"الجرح لا يزال مفتوحاً"، تقول والدة الشهيدة الفلسطينية دلال المغربي وهي تدير جسدها المثقل بالأوجاع ناحية الصورة المعلقة فوق رأسها منذ ان جاءها نبأ استشهاد ابنتها في آذار مارس 1978. قد لا تكون الجدران نفسها الذي علقت عليها صورة دلال الى جانب صورة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، فالبيت تغير. لكنه الحي الذي ولدت فيه دلال مع اخوتها التسعة، بقي نفسه. هنا في محلة الفاكهاني في الطريق الجديدة، دخلت دلال قبل ثلاثين سنة استديو للتصوير والتقطت لنفسها صورة وهي في أبهى حلة، وحين طلبت من أمها ان تعلق الصورة في غرفتها لم ترفقها طبعاً بالوصية التي خبأتها لدى مجموعة من الرفاق سلموها لوالد دلال بعد استشهادها بأسبوعين، وفيها تخاطب والديها طالبة منهما عدم البكاء"لأني صرت بنتاً للوطن وأتمنى ان تسير كل الأمة على هذا الدرب حتى تحرير فلسطين لأنها قضية عادلة ومقدسة"، وتتمنى على الجميع"ان استشهدت ان ادفن في الوطن". تلك الوصية لم تنفذ، فلا العائلة، التي فقدت الوالد في العام 1990، توقفت عن البكاء منذ تلك اللحظة، ولا مصير جثمان الفتاة التي اتخذها الاسرائيليون نموذجاً لتعليم المجندات الاسرائيليات على معنى الجرأة والشجاعة، ووري في تراب الوطن. وثمة روايات متناقضة تتحدث عن ان السلطات الاسرائيلية لا تزال تحتفظ بجثمانها في البراد وأخرى ترجح دفنها مع الشهداء الآخرين في"مقبرة الغرباء". وتتمنى رشيدة شقيقة دلال ان تكون عودة جثمان شقيقتها"موقتة"، وهي بعثت برسالة بهذا المعنى الى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس تناشده فيها باسم العائلة تسلم جثمانها من السلطات الاسرائيلية ودفنها في الضفة الغربية. وتتخوف رشيدة من ان تنكأ عودة الجثمان على أهمية العودة والجهود التي قام بها"حزب الله"، جروحاً لم تندمل، وهي تنظر الى والدتها المستلقية على السرير نتيجة الأمراض التي أصابتها، خشية من ألا تحتمل الصدمة. منزل عائلة دلال المغربي الذي زُينت شرفاته صورتها وبالإعلام الفلسطينيةواللبنانية، بات مقصداً للإعلاميين، لكن أحداً من القيمين على عملية التبادل لم يطرق بابه، ولا حتى ممثلية السلطة الفلسطينية لدى لبنان، ما أثار الاستغراب، إذ تردد أن سفارات عربية طلبت عبر السلطات في بلادها الى عائلات شهداء يحتمل أن تكون جثامين أولادهم من ضمن صفقة التبادل، الخضوع الى فحوص الحمض النووي الوراثي تمهيداً لمقارنتها مع نتائج الحمض النووي الذي ستخضع له الرفات الآتية من إسرائيل، تسهيلاً للتعرف اليها. وبين هؤلاء الشهداء من هم من سورية واليمن ومصر. تتمنى رشيدة المغربي ان يكون جثمان شقيقتها ما زال محفوظاً في البراد،"وأنا بالتأكيد سأتعرف إليها لأن صورتها مطبوعة في وجداني"، وبقاء الجثمان في البراد يعني لرشيدة أيضاً ان دلال"فك أسرها من قاتليها". لكن ماذا لو لم يبق من دلال المغربي سوى رفات قليلة، كيف سيتم التعرف اليها؟ سؤال لا يعني فقط عائلة المغربي بل عائلات نحو 130 شهيداً فلسطينياً و60 شهيداً لبنانياً وعربياً الى جانب جثامين 9 شهداء لپ"حزب الله"قيل ان اسرائيل اعترفت بوجود 8 منهم فقط لديها. ثم ماذا عن دفن هؤلاء وعملية تكريمهم، خصوصاً وكما قال ممثل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في لبنان السفير عباس زكي، أنهم"ليسوا ملكاً لنا بل ملك الأمة وفخرها وكل شهيد منهم يروي محطة من تاريخ النضال من اجل استعادة فلسطين؟". ولا يخفي فلسطينيون كثر تمنيهم لو ان صفقة التبادل بين"حزب الله"واسرائيل تضمنت اتفاقاً على دفن جثامين ورفات الشهداء الفلسطينيين في فلسطين، وهم مع تقديرهم لأهمية الصفقة وقدرة المفاوض"حزب الله"على تحرير أسرى وشهداء تتهمهم اسرائيل بأن"أيديهم ملطخة بدماء الاسرائيليين"، يتخوفون من ان تكون اسرائيل أصرت على تسليم الشهداء الى الحزب ونجحت في منع تحقيق حلم العودة الى فلسطين. وإذا كانت الممثلية الفلسطينية لم يُطلب منها في أي مرحلة من مراحل التفاوض لوائح بأسماء الشهداء المفترض ان اسرائيل احتفظت بجثامينهم - وهذا ينطبق أيضاً على مفقودين لبنانيين، ناشد أهاليهم قبل أيام"حزب الله"عدم اعتبار"الملف اقفل"- فإن ما يخشاه المسؤولون الفلسطينيون هو ان تستغرق عملية التعرف الى الرفات سنوات، إذ يرجحون ان تقدم اسرائيل على تعريف الرفات بالأرقام وتترك عبء التعرف الى أصحابها الى"من يهمه الأمر"، وثمة رفات لا يمكن التعرف الى أصحابها في ظل تفرق العائلات وعدم رصد كل من استشهد على ارض فلسطين في فترات معينة، وبالتالي كانوا يفضلون لو ان تكريمهم كان بإبقائهم في تراب فلسطين بطريقة أو بأخرى. تاريخ الشهداء ويجمع كل الأطراف على ان لحظة تطبيق مراحل صفقة التبادل خلال الأيام المقبلة إذا صحت التوقعات، ستكون لحظة تاريخية، تضيف الى رصيد"حزب الله"المزيد من الإنجازات، لكن عشرات الصناديق التي ستعود محملة بالرفات تحمل في زواياها تاريخاً مقاوماً كتب بالدم في نهايات القرن الماضي وهو مهد لنضالات آخرين واصلت بدورها كتابة التاريخ المضيء، لكن هل سيستعاد تاريخ هؤلاء الشهداء مع رحلتهم الجديدة الى مدافن قيل أنها"موقتة"؟ فمن ضمن"العائدين"، شهداء شاركوا في عملية نهاريا الى جانب عميد الأسرى سمير القنطار، وشهداء عملية"الشهيد كمال عدوان"الذين قادتهم دلال المغربي ومعها 9 شهداء آخرين بعدما أطلق سراح أسيرين من المجموعة في صفقات تبادل سابقة واستشهد اثنان غرقاً في البحر، وشهداء عملية معالوت التي نفذها مقاومون من"الجبهة الديموقراطية"، والشهيد خالد اكرا الذي خرق الدفاعات الاسرائيلية وحط بطائرة شراعية في الجليل وهو ينتمي الى الجبهة الشعبية ? القيادة العامة، والشهيد الذي يعرف باسم"مظفر"ونفذ عملية سينما"حين"في تل أبيب وينتمي الى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وشهداء عملية مطار اللد وبينهم الشهيدة ريما العيساوي وثلاثة آخرون من حركة"فتح". ثمة ترتيبات يقوم بها"حزب الله"لاستقبال الأسرى والشهداء، ووعد الحزب الجهات الفلسطينية بأنه"خلال الأيام الأربعة المقبلة ستتضح الصورة". إلا ان المكان الذي سيدفن فيه الشهداء يبقى غير محدد بعد. تقول شقيقة دلال المغربي:"حتى اللحظة لا نعرف أين ستدفن شقيقتي، ربما في مقبرة شهداء فلسطين". لكنها تستبعد اقتراحاً بدفنها الى جانب الشهيد الفلسطيني علي أبو طوق، الذي كان رعى دلال أيديولوجياً وأعدها عسكرياً خلال فترة انخراطها في المقاومة، واستشهد لاحقاً في حرب المخيمات ودفن في باحة مسجد مخيم شاتيلا، فپ"الأمر صعب"، تقول، وهي كانت لا تزال تأمل بان يستجيب"أبو مازن"الى ندائها لتسلم جثمان دلال ودفنها وفق وصيتها. مقبرة جماعية وليست عائلة دلال وحدها التي لا تعرف حتى الآن إجراءات التشييع والدفن ومكانه، ومنظمة التحرير تسعى الى استيضاح الأمر، فيما مدافن الشهداء غير قادرة على استيعاب هذا العدد من الشهداء. وثمة اقتراح رفعته السفارة الى بلدية الغبيري لاقتطاع ارض ملاصقة لمدافن شهداء فلسطين بمساحة 300 متر مربع لإقامة مقبرة جماعية عليها ونصب تذكاري للشهداء لتكريمهم ولم تتلق جواباً حتى الآن. وفي الاجتماع الذي عقدته الفصائل الفلسطينية أول من أمس، كان لافتاً تأكيد السفير زكي ان"الشهداء الذين روت دماؤهم أرض فلسطين وقاتلوا واستشهدوا على أرضها، لا بد من تنفيذ وصيتهم بأن تحتضن أرض فلسطين جثامينهم الطاهرة"، وانه إذا كانت"ظروف عملية التبادل تمنعنا الآن من تنفيذ هذه الوصية، سنبقى أوفياء لشهدائنا، وسنعمل مع"حزب الله"وكل الأطراف المعنية بقضيتنا العادلة بكل ما نملك من وسائل عاجلاً أم آجلا لإعادة رفاتهم الى فلسطين حيث قاتلوا واستشهدوا من اجلها". وعقد لقاء أمس، بين عضو المجلس السياسي في"حزب الله"حسن حدرج والسفير زكي، في مقر المجلس، في حضور مسؤول ملف الأسرى والمعتقلين في الحزب الشيخ عطا الله حمود. واتفق كما أعلن إعلام"حزب الله"، على"تشكيل لجنة فلسطينية موحدة لمتابعة الترتيبات العملية والإجراءات المتعلقة بالمشاركة في هذا العرس الوطني الكبير، والقيام بواجب تكريم وتشييع رفات الشهداء الفلسطينيين بما يليق بهم، ويؤكد وحدة الشعب الفلسطيني واستمرار نضاله لاستعادة حقوقه الوطنية المشروعة". واعتبر زكي في تصريح الى"الحياة"بعد اللقاء ان لا إشكالية بالنسبة الى استقبال الشهداء"لان الاتفاقية الموقعة بين"حزب الله"واسرائيل من الصعب تغييرها بالنسبة الى دفن الشهداء في فلسطين"، مؤكداً أننا في"عرس عربي مشترك، خصوصاً مع تمكن الحزب من تحرير أشخاص عليهم فيتو إسرائيلي". لكنه أكد ان عودة الشهداء الى لبنان"موقتة"، ولفت الى انه"بانتظار الرسائل المتبادلة بين أطراف الاتفاق سيطلعنا"حزب الله"على كل صغيرة وكبيرة". وإذ أشار زكي الى وجود شهداء عرب بين الجثامين العائدة، شدد على ان ذلك"يعني بعداً قومياً للقضية الفلسطينية"، وأكد ان هؤلاء الشهداء ليسوا لنا، كل واحد منهم كتب تاريخاً وعلى الجميع تكريمهم لأنهم فخر الأمة". أما عن المكان الذي سيدفن فيه الشهداء فاكتفى زكي بالقول:"نبحث عن مكان"!