لم أكف، على مدار أربعة أيام، أنفقتها في قراءة"زهرة الخشخاش"، لخيري شلبي دار الشروق، القاهرة 2006 عن طرح التساؤل الآتي: هل يملك القارئ هذه الأيام ما يكفي من الوقت، أو الصبر، لقراءة رواية تقع في خمسمئة صفحة بالتمام والكمال؟ ربما تقل أهمية سؤال كهذا إذا أعدنا صياغته بطريقة مختلفة: هل يملك الروائي ما يكفي من الأفكار، والأخيلة، والأحداث، والكلمات، لتحبير خمسمئة صفحة؟ في الحالتين يصعب العثور على إجابة محدّدة، طالما أن الجنس الروائي لا يخضع لاعتبارات من نوع الحجم. فقد تأتي رواية في مئة صفحة، دون أن تعاني من نقص ما، وقد تقع رواية في مئات الصفحات دون أن تعاني من طفح ما. فالشرط الروائي يقع في مكان آخر غير الحجم. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى القدرة الحكائية الهائلة التي يتمتع بها خيري شلبي. ففي رصيده عشرات الروايات، التي تمكن بفضلها من انتزاع مكانة يعترف بها الناس في المشهد الروائي المصري، والعربي بشكل عام. وغالباً ما يأتي هذا الاعتراف، وبقدر ما يعنيني الأمر، في ظل نوع من التغاضي عن أشياء أخرى من نوع: ضعف النثر، والثرثرة، التي تسوّغ اختصار أعمال، ربما إلى النصف دونما إلحاق ضرر بالبنية الروائية نفسها. وهذا يصدق على عمله الروائي الجديد"زهرة الخشخاش". للدلالة على هذا الأمر يمكن الاستشهاد بمقاطع معيّنة في الرواية المذكورة، وهي ليست حكراً عليها، إذ يمكن العثور على الدلالات نفسها في أعمال سابقة. فهناك الوعظ، والمرافعات الأخلاقية من نوع: "الخطيئة لا تعتبر انحرافاً يدين الشخصية إلى الأبد، إنما الخطيئة نتاج ضعف تحت ضغوط نفسية وإلحاح واحتياج إنساني حارق. الانحراف مرض في العقل في النفس في القلب في التربية يتحوّل تلقائياً إلى سلوك لا إرادي يصعب علاجه". ليس في هذه الفقرة المبنية على مطلقات، وأحكام نهائية، وتفتقر إلى الفواصل، والمكتوبة في"نفس واحد"ما يصالحها مع الجنس الروائي، الذي قد يفتقر إلى الأعراف، لكنه، بحكم النشأة، والتطوّر، يميل إلى النسبية، وإلى محاولة استكشاف كنه الحالة الإنسانية من خلال بعض حالاتها المتطرفة، كما جاء في عبارة شائعة لسيمون دوبوفوار. علاوة على الوعظ، والمطلقات لا يندر التوقف أمام صياغات ملتبسة من نوع:"عاد سالم في الواحدة مساء"، والمقصود الواحدة بعد الظهر. ففي اللغة العربية، كما في اللغات الأخرى، تقسيمات للوقت، لا تجعل من الواحدة بعد الظهر وقتاً من أوقات المساء. نعثر، أيضاً، على أوصاف، وزخارف بلاغية، تبدو فائضة عن الحاجة، ففي وصفه لما تركته راقصة على مشاهديها يقول:"جعلت الجماد في القاعة يتحرّك، الكراسي، والترابيزات، والجدران انتعشت من فرط النشوة ودبت فيها الحيوية والبهجة". ولا ضرورة للتذكير أن الجدران لا تنتعش، والجماد لا يتحرك. وإذا جاءت أشياء كهذه على سبيل المجاز، فإن المجاز الجيد يعتمد الاقتصاد في الدلالة، بدلا من الإطناب، كما يعتمد الانسجام الدلالي بدلاً من الحشو. فلو قلنا إن القلب يطرب، أو يرقص، أو ينتعش، لتوفر شرط الانسجام. وليس ثمة ما يبرر الاستطراد في الكلام عن مشكلة النثر الروائي لدى خيري شلبي، بل التنبيه إلى حقيقة أن موضوعاته تشفع لدى القارئ، وتمكنه من الاستمتاع بأعمال تدور حول أبناء البلد، والفلاّحين، والمهمشين، وغالباً ما تجري أحداثها في مناطق حضرية بائسة، وفي ظل سحابات من دخان الحشيش، وحوارات وأخيلة شعبية حريفة، وجارحة، تضفي عليها نكهة يصعب العثور عليها لدى روائيين آخرين. وفي هذا السياق تندرج أعمال ذات أهمية خاصة من نوع ثلاثية"أولنا ولد"، وپ"ثانينا الكومي"وپ"ثالثنا الورق"، و"وكالة عطية"، وپ"صالح هيصه". وهي كما تنم أسماؤها ذات نزعة شعبية واضحة. إذا عدنا إلى"زهرة الخشخاش"فإن الاسم يستوقفنا. فالخشخاش نبتة تُستخرج حشيشة الكيف من زهرتها. وهي، بالتالي، ذات طاقات شيطانية كامنة، لما تملكه من كفاءة استدراج الغافلين إلى متع مهلكة، لا يكف الناس عن التحذير من مخاطرها، ولا تكف عن غوايتهم. وطالما أن شلبي يحاول في روايته الجديدة"التأريخ"للمجتمع المصري على مدار عقد من الزمن، من نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى وقوع العدوان الثلاثي على مصر، فمن المرجح أن الزهرة المهلكة مجاز لطبقات، أو فئات اجتماعية، مارست غواية من نوع ما، لكن حقيقتها كانت أشد خطراً، وتأثيراً، من صورتها الخارجية الفاتنة. ولا يحتاج القارئ إلى جهود استثنائية لإدراك كنه، أو طبيعة، تلك الفئات. ففي الحدوتة الداخلية للرواية تتشابك سني المراهقة والبلوغ لدى شاب جاء إلى الإسكندرية من الأرياف، مع قصة عائلة يعود تاريخها إلى زمن محمد علي الكبير. وفي خلفية هذا التشابك تأتي أصداء بعيدة من نوع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحرب فلسطين، وحركة الضباط الأحرار، والعدوان الثلاثي. يتجلى الخير والشر في عائلتين هما العائلة الفلاّحية، التي يقطن بعض أفرادها في الريف، والبعض الآخر في الإسكندرية، وعائلة الشماشرجية، وهم من ملاّك الأراضي، والتجار، ومحترفي المضاربة في سوق السلع والمال. وبينما لا يُذكر تاريخ العائلة الأولى باعتبار أن تمثيلها لأجيال يصعب حصرها من الفلاّحين المصريين من قبيل تحصيل الحاصل، فإن تاريخ العائلة الثانية يبدأ مع محمد علي الكبير، الذي تقرّب منه أحد البدو، فنال بفضله مناصب رفيعة، وإقطاعيات كبيرة. وفي حين تكتفي عائلة الفلاّحين بالقليل، وتمارس الزراعة، أو الوظيفة العمومية في ظل تمسك بالقيم، ينغمس أفراد العائلة الثانية ذات الأصول البدوية في تكديس الثروة وتعزيز الهيبة الاجتماعية من خلال ألقاب رسمية يشترونها بالمال، ومظاهر بذخ تترك آثاراً مدهشة في أذهان الفلاّحين. وهذه العائلة التي يتظاهر أفرادها بحسن السلوك، مندسة في مختلف أنواع المهن، والتجارة، والوظيفة العمومية، حتى في تنظيم الضباط الأحرار. بين قالبي الخير والشر المذكورين، تمارس الحياة الشخصية للفاعل الروائي، أو الشخصية المركزية، دور المحفز على تظهير كما في الصور الفوتوغرافية ما لدى العائلة الأولى من قيم نبيلة، وما لدى العائلة الثانية من قيم زائفة. ولا ضرورة، هنا، للخوض في التفاصيل، بل لفت الانتباه إلى حقيقة أن القيم الفلاّحية الخالدة ليست في الواقع سوى صياغة متأخرة، تمت في أواخر القرن التاسع عشر، على أيدي رجال النهضة المصرية. وفي كتاب صدر قبل سنتين لسماح سليم حول الفلاّح والرواية في مصر، ما يلقي الكثير من الضوء على أسباب تلك الصياغة، ومبرراتها الاجتماعية والسياسية. وبالقدر نفسه، فإن البحث عن أسباب وراثية تبرر سلوك ملاّك الأراضي، والطبقات الحاكمة في مصر قبل حركة الضباط الأحرار، لا يشوّه الحقيقة التاريخية وحسب، بل يحيل التضاد بين الخير والشر إلى أسباب جينية. بمعنى أن الجينات التي يحملها الناس تفسّر سلوكهم الاجتماعي. وهذا بدوره يقود إلى إشكاليات كثيرة من نوع خلق وتعزيز الغيرية، والتمركز حول الذات وكراهية الغريب. لتعزيز الغيرية يعقد شلبي تحالفاً بين العائلة الثانية واليهود المصريين، أو على الأقل غير الشرقيين منهم. يتجلى هذا التحالف في الزواج، طبعاً، وفي علاقات الشراكة في تجارة المخدرات، والتهريب، وأخيراً في التآمر معاً لإمداد اليهود في فلسطين في نهاية الأربعينات بالمال والسلاح. وفي هذا السياق تقوم شخصيتان هما أم يهودية، وابنها من أب ينتمي إلى عائلة الشماشرجية بدور وسيلة الإيضاح. الوسيلة التي ندرك من خلال أفعالها، وسلوكها، ومظهرها الخارجي، فنون الخداع والغش والتآمر، والتجرّد من الأخلاق. وكما في كثير من الأشياء المشابهة، فإن الجنس، والمخدرات، والتحايل، وصفات مضمونة، ومتوفرة في القالب الأصلي، استعان بها السرد الروائي دون تردد، أو حتى شكوك خاصة حول جدواها. وما قيل عن محاولة تفسير سلوك طبقة اجتماعية استناداً إلى أسباب وراثية، يمكن أن يُقال عن استحضار شخصيات يهودية وتفسير سلوكها استناداً إلى جوهر ثابت"لا يزول، ولا يدول". والمفارقة، هنا، أن فكرة الجوهر اليهودي الثابت مركزية في العمارة الأيديولوجية للصهيونية نفسها. وعلى رغم أن حضور اليهودي في الأدب المصري كان محدوداً، وقليل الشأن، فإن بعض تجلياته لدى إحسان عبد القدوس، مثلاً - في هذا الشأن دراسة مهمة لرشاد الشامي - تحاول استكشاف ما ينطوي عليه من تعقيد، وما يعتمل في داخله من حراك بالمعنى الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، كما في رواية"لا تتركوني هنا وحدي"وتتجاوز محاولة خيري شلبي المتأخرة، وذات البعد الواحد، العاجزة عن الخروج على الصور النمطية المعادية للسامية، والتي تحيل السلوك إلى الجينات. تقوم القوالب الإضافية - الغنى والفقر، الزيف والأصالة - بدور العامل المساعد في تعزيز قالب الخير والشر. فعائلة الفلاّحين فقيرة في المال، وغنية في الأخلاق، خلافاً للعائلة الثانية، بطبيعة الحال. أما التقنية الروائية لنقل الغنى والفقر من القالب الكوني إلى السرد الروائي فهي القصة المجربة، المألوفة، وذات التجليات المشابهة، دائماً، عن الفقير الذي يحب ابنة الغني، أو يشتهي امرأته. وقد تحقق هذا الأمر من خلال علاقات فرضتها الصدفة على الفاعل الروائي، الذي وجد نفسه متوّرطاً في علاقة حب مع زوجة أحد أغنياء عائلة الشماشرجية. علاقة فرضها القدر، وكانت - كما في عدد لا يحصى من الروايات والأخيلة الشعبية - بين شاب في مقتبل العمر، وامرأة تشكو الحرمان، والمعاملة السيئة من جانب زوج يكبرها في السن، ويعاملها كقطعة أثاث في البيت. وكما في أفلام الميلودراما انتهت العلاقة بالزواج من الحبيبة بعد حصولها على الطلاق. تثير"زهرة الخشخاش"أسئلة كثيرة من نوع: إلى أي حد تسهم القوالب الأصلية في نجاح الشرط الروائي، وهل ثمة ما يبرر توظيفها دون محاولة كسر ما تنطوي عليه من نمطية، وحبكات مألوفة، وأخيلة متداولة، وهل تنسجم النهايات الميلودرامية السعيدة مع هذا الشرط، وهل ثمة ما يبرر الأحكام المطلقة مع جنس من أجناس التعبير يقوم على النسبية، واللايقين، وينفتح على احتمالات غير متوّقعة دائماً؟ وهل هي رواية تاريخية، إذا كان الأمر كذلك، فإن شرط الرواية التاريخية لا يتمثل في استعادة أسماء وأزياء كانت شائعة في زمن ما، بل في استبطان ذلك الزمن. وكما أن أحداً لا يذهب إلى الماضي حباً في الماضي، بل يفعل ذلك استجابة لأسئلة يطرحها الحاضر، هل في تفسير حاضر مصر بالعوامل الوراثية، والجينات ما يسهم في فتح مغاليق الحاضر؟ يصعب القول، وبقدر ما يعنيني الأمر، إن الإجابات المحتملة لأسئلة كهذه، ستكون في صالح القوالب أو الجينات. وبالقدر نفسه فإن الفن الروائي زهرة خشخاش من طراز نادر، لا تكف عن الغواية، ولا - من حسن الخط - عن تكسير القوالب. وإذا لم نصدق، فلنعد إلى ما قوبل به من معارضة وصدود في الشرق والغرب، على حد سواء، منذ لحظة ظهوره حتى الآن، وما مارسه من هدم، وخلخلة، وتفكيك، وهذه، على أية حال، مسألة أخرى. * ناقد فلسطيني