انطلاقاً من الماضي وتحديداً من امرئ القيس، تكشف الناقدة الفلسطينية ريتا عوض الأبعاد الإنسانية في الثقافة العربية، في أشكالها الانتاجية، داعية المثقفين العرب الى مراجعة جادة للضمير ومحاسبة النفس لتقويم ما أنجزته الأمة العربية عبر قرن كامل من محاولات النهضة. تعمل ريتا عوض في المنظمة العربية للتربية والثقافة في تونس. وتنصرف الآن الى وضع اللمسات الأخيرة على كتابين لها في النقد الأدبي سيصدران قريباً وفيهما تواصل مسيرتها النقدية الخاصة والجامعة بين مناهج عدة وترسّخ مشروعها القائم على التوفيق بين الحداثة والبعد التراثي. حددت الناقدة عوض بنية الحداثة الشعرية الأصيلة، تلك التي تمدّ جذورها في تربة الواقع من دون أن تحاكيه أو تغترب عنه. عن علاقتها بالشعر الجاهلي ورؤيتها النقدية الى النتاج الثقافي العربي وإشكالية النص والمشروع الثقافي في المنطقة كان معها هذا الحوار: شريحة واسعة من المتلقين تتهم النص العربي، في كل أشكاله الانتاجية، بتناقضه مع الواقع. ثمة فاصل بين الواقع المرّ وحلمية النص. كناقدة كيف ترين هذه الازدواجية؟ - يطرح هذا السؤال قضية العلاقة بين العمل الفني والواقع، وهي إشكالية نقدية قديمة عالجها النقاد، كل بحسب المبادئ الفكرية والجمالية التي ينطلق منها في صوغ مذهبه. وإذا أخذنا الشعر مثالاً، وعدنا إلى تاريخ الأدب في الغرب، نجد أن الشعر والنقد تناوبا اتجاهي الارتباط بالواقع والانفصال عنه: فالنقد الكلاسيكي، كما وضع أسسه أرسطو قال إن الشعر محاكاة للواقع وتمثيل للفعل الإنساني. هذا المبدأ تبنته الكلاسيكية المستحدثة في الغرب قروناً عدة حتى الثورة الرومنطيقية، وقد بنى دعاتها بإبداعاتهم عالماً مستقلاً عن الواقع، وكانت الدادائية والسريالية أقصى ما وصل إليه الشعر من قطيعة مع الواقع. وفي أدبنا الحديث وجدت الاتجاهات الأدبية المنقطعة عن الواقع صدى لها،غير أنه يصعب القول إن الأدب العربي في عصرنا، في أشكاله جميعاً، منفصل عن الواقع " بل أزعم أن جانباً كبيراً من أدبنا المعاصر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالواقع الحضاري لأمتنا. وإذا التفتنا إلى الشعر العربي الحديث يمكننا القول إن حركة الحداثة الأصيلة ثارت على ما ابتليت به القصيدة الرومنطيقية من ذاتية مغلقة وأعادت ربط الشعر بالحضارة، وتميّز الأصيلون من الشعراء المحدثين بالإدراك النافذ للواقع في كل مستوياته. ولعل أفضل مثال على تجذر الشعر العربي الحديث في واقعه ووعي الشاعر لذلك الواقع وانغماسه في همومه وتعبيره عنها تعبيراً فنياً متميزاً نجده في شعر خليل حاوي الذي يمكن اعتباره الشاعر الحضاري بامتياز في شعرنا العربي الحديث، وقد بيّنت ذلك في مقدمتي لديوانه الصادر عام 1993. وفي الوقت نفسه ظل في شعرنا المعاصر شعراء أكثر ارتباطاً بمحاولة محاكاة نماذج الشعر الغربي منهم بواقع عالمنا العربي وبتاريخه وحضارته، ظناً منهم أن الحداثة هي اتباع تلك الأنماط الغربية، وأفضل مثال على هذه الفئة، في رأيي، هو أدونيس وخصوصا في شعره منذ السبعينيات من القرن العشرين. لكن ارتباط الشعر بالواقع لا يعني أنه انعكاس مباشر للواقع. ولو كان كذلك لما تميّز عن لغة الحياة اليومية التقريرية المباشرة. من هنا يبقى السؤال النقدي الأساسي في هذا المجال: كيف يمكن للشعر أن يظل مرتبطاً بالواقع التاريخي، محتفظاً بما يتسم به ذلك الواقع من حيوية وتجاوز من غير أن يكون انعكاساً مباشراً للواقع؟ ولعل أفضل ما انتهى إليه النقد الأدبي الحديث من إجابات عن هذا السؤال تمثل في ما وصل إليه الكاتب الفرنسي الماركسي لويس ألتوسر من تحليل للشعر بما هو خطاب مستقل نسبياً عن الواقع وتاريخي في الوقت نفسه" بمعنى أن للشعر بنيته الفنية الموحدة التي تقدم رؤية فنية خاصة للواقع وتعبيراً رمزياً عنها من دون أن تكون انعكاساً مباشراً للواقع المغاير في بنيته وإيقاعه لبنية العمل الفني. من هنا يمكن القول إن الأصيل من شعرنا الحديث هو الشعر الذي يمدّ جذوره في تربة الواقع ويقدم رؤية فنية متجاوزة لهذا الواقع، لا تحاكيه وفي الوقت نفسه لا تغترب عنه. ولعل هذا من أكبر التحديات التي يواجهها الفنان والأديب والشاعر. ذكرت أن الأصيل من الشعر الحديث يرتبط ارتباطاً خاصاً بالواقع الحاضر للأمة" كيف ترين ارتباطه بماضيها مع انطلاقه نحو المستقبل؟ - إن علاقة الشعر بحاضر الأمة وواقعها الراهن وتطلعه إلى استشراف المستقبل لا ينفيان ارتباطه بماضيها: بتاريخها وتراثها، بل إنه يفترض هذا الارتباط. وكما أن علاقة الشعر بالواقع قضية نقدية أساسية في تاريخ الأدب والنقد، كذلك هي علاقة الشعر بالماضي وخصوصاً علاقته بالتراث. ويمكن القول إن الحركة الرومنطيقية في أوروبا وتجلياتها الأميركية المتأخرة التي عرفت في العشرينات والثلاثينات باسم المدرسة التجريبية، انفردت في تاريخ الأدب الغربي باتخاذ موقف يدعو إلى الانفصال عن التراث، وذلك انطلاقاً من مبدأ فلسفي يعلي الفرد على المجتمع من حيث الأهمية. وعاد التحوّل إلى القول بارتباط الشعر بالتراث في الغرب بانطلاق حركة الشعر الحديث التي قامت لمواجهة الحركة الرومنطيقية وكان أكبر دعاتها في الأدب والنقد الغربيين تي إي هيوم وإزرا باوند وتي اس إليوت الذين أرسوا الأسس النقدية والفنية للحداثة الشعرية. ويمكن لتعريف إليوت للتراث أن يعدّ حجر الزاوية لتناول هذه القضية حيث يقول: إن التراث يتضمن أساساً الحسّ التاريخي الذي ينطوي على إدراك نافذ ليس لماضوية الماضي فحسب بل لحضوره، وهو يلزم الشاعر ان يكتب لا بوعي الانتماء إلى جيله فحسب، بل بتأثير الشعور بأن أدب بلاده بأسره موجود بشكل متزامن ويؤلف نظاماً متزامناً. هذا الحسّ التاريخي - على حدّ قوله - هو ما يجعل الكاتب يعي مكانه في الزمن، أي كونه معاصراً. وإذا عدنا إلى حركة الشعر الحديث العربية نجد أن قضية العلاقة بين الشعر الحديث والتراث كانت إحدى أبرز القضايا النقدية التي طرحت في الساحة الثقافية. وفي رأيي أن هذه القضية ظلت بعيدة عن الوضوح في أذهان عدد من منظري الحداثة الشعرية العربية، وقد عالجها بعضهم بشكل مبتسر وسطحي، غير مدركين ما تنطوي عليه من مبادئ فلسفية وأسس نقدية جمالية، وعلى رأس هؤلاء يأتي أدونيس الذي دعا إلى الانفصال عن التراث ورأى أن الإبداع يكون في الاختلاف وأن رفض التراث والقطيعة معه علامة الأصالة والجدّة. ومن المؤسف أن هذه الفئة من الشعراء عالجت هذه القضية الفنية والنقدية والفلسفية الدقيقة بسطحية وتسرّع ولم تأت بنظرة عميقة في جوهر مسألة الارتباط بين الحداثة والتراث، فظلت الحداثة الشعرية على أيدي هذه الفئة مجرد نقل لأشكال خارجية وصيغ شكلية لقصائد هذا الشاعر الغربي أو ذاك، فكان تجديد أفرادها تجديداً شكلياً وهامشياً وظل التحوير الذي أدخلوه على القصيدة العربية سطحيا وخارجيا، وكانت "حداثتهم" فارغة بلا مضمون. غير أن شعراء آخرين أدركوا أن علاقة الشاعر العربي بتراثه لا تعني النقل الساذج لأنماط شعرية قديمة، لكنها تنطوي على الاستيعاب المعمق للتراث الثقافي بتجلياته الفنية والفكرية وهي علاقة جدلية معمقة من التواصل والانقطاع، ويمكن اعتبار خليل حاوي أبرز رموز هذه الفئة من الشعراء وكذلك البياتي في إبداعاته وتنظيره حول الشعر والحداثة. قد يستنتج من كلامك أنه على رغم شهرة عدد من الشعراء المحدثين العرب وشيوع نتاجاتهم، يوجد نقص واضح في ثقافتهم الشعرية.. كيف ترين هذه القضية؟ - لا شك في أن ثقافة الشاعر في كل عصر من العصور شرط أساسي من شروط الإبداع الشعري العظيم والمتميّز، فكلما تعمّقت ثقافة الشاعر كان أقدر على الرؤيا الثاقبة والشاملة وعلى التعبير عن قضايا الوجود وأغوار النفس الإنسانية والمعضلات التاريخية والحضارية. فمثلاً كان شكسبير ملمّاً بالتراث الإنكليزي والتاريخ الأوروبي فجاءت أعماله المسرحية تعبيراً عن تجليات الحضارة الغربية مع غوص في الأعماق النفسية للإنسان وإحاطة رائعة بقضاياه الوجودية. واشتهر غوته بثقافته الشاملة لكل ما في عصره من فلسفة وسياسة وعلوم حتى استطاع أن يبدع فاوست الذي تجسّد رمزاً للإنسان في الحضارة الأوروبية ونموذجاً أصلياً لماهية الإنسان في كل الحضارات . وفي تراثنا العربي كان شاعر العربية الأكبر، المتنبي، محيطاً بثقافة عصره : فكان ملماً بعلوم عصره بما فيها الترجمات الواسعة من اليونانية إلى العربية، فجاء شعره عميقاً وشاملاً حتى قيل: ما اجتمع اثنان يتحدثان إلا وكان المتنبي ثالثهما. إذاً ليس الشعر كلاماً منزلاً تمليه ربة الشعر كما قال الرومنطيقيون " إنما الشعر ثقافة كما قال ابن سلام الجمحي وهو صناعة كما قال أبو هلال العسكري، لأنه يعتمد اعتماداً كبيراً على الثقافة والعلم والدربة فضلاً عما يفترضه من موهبة تتمثل في رؤية متميزة للعالم والإنسان وقدرة على التعبير المجازي - وهي ما سماها أرسطو بسمة العبقرية التي لا تُعلّم في تعريفه الشهير للاستعارة - والتوجه إلى التعبير بالإيقاع المنضبط الذي يتخذ غالبا صيغة الوزن. وهنا لا بد من أن نعرّف ثقافة الشاعر" فليس المقصود بثقافة الشاعر ما يسمى ب"الثقافة الشعرية" وتعني بالنسبة إلى البعض مجرد اطلاع على ما يقع مصادفة تحت أيديهم من أنماط شعرية عربية أو غربية والتأثر بها تأثراً سطحياً وشكلياً ومحاكاتها أو النقل عنها، بل المقصود بثقافة الشاعر الإلمام بالتجليات الثقافية بما فيها الفلسفة والعلوم في حضارته القومية والحضارة الإنسانية، إلماماً مشفوعاً بالنظرة النقدية الثاقبة القادرة على الانتقاء والتصفية والهضم والتمثّل لامتلاك ما يستوعب وتحويله إلى مادة ذاتية، كالشجرة التي تمتص الغذاء من التربة وتستنشق الهواء وتحوّلهما عن طبيعتهما لتنمو وتثمر. وهذا مطلب ليس بالهيّن ولكنه حتمي لإبداع شعر حضاري وجودي إنساني، لا مجرّد غنائية فردية ساذجة أو تعبير ذاتي مبسّط عن انطباعات شخصية أو هموم آنية. بدأت بنقد الشعر العربي الحديث وانتقلت إلى نقد الشعر القديم" لماذا هذا التحوّل؟ وبماذا تمّيز كتابك عن امرئ القيس عن الذين سبقوك في الكتابة عنه؟ - إن عملي الأساسي هو النقد الأدبي من حيث هو حقل معرفي نظرياً وتطبيقياً، مع التركيز على دراسة الشعر العربي حديثاً كان أم قديماً. فأنا أؤكد ما ذهب إليه سينتسبوري في قوله: "القديم من دون حديث حجر عثرة، والحديث من دون قديم هراء لا طائل منه"" فلا يمكن الفصل في أدب أمة ما بين تراثها القديم وأدبها الحديث، فالأدب القومي يشكل نظاماً متكاملاً وموحّداً يوجد في شكل متزامن على حدّ تعبير إليوت. لذلك لم تكن دراستي للشعر الجاهلي تحوّلاً من حقل دراسي إلى آخر، بل كانت استمراراً لمشروع نقدي يهدف إلى تناول الشعر العربي بنظرة جديدة تكشف أبعاده الإنسانية وتضعه في إطار التراث الأدبي الإنساني. ولعل من أبرز مميّزات دراستي للصورة الشعرية في ديوان امرئ القيس أنها سعت إلى إرساء منهج نقدي خاص لدراسة تراثنا الشعري العربي لتحديد خصائصه التعبيرية وبنيته الفنية المتميزة من خلال تطوير مفهوم لطبيعة الصورة الشعرية في القصيدة الجاهلية ينتج منه تصوّر للبنية الفنية الموحّدة لتلك القصيدة ولإبداع الشاعر بأكمله، مخالف للاتجاه الذي سارت فيه الدراسات النقدية التقليدية التي لم تتجاوز التفسير الحرفي للمعاني، فلم تجد في القصيدة سوى أبيات مضطربة وبنية مفككة. وتوصلت الدراسة إلى تحديد عناصر تكوينية للبنية الصورية للقصيدة يمكن أن تعدّ مبادئ أساسية في نظام شعري عربي يجلو خصائص المنطق الفني الموجه للتعبير الشعري في تراثنا. وقد بينت أن هذه المبادئ هي تعبير عن فلسفة جمالية هي وليدة موقف من الحياة يتصف بعدم الانسجام وبتوق إلى التخطي. فلم يكن الشعر الجاهلي انعكاساً مباشراً للواقع بل بنية فنية موحدة تقدم رؤية فنية للحياة وتعبيراً رمزياً عنها، يكتشف علاقة الإنسان بمظاهر وجوده الخارجي والموقف المتجاوز للإنسان المبدع. والرؤية النقدية التي تقدمها الدراسة تؤكد أن العمل الأدبي موضوع للقراءات المتجددة التي تعيد إبداعه عبر العصور بربطه بنظام أدبي متطوّر ومطوّر بتطوّره الأعمال الأدبية كافة التي يتألف منها. بهذه الرؤية يكتسب الشعر القديم دلالات إنسانية متجاوزة للزمن فيغدو متزامناً مع الشعر في كل العصور ويتكامل مع التراث الإنساني العالمي. حيرة، قلق، هروب.. لعلها من سمات النتاج الثقافي العربي الآن، ترتبط بضبابية الواقع السياسي وتجلياته المرّة. هل يمكن المثقف والمبدع أن يقفزا فوق هذا؟ وكيف ترين المشروع الثقافي العربي على أعتاب القرن الجديد، وتحديداً المشروع الثقافي الفلسطيني بعد ولادة السلطة الوطنية؟ - هذا السؤال يعيدنا إلى سؤالك الأول المتعلق بعلاقة الإبداع بالواقع " فإذا كان الواقع مرّاً هل يعكس العمل الإبداعي تجليات الواقع كما هي أم هل يقابلها بالحيرة والقلق، أم يهرب منها أم يغترب عنها؟ وأعود إلى تأكيد مبدأ الاستقلالية النسبية للعمل الفني عن الواقع، وأؤكد مجدداً أنه لا يجوز التعميم وإصدار الأحكام المطلقة على النتاج الثقافي والإبداعي العربي بأسره. هناك مثقفون ومبدعون عرب في عصرنا أدركوا المعضلة الحضارية التي تعانيها الأمة العربية في عصرنا وتوخوا في نتاجهم التعبير عنها وكشف التحديات التي تواجهها أمة عانت الانحطاط الحضاري قروناً طويلة وحاولت تحقيق نهضة حضارية بدأت الدعوة لها مع بدايات القرن العشرين في الفكر والأدب والفنون والسياسة والاقتصاد والحياة العلمية والثقافية والاجتماعية. وهنا أود أن أشير إلى أن الواقع العربي ليس واقعاً سياسياً فحسب، فالوضع السياسي هو وجه من وجوه هذا الواقع، هو تجلّ من تجليات وضع حضاري معقد يشتمل على خيوط متشابكة تشكل نسيج هذا الواقع. فإذا كانت التجليات السياسية للواقع العربي مرّة، وهي فعلاً كذلك، فليس الأمر إلا دليلاً على وجود داء يتخطى الواقع السياسي إلى ما هو أعمق منه، وما الواقع السياسي سوى أحد أعراضه. ولعله بعد انقضاء قرن شاءه العرب أن يكون عصر نهضتهم، يجدر بالمثقفين والمبدعين العرب أن يقفوا وقفة تأمل ونقد ومحاسبة للنفس ومراجعة للضمير القومي لتقويم ما أنجزته هذه الأمة عبر قرن من محاولات النهوض. ولا بدّ من طرح السؤال: هل كان القرن العشرون عصر نهضة عربية حقيقية؟ وماذا أنجزت الأمة العربية فيه مقارنة مع غيرها من الأمم التي سعت لتحقيق نهضتها الحديثة؟ ما هي العقبات التي وقفت في طريق تحقيق ما كان مرجوّاً؟ ما هي طموحات الأمة للقرن الحادي والعشرين أو للعقدين الأولين منه على الأقل؟ إن هذه المراجعة الذاتية الحميمة لما أنجز والتخطيط الواعي المسؤول لما سيأتي هو في رأيي ما ينبغي للمثقفين العرب، فرادى وجماعات، ومؤسسات رسمية وأهلية، أن يقوموا به، اليوم قبل الغد، ليكون المثقف العربي فاعلاً في عصره ومجتمعه وصوتاً لضمير الأمة ورائداً للانطلاقة المنشودة. هذه المراجعة هي أساس وضع مشروع ثقافي مستقبلي عربي، ومن ضمنه المشروع الثقافي الفلسطيني الذي يشترط أن يكون ملتحماً به. وأؤكد أن هذا المشروع الثقافي لا بد من أن يتسم بالبعد القومي، فالثقافة العربية الموحّدة هي حصننا الأخير في مواجهة تحديات العولمة ومخاطرها المحدقة بثقافات العالم. والمخاطر التي يواجهها العرب جميعاً على حدّ سواء، مضاعفة. فالمشروع الصهيوني يشكل تهديداً خطيراً لا للذاتية الوطنية الفلسطينية فحسب، بل لمستقبل الأمة العربية ووجودها، وعلى العرب أن يعوا ما يواجههم من تحديات ليحددوا سبل الاستجابة لها. ولعل هذه الأمة بالرؤيا الثاقبة وبالتخطيط الواعي وبالعمل القومي المشترك تحقق في القرن الوليد ما لم توفق إلى تحقيقه في القرن الراحل.