أكثر ما يؤشر على الثقافة العربية في وضعها الراهن هو أزمتها المستديمة في التواصل الثقافي وانشغال كتابها ومبدعيها بهموم هي أبعد ما تكون عن الثقافة أنتاجًا وإبداعًا وتواصلا خلاقا، ولعل تفشي ظاهرة الإهمال الحكومي للثقافة العربية وشيوع مظاهر القمع السلطوي وتحويل المثقف العربي إلى مثقف مهدد بالجوع والخضوع وانعدام الاستقلالية المطلوبة لحرية التعبير هي وراء انقلاب المثقف على الثقافة نفسها وعدها حقلا عاطلا عن العمل ولا يجلب لصاحبه غير العار والنار، وهذا ما مس ثقافات عربية كانت فاعلة في ستيناتها الذهبية من جيل الرواد في العراق ومصر ولبنان وصارت هذه الأجيال أساطير في الكتابة والتعبير والانتشار والتأثير بينما جاء تراجع الأجيال اللاحقة وانحسار فرصها في الظهور ظاهرة جديرة بالبحث على ضوء سوسيولوجيا الثقافة العربية اليوم، خصوصاً أن المثقف العربي كان دخل في مرحلة ما بعد اليأس بالنسبة لعلاقته بالمؤسسات الثقافية الحكومية وصار البحث عن استثمار الثقافة نوعا من الوهم المضحك والأمل الضائع قبل شروعه، بل وبلغ الأمر بالمثقف العربي أن يكف عن التفكير بالثقافة على أنها خطاب مجتمعي له علاقة أساسية بالتنمية الثقافية والتقدم المدني والنكوص بها إلى مجرد ممارسة فردية خاصة خاضعة لظروف ذاتية ولمتقلبات الحال من معيشة واسترزاق ومناسباتية وعطف حكومي عابر وغير مؤثر. وهو ما نشاهده كل يوم ونساهم فيه بأنفسنا حتى كان ادوارد سعيد يعبر عن أزمة الثقافة العربية بأنها تكاد أن تكون ثقافة تنتج أزماتها وبعض من الكتاب العرب كان يطلق على الثقافة صفة الثغاء وهو تعبير يراد منه تكريس الثقافة كونها تابعة إلى مثقفها الضعيف الذي لا يعدو أن يكون خروفا داخل قطيع مهزوم ومغلوب على أمره. هذا فضلا عن بعض التصورات التي تذهب إلى حد استبدال الكتابة العربية بحقل آخر هو حقل الممارسة الثقافية مع الآخر الأوروبي أو غير الغربي بواسطة الذهاب إلى اعتناق الثقافات الانكلوسكسونية أو الفرانكفونية التي تمنح صاحبها الكثير من الامتيازات وتتيح له حق التعبير والعيش والانتشار والازدهار, أو في القليل البحث عن فرص الإعارات للجامعات الأجنبية أو التقرب إلى مؤسسات الترجمة من طرف واحد وغيرها من طرق التسول والبحث عن الخلاص الفردي خارج الوطن. ما دفعني لا استرجاع واقع حال الخطاب الثقافي العربي في ما تقدم هو واقع متابعتي لما اقرأ واطلع عليه من نشاطات دائرة الثقافة والإعلام في عجمان لاسيما في مشروعها الموسوم ليالي عجمان الثقافية وانفتاحها على ممارسات ثقافية متنوعة يتم عقدها تباعا على ارض إمارة عجمان وبرعاية مباشرة من الشيخ عبد العزيز بن حميد النعيمي رئيس دائرة الثقافة والإعلام حيث تم تنظيم العديد من الفعاليات الثقافية التي يتم التنسيق مع السفارات والمراكز الثقافية العربية ليكون لكل ثقافة عربية ليلتها الخاصة التي تعبر من خلالها عن هويتها الإبداعية وخصوصية منجزاتها الأدبية والفكرية والنقدية. والملفت في هذه الظاهرة أن العمل الثقافي في عجمان لا يخضع لمناسبات سياسية أو قومية معينة أو محاولة تسويغ العمل الثقافي بما هو خارج عنه او طامغ له أو مسقط عليه هموم وغايات لا طائل للعمل الثقافي على حملها وتحملها, بل هو جزء من مشروع تنموي كبير يجري في هذه الإمارة منذ زمن ليس بالقليل فقد شهدت عجمان المهرجان الأول للشعر والمسرح عام 1960. وهو يضع برامج وحلقات عمل واحتفاليات ومؤتمرات ومشاريع تنسيق وأسس علاقات ثقافية فاعلة ولها أبعادها الإستراتيجية التي تصب في خدمة المشروع الثقافي الخليجي العربي. ولعل انتباهة عاجلة لطبيعة هذه المشاريع المهمة تضعنا أمام مسؤولية الحرص عليها والعمل من اجلها وعدها نموذجا لما يمكن الاصطلاح عليه بالثقافة العربية في طور الاستثمار الثقافي والتبادل المشترك وهو برنامج اضطلعت به دائرة الفنون والثقافة في عجمان برؤية متفردة تهدف إلى معالجة النقص الثقافي الحاصل في الساحة العربية إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار واقع المشهد السياسي العربي المعقد وطبيعة الأزمات الدورية المستفحلة التي تعكسها الأطر الثقافية المؤجلة أو المسيسة دينيا وشيوع ثقافة العنف والتسلح الضدي ومنهجية القمع الثقافي وتمويع دور المثقف وتهميشه شيئا فشيئا, فإن تفعيل ساحة ثقافية متواصلة وتمكين الثقافة من استعادة منبرها العربي والعمل على تلاقي وتواصل المثقف العربي مع نظيره سيكون مشروعا خصبا ومهما لابد من وجود مؤسسة عربية فاعلة للقيام به والحرص عليه لاسيما وان الموارد العربية كفيلة بتحقيق مشاريع كهذه تعيد للثقافة منزلتها الأولى وتساهم في تمتين البنية الفوقية للمدنية العربية التي تعاني نقصا فادحا في الإنتاج الثقافي إضافة إلى انحسار مفهوم المثقف العضوي وغياب الخطاب الفكري الثقافي التنويري الذي صار غير قادر على مواكبة حركة الثقافة العالمية وغير مؤهل للمساهمة بها او التكافؤ معها. وهذا يسقط من حساباتنا ما نقع فيه غالبا من اتهام المؤسسات العربية بانشغالها بهمومها ومصالحها الخاصة وغالبا ما يكون المثقف العربي يائسا من إسناد دور تفعيلي له أو حثه على العمل الثقافي المشترك ان واقع حال الثقافة العربية الإماراتية اثبت وبمناسبات كثيرة بان الثقافة هي الممارسة الحضارية الأولى وكانت المؤسسات الثقافية في الإمارات عاملا أساسيا في دعم الإبداع العربي وإعلاء شأنه ماديا وثقافيا ولعل"ليالي عجمان"الثقافية تعطينا فهما موسعا للفعاليات الثقافية وكيفية خلق جسر للفنون المختلفة من شعر وأدب ومسرح وسينما وفن تشكيلي وفكر ونقد وغيرها من فنون لكي تتآخى وتتجاور رغم اختلافها الصحي وصراعها الجمالي والإبداعي المطلوب وهو المشروع الذي نتطلع إليه ليكون بديلا عن الإحساس بالإحباط واليأس الثقافي لاسيما أن ما نلمسه في فعاليات عجمان الثقافية من حرص على عدالة المشاركة العربية وتوفير فرص متساوية للأجيال الثقافية مع تفاوتها العمري والتجربي المطلوب وحرصها على خلق فسيفساء من التكامل الجمالي للفنون البصرية والسمعية والكتابية يولد الثقة في أنفسنا بأن نهضة ثقافية عربية ممكنة التحقيق وأن ما تفرقه السياسات توحده الثقافة وتتقارب فيه وتنفق الأموال الطائلة من اجل تحقيقه واستثماره كنوع من الرأسمال الرمزي الذي لا غنى عنه ولا بديل له ولا عذر في التقصير معه أو إهماله اليوم أو غدا. پ * كاتب عراقي مقيم في القاهرة