في معرض تبريره وشرحه الغايات المنشودة من دعوته الى عقد مؤتمر للحوار بين الأديان، قال خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز:"إننا نريد أن نجتمع وهم ونتفق على شيء يكفل صون الإنسانية من العبث الذي يمارسه أبناء هذه الأديان بالأخلاق والأسر والصدق والوفاء للإنسانية". وزاد:"إن الأسرة والأسرية في هذا الوقت تفككت وفي الوقت نفسه كثر الإلحاد بالرب، وهذا لا يجوز من جميع الأديان السماوية، لا من القرآن ولا من التوراة، ولا من الإنجيل". وبهذا يكون الملك عبد الله وضع الحوار بين الاديان السماوية في إطار غايات إنسانية عامة تخدم البشرية كلها. وبغض النظر عن الآراء المختلفة والمتباينة حول جدوى حوارات الأديان والحضارات، فإن الأمر المؤكد هو أن العاهل السعودي حين فكر في هذه الفكرة وطرحها، كان في ذهنه، بالإضافة أيضاً إلى الأسباب التي أتى على ذكرها، تلك الحملة الضارية على الإسلام والمسلمين، والتي تتهم الدين الإسلامي بالعنف والمسلمين بالتعصب والتطرف وعدم التسامح. ومن ثم، أراد أن تكون مبادرته هذه في جانب أساسي منها بمثابة رد حضاري على هذه الحملة الهوجاء وأتباعها. وعلى رغم ذلك، لا يزال الجدال محتدماً بين علماء الدين حول جدوى حوارات الأديان والحضارات، بخاصة بعد تتابع الهجمات الشرسة على الإسلام في العقدين الأخيرين واتساع رقعتها لتضم إلى جانب الإساءة الى دين الإسلام التخويف من تابعيه، والنيل من شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأخيراً، وليس آخراً، النيل من المقدسات الإسلامية ورسم علامات النازية على قبور المسلمين. فما المقصود بمفهوم حوار الأديان والحضارات؟ والى أي أسس ترتكز مثل هذه الحوارات؟ وما هي منطلقاتها وغاياتها، ما الجدوى منها، وما هي معوقاتها؟!. بداية ينقسم علماء الدين، وعلى مستوى الطرفين الإسلامي وغير الإسلامي، إلى فريقين رئيسين الأول، يذهب إلى القول بأن الحوار بين الأديان يلعب دوراً كبيراً في دعم العلاقات الإنسانية، ومواجهة التعصب الديني والصراعات المعاصرة، فضلاً عن أنه أصبح ضرورة عصرية يجب الأخذ بها والتعويل عليها في معاملة أتباع الديانات الأخرى، ناهيك بأن الحوار بحد ذاته يعد امتثالاً لأوامر الله والتزاماً بقوله تعالى:"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا". كما أن من شأن الحوار أنه يخلق أرضية خصبة لتلاقح التجارب والأفكار في علاج الأديان لمشكلات المجتمع في أي عصر، وبما يؤسس لإغناء التجربة الدينية الحضارية في شكل مؤثر وفاعل في كل مناشط الحياة وجوانبها. ويؤكد شيخ الأزهر، في هذا السياق، أنه لكي يكون الحوار بين الأديان مثمراً يجب ألا يتطرق إلى تناول الإشكاليات المتعلقة بالعقائد، لأن الذي يحاسب عليها هو الله وحده كما أن ثمة مساحات أخرى مشتركة بين الأديان والحضارات تتسع لتغطي كل جوانب الحياة الإنسانية المعاصرة، وقد جاءت التعاليم الإلهية السمحة لتحض على العمل من أجل إصلاح حال البشرية والحفاظ على القيم الإنسانية المشتركة والنهوض بها. ويؤكد هذا الفريق إذاً على ضرورة الحوار وأهميته من أجل نبذ ثقافة الكراهية والتعصب الديني على وجه الخصوص، خصوصاً إذا كان الحوار معنياً بتعميق معرفة كل طرف من أطراف الحوار بالطرف الآخر من جهة، وتعزيز ثقافة الحوار بين أتباع الأديان، ومراجعة الموروثات التاريخية السلبية التي تشكل عقبة مستمرة أمام التفاهم المشترك بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، سماوية كانت أو وضعية من جهة ثانية، ويحد من التوظيف السياسي المتنامي للأديان من جهة ثالثة. أي أن الحوار الجاد هو الذي يهدف في المقام الأول والأخير إلى تأكيد القواسم والقيم الإنسانية المشتركة، ومن بينها بالطبع القيم الدينية التي بشرت بها الأديان كلها ويأتي على رأسها: الإيمان بالله الأخلاق الفاضلة، تكريم الانسان، والاعتراف بحقوقه، الإخاء الانساني، دفع الظلم عن المظلومين بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى كاللون والعرق والجنس والدين ونبذ الكراهية بين الأديان والتعصب لبعضها من دون البعض الآخر...إلخ. ولا شك في أن كلاً من الكراهية والتعصب يؤديان حتماً إلى التطرف الذي يؤدي بدوره إلى العنف والإرهاب، فيما تتهيأ بالحوار السبل إلى غرس الاحترام المتبادل بين الأديان والحضارات ما يحقق إمكان للتعايش المشترك وحسن الجوار وإرساء قيم التسامح والمحبة بين أبناء هذه الديانات ومع احتفاظ كل فريق بموروثه واعتقاده الديني الخاص. كما أن الحوار أصبح ضرورة ملحة كذلك في ظل ما يشهده العالم الآن من الابتعاد عن القيم الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي تأمر بها الأديان، ومن صراعات شتى لا تكاد تنتهي واحدة منها حتى تشتعل الأخرى في بقعة أخرى من بقاع المعمورة!!. ومن ثم فالحوار ضروري، لإنقاذ الإنسانية من الأوضاع المتردية ومهاوي الفساد والخراب والاضطهاد والعنف الديني وكل أنماط التمييز والعنصرية والإرهاب التي تنزلق إليها، ومن أجل تعزيز روح التعايش والتعاون وتحقيق السلم الاجتماعي العام. لكن، وفي مقابل ذلك، يؤكد علماء دين آخرون أن الحوار بين الأديان جدال عقيم لا جدوى منه، وأنه مضيعة للوقت والجهد معاً، خصوصاً أن غير المسلمين ممن ينادون بحوار الأديان والحضارات، على حد تعبيرهم، لا يعترفون بالإسلام أصلاً ولا يحترمون عقائده ويصمتون إزاء الإساءة تلو الأخرى إلى رموزه ومعالمه. وبحسب هؤلاء أيضاً، فإن الإسلام دين حوار وتفاهم ودائماً ما يمد يده للآخر، أياً كانت ديانته بالسلام، لكن هذا الآخر هو الذي يصم آذانه دائماً عن الحوار كما لم يكترث مطلقاً بما يدعوه إليه الإسلام من حوار هادئ يكفل تحقيق المزيد من التعاون الإنساني والتفاهم المشترك. ويدللون على ذلك بما يحدث الآن من إساءات بالغة موجهة ضد الإسلام شارك فيها قادة دينيون وسياسيون كبار على مستوى رؤساء دول، كما شارك فيها أيضاً فلاسفة ومفكرون. ويتساءلون بحدة:"لماذا نطلب الحوار مع من يرفضه ولا يستجيب لما يهدف إليه كما لم يكف عن إشاعة المقولات الظالمة عن الإسلام؟!". ويخلص هؤلاء إلى القول إن الحوار لا طائل منه في ظل هذا المناخ. تقول، للأسف، بهذا الرأي شريحة كبيرة من علماء الأزهر وعلى رأسهم عبد الصبور شاهين والشيخ محمود عاشور الذي يصف حوار الأديان بأنه عبارة عن حوار طرشان. وهم ينطلقون من القول أن الحوار فقد كل صدقية له في ظل الهجوم الشرس على الإسلام، ويتساءلون:"مع من نتحاور؟ وعلى ماذا نتحاور طالما أن الأمور تسير بهذا الشكل؟ مع التأكيد أن المسلمين كانوا على مر الأزمان دعاة حوار وسلام وليسوا دعاة حرب أو إرهاب، وأن حضارتنا حضارة سلام وليست حضارة صراعات مع الحضارات الأخرى. وفي رأي هذا الطرف المناهض لحوار الأديان، فإن الحوارات التي تجرى بين أتباع الأديان المختلفة إنما هي تظاهرات إعلامية من أجل المجاملة ليس إلا!!. والغريب حقاً أن يؤكد أحد رؤساء قسم الفقه المقارن في كلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، أن الخلافات بين الأديان متجذرة لأبعد مدى، على رغم تأكيده وحدة المنبع السماوي الصادرة عنه!!، وأنه لا مناص من القبول بذلك، وأن عدم اعتراف أصحاب الديانات الأخرى بالإسلام جعلهم لا يكفون عن الإساءة إلى رموزه. وفي اعتقادي أنه يجب أن ينظر إلى منظومة الحوارات بين الأديان والحضارات أولاً على أنها تعني قبل كل شيء التواصل ومعرفة الآخر بهدف التعايش بين الناس بكرامة وعدل وسلام. كما يجب أن ينظر إليها باعتبارها فرصاً للتلاقي أو المساحات المشتركة التي يمكننا من خلالها تجاوز حدود التمييز الديني بين بني الإنسان، ورسم معالم الطريق للحياة بمختلف مجالاتها على أسس من القواعد المشتركة بين الأديان بما لها من دور بالغ الأهمية في إنقاذ البشرية من الأخطار التي تهددها، لا سيما أنها جاءت لإصلاح البشر وإسعادهم في دنياهم وآخرتهم على حد سواء. الحوار بين الديانات والحضارات يجب أن يكون مبنياً إذاً على أساس من الاحترام المتبادل وبهدف إزالة سوء الفهم، تحقيقاً لقول المولى عز وجل:"ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن"، وكذلك في توجيهه للحوار مع أهل الكتاب بقوله:"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون". فالإسلام يأمرنا أن نأخذ بالمسالمة العامة مع كل الفئات المسالمة، من كل الناس الذين يختلفون معنا فى المعتقد، وذلك من طريق الأخذ بأسباب العدل، في معاملتهم وبالإحسان إليهم، وفي ذلك يقول الله تعالى:"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا اليهم، إن الله يحب المقسطين"، أما الذين يمارسون البغي والعدوان بالقتل والتشريد ومساعدة الأعداء، فلهم وضع آخر، يكشف عنه المولى تعالى إذ يقول:"إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون". أخيراً، يكتسب الحوار أهمية قصوى بعد أن أصبح العنف المعاصر عابراً للقارات لا يكرس التسامح السلمي في الحياة وإنما الإرهاب الدموي والذي لا يتدين بدين ولا يرغب في إحلال السلام في العالم. ولن يكون الحوار مجدياً ما لم يكن مؤسساً على التسامح ومبنياً على استشراف القواسم المشتركة للإنسانية وعلى رأسها مهمة الاستخلاف في الأرض وعمارتها. وتبقى إلى جانب ذلك مسألة في غاية الأهمية ألا وهي حوارات الذات الإسلامية مع نفسها، مذاهب وتيارات، وإلاّ كيف من الممكن أن نتحاور مع الآخرين فيما نحن لا نؤّمِنُ بالأساس حق الحوار بيننا، ولا نرسخ التسامح كقيمة وواقع في حياتنا؟!.. وتلك قضية أخرى. * كاتب مصري