل كل شيء اداة معرفة واستكشاف ووسيلة تعبير عن الذات او لفهم المجتمع وهذا قد يحد نوعا ما من اتساعها او توفيرها لجانب اساسي آخر هو المتعة، وفي نفس الآن، لأن هناك علاقة واضحة مع الكتابة النقدية والاطلاع على ما ينتج في الغرب فان ذلك يؤدي الى نوع من الانشداد الى التجريب. ان الذين يكتبون الرواية يحرصون دائماً على تجريب طرائق مختلفة، ولكن العلاقة مع التجريب شيء صعب لأنه قد يحمل خطر الانبهار بالتجريب ولا يتيح الوصول الى بلورة طريقة في الكتابة لإنتاج منتظم يحقق التراكم، ولهذا نجد ان مسألة التجريد تحتاج الى توضيح والى حوار، أي ان لا يكون التجريب من أجل التجريب، ولكن التجريب لتحنب الكليشيهات والمنوالية والتقليد، ولكن في الآن نفسه الرواية هي منفتحة على عوالم مختلفة من القراء فلا بد ان تحقق أيضاً نوعاً من المتعة وان تستطيع ان تصبح نصاً ينافس وسائل التسلية والتعبير الاخرى، ينافس الاذاعة والتلفزيون والفديو بحيث يحس القارى انه عندما يقرأ رواية مغربية أو عربية انما يحصل على شيء لا يوفره الاستهلاك السهل للانتاج التلفزيوني او الاذاعي. وهذه مسألة تستحق أن تطرح وان تناقش، وهي لحد الآن في المغرب تناقش بكيفية سريعة لكن هناك قضية وعي بها، وهي ان لا تكون علاقة الروائي بجمهوره علاقة مؤقتة أو قائمة على الدعوة الى التجديد، لا بد ان يصل الى صيغة تجعل الروائي يدخل في علاقة حقيقية مع القارئ فيأخذه في الاعتبار ويحاول ان تكون روايته وسيلة للحوار ولتغيير الوعي بالرواية ووظيفتها. في هذا الصدد يحضرنا موضوع الرواية المغربية المكتوبة باللغة الفرنسية، ما موقعها بين الرواية المغربية وهل هي تكتب فعلاًً تحت دوافع تجارية؟ - قبل كل شيء، يمكن ان نعتبر النصوص الادبية المغاربية المكتوبة بالفرنسية نتاجاً طبيعياً لوضعية تاريخية عشناها منذ الاستعمار وأدت الى تغلغل اللغة الفرنسية في المدارس ومعاهد التعليم، ومن ثمة وجد جيل لا يستطيع ان يعبر عن نفسه الاٌ بلغة الآخر، ولكن هذا الجيل متوفر على وعي بحيث لا يكتب أو لم يكتب دائماً ادباً تحت الطلب، وبالتالي يعبر عن تجربته الخاصة، عن تمزقه وتوزعه بين حضارتين، وهذه النصوص لها قيمتها الادبية والفكرية بدون شك. بطبيعة الحال، التحولات التي صارت فيها المجتمعات المغاربية بعد الاستقلال ادت الى عدم توازن جعل الفرنكفونية تحظى بنوع من النفوذ والانتشار وذلك نتيجة غياب سياسة تستطيع ان تفرض اللغة العربية كلغة اساس وان تجعلها سهلة التعلم والانتشار، وان تمكن الكتاب العرب والاصدارات العربية من التوزيع ومن التأثير. هذا الوضع هو الذي جعل الكتابة باللغة الفرنسية تستمر الى الآن، فمشكلة التعريب لم تحسم بعد. والمؤكد أن بعض الاسماء المغاربية التي تكتب بالفرنسية استفادت من جملة شروط تشجع الكتاب وانتشاره، وتضمن للمؤلف ربحا وفيراً وشهرة واسعة والحصول على جوائز، وهذا النجاح لا يكون دائماً خالياً من الانسياق او الاستجابة لمجموعة من الاشتراطات او الوصفات التي ينتظرها القارئ الاجنبي، لكن في الوقت نفسه نعثر على نصوص مكتوبة بالفرنسية لها قوة ومتعة ولها قيمتها، وتستطيع ان تتفاعل وان تندمج في النصوص المغربية المكتوبة بالعربية عندما تتم ترجمتها الى هذه اللغة مثلما هي أعمال ادمون عمران المليح وعبداللطيف اللعبي والطاهر بن جلون. ان التعبير بأكثر من لغة راجع الى شروط تاريخية وهذه الشروط لا تزال مستمرة، لذلك هناك الكتابة بالعربية وهناك الكتابة بالفرنسية، وقد تستمر للعقود المقبلة، لكن التمييز يجب ان لا يتم على اساس افضلية اللغة لأن هؤلاء ايضاً مغاربة نصوصهم لها روح ومخيلة مغربيتان، كما لا يمكن ان ننفيهم من جمهورية الأدب، على الأقل، لأنهم يكتبون. تقاليد الكتابة ما تقيميك للرواية العربية خارج العواصم الثقافية المعروفة؟ - هذا السؤال يحيلنا على مسألة المركز والمحيط أو الهوامش. هناك تحولات في مجال الرواية. تأتي التقاليد والتراكمات لتلعب دوراً، نتذكر مصر برصيدها الروائي المعروف كما نتذكر سورية ولبنان والعراق. في هذه الاقطار الأنتاج الروائي استفاد من هذه التراكمات وعرف عدة اجيال وأوجد نوعاً من التقاليد في الكتابة، بينما الروايات التي تكتب في مجتمعات المحيط العربية ينقصها هذا التراكم والتبلور والتقاليد، ولذلك النظرة اليها تظل نظرة جانبية. هذه الروايات، روايات المركز اذا صح التعبير، استفادت من تحويلها الى أفلام تلفزيونية وسينمائية، وأسماء مشهورة فرضتها على الساحة، ولكن في الوقت نفسه يجب ان نهتم بما يكتب في المحيط، لأنني كما قلت نلاحظ نصوصاً من الخليج ومن الاردن والسودان وتونس، لاشك ان هناك ما يشبه النبش في مناطق ظلت شبه محرمة، وهذه التجارب المرتبطة بمجتمعات عربية تتكون في سياق مختلف عن سياق العشرينات والثلاثينات يعطي لهذه الكتابة نوعاً من الجرأة والاقتحام وربما احياناً من تجديد التقنية. لا بد من تأمل العلاقة بين المركز والمحيط بهدف تجاوز هذا الفصل المصطنع احياناً، للتساؤل عن مدى امكانية كتابة نصوص روائية تخرج عن اطار الفضاءات والثيمات والموضوعات المعروفة والمتداولة، فهي لم تدرس بما فيه الكفاية، ولذلك تظل الرواية مشدودة الى موضوعات اصبحت أكثر فاكثر تقليدية، في حين ان مجتمعاتنا الحالية، سواء في المحيط أو المركز، أصبحت مخترقة بأسئلة عنيفة تمس الهوية والتحقق الحضاري والعلاقة مع الآخر، كالهجرة، هجرة مواطنين من المغرب العربي أو مصر الى اوروبا، فهذا موضوع لم يحض بما يستحق من نصوص. هناك موضوعات يمكن ان تتجدد على ضوء اعادة النظر بتشكل المجتمع العربي اليوم كما هو بمشكلاته الجديدة، الحضارية والثقافية، اظن انها تستحق المناقشة والخروج من تصنيفات الرواية المشرقية والمغربية، ولكن بطبيعة الحال هذا لا يعني القفز على بعض الملامح الخاصة بانتاج كل بلد.