حتى لحظة وصول النعوش التي "عادت" من فلسطين أمس، إلى بيروت، بعدما كانت وجهة أصحابها "ارض الوطن"، لم يكن ثمة ترتيبات واضحة عن المكان الذي سترقد فيه رفات 191 شهيداً معظمهم من الفلسطينيين. "يوم العودة"أيقظ مشاعر متناقضة لدى العائلات الفلسطينية التي استعادت حزناً مؤجلاً عشرات السنين، وأيقظ في الوقت نفسه حنيناً وذكريات لم يمحها الزمن مثلما أيقظ غضباً لم يكن سهلاً تجاهله. منطقة الطريق الجديدة وامتداداتها في اتجاه المخيمات الفلسطينية في بيروت استعادت أمس، صور الشهداء الأوائل لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، الذين انطلقوا من لبنان في اتجاه فلسطين ولم يعودوا. صورهم ملأت جدران الأحياء في الفاكهاني وابو سهل ومحيط المدينة الرياضية وعلى طول الطريق بين مقبرة شهداء فلسطين في شاتيلا الى محلة صبرا وجامعة بيروت العربية، فيما رفعت لافتات منها ل"الاتحاد النسائي الفلسطيني"وأخرى لأهالي الطريق الجديدة ترحب بالشهداء العائدين ولا سيما"عروس"المنطقة دلال المغربي. والاستعدادات لدفن الشهداء بدت فردية، فأمام مقبرة شهداء فلسطين الوحيدة في بيروت والتي فتحت أبوابها أمس، بشكل لافت وزينت بالأعلام الفلسطينية، عدد من النسوة يبحثن عن حفرة يدفن فيها نعوشاً فاق عددها مساحة المقبرة نفسها. لكن كيف يمكن تحديد موعد الجنائز وأي رفات سيدفنون؟ فالأيام التي فصلت بين الإعلان عن موعد تقريبي لتنفيذ اتفاق التبادل وبين التنفيذ الفعلي، يبدو انها لم تكن كافية لا للممثلية السلطة الفلسطينية لدى لبنان للبحث في هذه الإجراءات ولا لپ"حزب الله"لاتخاذ قرارات بالإنابة عن الفلسطينيين أنفسهم، على ان كل الأمور بقيت مرهونة بكيفية التعرف الى الرفات خصوصاً بعدما تبين ان إسرائيل اكتفت بترقيم النعوش من دون أسماء والكشوفات المرفقة أظهرت الحاجة الى جهود مضاعفة للتأكد من هويات الجميع. مازن الصغير شقيق الشهيد الفلسطيني عزمي الصغير الذي حضر من الخارج لتسلم رفات أخيه من اجل دفنها كما ارتأت العائلة في الأردن لقربها من رام الله مقر إقامة العائلة، بقي ينتظر حتى مساء أمس، إمكانية التعرف الى نعش الشهيد عزمي. فصحيح ان اسرائيل اعترفت بوجود رفاته لديها في مقبرة الغرباء، الا انها لم تلصق اسمه على النعش، علماً ان بطاقته كانت معه لحظة استشهاده، ما يستوجب على عناصر"حزب الله"الذين تسلموا النعوش التي سجيت في"مجمع شاهد التربوي"قرب مستشفى الرسول الأعظم على طريق مطار بيروت في قاعة كبيرة خصصت لعملية الفرز، التدقيق في رفات علامتها الفارقة"سيخ حديدية كانت مزروعة في ساق عزمي منذ العام 1969". وإذا كان امين سر فصائل منظمة التحرير في لبنان سلطان ابو العينين يتوقع ان تستغرق عملية فرز الرفات نحو شهر، خصوصاً ان حفظها لا يتطلب برادات لأنها متحللة، فان تأمين مقبرة جماعية للشهداء الذين سيتم إبقاؤهم في لبنان، بات اليوم محور اتصالات مع دار الفتوى الإسلامية لتأمين قطعة ارض تقارب مساحتها 750 متراً مربعاً في بيروت او في مكان آخر ولم يحسم الامر بعد. والفلسطينيون في لبنان الذين خبروا بيروقراطية سلطتهم، يتخوفون من"فوضى"وتجاهل لمسوا بعضاً منها خلال الأيام الماضية، فعتب بعض العائلات كبير على قيادات لم تتصل او تجب على مطالب، وتقارن هذه العائلات بين عروض قدمها"حزب الله"للمساعدة ورُفضت لان"لنا قيادة يفترض ان تحتضننا"، وبين التجاهل المحزن من قبل هذه القيادة. ويلامس العتب حدود الغضب"لأننا خلال 15 سنة لم نعرف كيف نفاوض الإسرائيلي لنعيد دفن رفات شهدائنا في فلسطين وليس في مقبرة إسرائيلية على رغم انها من تراب الوطن". ويبلغ الغضب حده حين لم تتمكن عائلات شهداء وصلت نعوشهم مع الأسرى المحررين، من الوصول الى المنصة لاستقبالهم، وبقوا في الطرق الخلفية لعدم تزويدهم تصاريح تخولهم ذلك. الى منزل الشهيدة دلال المغربي المشرعة أبوابه أمام المعزين، دخلت السيدة رائدة أبو شعر التي كانت غادرت لبنان مع المقاتلين الفلسطينيين خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982 واقامت بعد اتفاق أوسلو في رام الله، حاملة في حقيبتها"أمانة"لدلال، سلمتها الى العائلة قائلة:"هذه حفنة من تراب الوطن أخرجتها من ضريح"ابو عمار"ممزوجة بالورد انثروها على رفات دلال فنكون قد نفذنا الوصية". رائدة التي كانت تعمل في جهاز الاتصالات يوم نفذت دلال المغربي عمليتها مع المجموعة ظلت على اتصال معها حتى دخولها الأراضي الفلسطينية، تذكر ان جهاز الاتصال كان ينقل لها"أغنيات وطنية كانت تنشدها دلال في المركب لتشد من عزيمة رفاقها في البحر، فاستحقت ان تكون قائدة المجموعة". وهي تؤكد"ان محاولة استرداد جثمان دلال سبق ان سجلت في ايام القيادي الفلسطيني"ابو جهاد"الذي خطط لعملية دلال المغربي كي يتم دفنها في القدس الا ان اليهود كانوا يرفضون الامر"، وتحاول تعزية العائلة بالقول:"المهم ان جسد دلال تحلل في تراب الوطن"، لكن سؤال العائلة:"لماذا نأتي بالشهداء الى وطن ليس لهم؟"بقي من دون اجابة.