في أواخر السبعينيات عندما فاجأ ارتفاع أسعار النفط الدول الصناعية التي تعودت على أسعار نفط رخيصة واستمرأت ذلك لردح طويل من الزمن، علت صيحات شعوب تلك الدول بسبب الضرائب التي تفرضها حكوماتها، ونتيجة للسبب نفسه، الارتفاع الكبير في الضرائب التي عانى ويعاني منها المستهلك النهائي، اجتاحت أوروبا احتجاجات لم تعهدها من قبل خلال شهر ايلول سبتمبر 2000 مطالبة بتخفيض الضرائب على الوقود. واليوم تشهد بعض دول أوروبا احتجاجات علت صيحاتها بسبب ارتفاع أسعار الوقود واغلق المتظاهرون الطرقات بالشاحنات الضخمة وشلت حركة السير، وارتفعت أصوات المواطنين مدوية محملة حكوماتهم مسؤولية الغلاء الفاحش، وليس "الأوبك" التي تبيع نفوطها بأسعار معتدلة وتفرض الدول الصناعية ضرائب عالية على مواطنيها بنسب تصل الى حوالي 30 في المئة في أميركا، 63 في المئة في ايطاليا، 65 في المئة في هولندا، 67 في المئة في فرنسا، 68 في المئة في بريطانيا، ومعلوم أن كلاً من أميركا وبريطانيا دولة منتجة للبترول! وفي خضم هذا الجو الملبد بالغيوم، وعلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية وتحديدا في اليابان عقد وزراء الطاقة في الدول الصناعية الثماني الكبرى الولاياتالمتحدة، روسيا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، ايطاليا، اليابان، كندا وانضمت إليهم لاحقا كل من الصين والهند وكوريا الجنوبية، عقدوا اجتماعهم في أموري شمال اليابان الذي انتهى الأحد الماضي 8 حزيران يونيو، وتصدرت أزمة الطاقة وأسعار النفط اعلان الوزراء، وقال وزير الطاقة الياباني إن الوضع إزاء أسعار الطاقة أصبح يشكل تحديا كبيرا، إذا ترك الموضوع من دون علاج فإنه سيتسبب في ركود الاقتصاد العالمي. أما رئيس الوزراء الاسترالي كيفن رود الذي واجه سيلا عارما من غضب مواطنيه الذين انتخبوه لسدة الحكم بسبب ارتفاع الوقود، فقد طالب تحت هذا الضغط في رسالته النارية من قارته البعيدة، طالب دول مجموعة الثماني بالضغط على "أوبك" لإجبارها على زيادة إنتاجها من النفط. لا شك أن هذا الموضوع المهم لوزراء الطاقة في الدول الصناعية المستهلكة للنفط، جاء في وقت عصيب يشهد ارتفاعا قياسيا لأسعار الذهب الأسود التي بلغت 139 دولارا للبرميل، ويبدو أن رحلة الأسعار مستمرة لتطرق باب ال150 دولارا في القريب المنظور، وقد يشهد اجتماع زعماء مجموعة الثماني المقرر عقده في جزيرة هوكايدو في أقصى شمال اليابان في 7 و9 تموز يوليو القادم حلقة جديدة في سلسلة مناقشات أزمة الطاقة وأسعارها! السؤال المطروح هل تواجه سوق النفط العالمية فعلاً شحا في المعروض من النفط الأمر الذي يدفع الدول الصناعية مطالبة منظمة "الأوبك" من دون غيرها بزيادة انتاجها لكبح جماح الأسعار؟ ثم هل هناك سبب منطقي يجعل رئيس وزراء استراليا يرعد ويزبد ويشهر العصا الغليظة ليحض الدول الصناعية على إجبار "اوبك" على رفع إنتاجها؟ الإجابة ببساطة: أن ارتفاع أسعار النفط الى هذا المستوى التاريخي 139 دولارا للبرميل غير مبرر اقتصاديا، لأن سوق النفط الدولية تشهد فعلا توازنا في العرض والطلب، بل إن المعروض يزيد عن الطلب، فالطلب الحقيقي في حدود 86 مليون برميل في اليوم بينما يبلغ المعروض 87.6 مليون برميل، ناهيك عن توفر مخزون تجاري كبير من النفط لدى الدول الصناعية يكفي بعضها لمدة 120 يوماً من دون أن تستورد برميلا واحدا. إذاً "الأوبك" بريئة من ارتفاع أسعار النفط، فهناك نفط يبحث عن مشترين شرقا وغربا، حتى أن بعض دول المنظمة لم تتمكن من بيع كل ما تنتجه من النفط الخام، فإيران مثلا وهي ثاني اكبر مصدر للنفط داخل "اوبك" بعد السعودية ورابع مصدر له عالميا، استأجرت ناقلات لنقل بعض نفوطها لكنها لم تستطع إيجاد المشترين، والجزائر تواجه المعضلة نفسها رغم أن نفطها من النوع الخفيف المفضل عالميا على الثقيل والمتوسط، فشركة النفط الوطنية الجزائرية لم تستطع الا بيع جزء من انتاجها من النفط الخام وقس على ذلك دولا اخرى منتجة للنفط! هذه حال السوق، زيادة المعروض من النفط على الطلب، فكيف نفسر ارتفاع الأسعار أمام انخفاض الطلب على النفط في دول كثيرة خصوصا في بعض دول العالم الثالث، الأمر الذي قد يؤدي الى تراجع الأسعار كمحصلة لزيادة المعروض من النفط على الطلب؟ وقد يتكرر سيناريو تبني بعض الدول لترشيد استهلاكها كما حدث في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، فمثلا بريطانيا خفضت استهلاكها بنسبة 18.7 في المئة، فرنسا 12.3 في المئة، بلجيكا 11.5 في المئة، ايطاليا 7.8 في المئة، اليابان 3 في المئة، وبدأت الاسعار آنذاك مسيرتها نحو الانحدار الشهير حتى بلغت في أواسط الثمانينيات اقل من 7 دولارات للبرميل! وخلاصة الأمر هي أن ارتفاع الأسعار ليست عائدة لزيادة الطلب على العرض، وليس لهذه المعادلة الاقتصادية ناقة ولا جمل في الأمر، فارتفاع الأسعار غذته وتغذيه بحدة الصراعات والحروب الدولية، فهي النار التي أشعلت وقود الأسعار، بدءا من حرب أميركا وبريطانيا على أفغانستان، وصولا الى احتلال العراق لترفع الأسعار رأسها عاليا بفعل تلك الحروب الظالمة التي كانت نتيجتها الحتمية تقطيع أوصال هذين البلدين المقهورين والسيطرة على حقول العراق النفطية التي دمر معظمها بسبب الحرب التي غايتها الأولى النفط ثم النفط لتتوالى قفزات أسعاره لتبلغ الثريا! ثم إن الدولة العظمى ماما اميركا بقيادة مستر بوش لم تتوقف عند كارثة احتلال العراق ليرفع هذا العامل سعر النفط، بل وضعت استراتيجية خبيثة أخرى تبناها مجلس الاحتياطي الفيديرالي الاميركي حيث خفض سعر الفائدة على الدولار الرديء أصلا من حين لآخر حتى وصلت قيمة العملة الأميركية والتي ترتبط بها عملات الدول المنتجة للنفط خصوصا دول الخليج ما عدا الكويت، الى الحضيض، وذلك لمساعدة الاقتصاد الأميركي على تخطي أزمته وزيادة الصادرات لتلحق الضرر بالدول المنتجة وتخفض ايراداتها بسبب انهيار الدولار رغم أن هذه العملة تعتبر سببا رئيسيا في ارتفاع أسعار النفط! ومما زاد اسعار البترول اشتعالا التهديد الاخير لنائب رئيس وزراء اسرائيل شاؤول موفاز بشن هجوم على منشآت نووية ايرانية، حيث قال في مقابلة مع صحيفة "يديعوت احرونوت" نشرت بتاريخ 7 من هذا الشهر: "سنهاجم إيران اذا واصلت برنامجها النووي العسكري"، ومثل هذا التهديد الخطير من دولة يهودية لدولة إسلامية، يحمل في ثناياه أمورا خطيرة تهدد الأمن في منطقة الشرق الأوسط وخصوصا في منطقة الخليج العربي صاحبة أكبر احتياطي نفطي مؤكد عالميا حوالي 730 مليار برميل واكبر مصدر للنفط. إن أي تهديد لأمن هذه المنطقة التي تعتبر رئة العالم النفطية سيقفز بأسعار النفط ليس إلى 150 دولارا، بل إلى أكثر من 200 دولار، وقد تواصل مسيرتها الى 300 دولار اذا حدث ما لا تحمد عقباه وأغلق مضيق هرمز في وجه ناقلات النفط حتى ولو لفترة وجيزة. ويبدو أن التسبب في ارتفاع أسعار النفط الذي أحدثته الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة ليس خافيا على احد. فالرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف لم يتردد لدى افتتاحه أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في السابع من هذا الشهر في سان بطرسبورغ عاصمة الشمال الروسي في تحميل الولاياتالمتحدة مسؤولية الأزمات الاقتصادية العالمية قائلا: "إن تصور قدرة بلد على لعب دور الحكومة العالمية هو مجرد وهم مهما بلغ حجم اقتصاده وامكاناته"، واستطرد: "إن الأزمات المعاصرة بما فيها الازمة المالية وارتفاع أسعار المواد الخام والأغذية والكوارث العالمية تظهر بوضوح أن نظام مؤسسات الإدارة العالمية في شكلها الحالي لا يؤدي لمواجهة التحديات المعاصرة". وإذا أضفنا إلى هذه العوامل التي تتربص بالعالم من كل حدب وصوب ما يفعله المضاربون في سوق النفط الدولية المتشنجة واستمرار الحروب والصراعات في الشرق الأوسط خصوصا في المحيط العربي حيث احتلال العراق والصراع العربي - الاسرائيلي والتهديد الأمريكي - الإسرائيلي لإيران وغيرها من الصراعات، لأدركنا لماذا ترتفع أسعار النفط رغم زيادة العرض على الطلب. إن الدول الصناعية التي تعتبر أن ارتفاع اسعار النفط يحمل في ثناياه تهديدا للاقتصاد العالمي، عليها أن تدرك، وهي تدرك، لكنها تتجاهل، أن النفط عندما بلغت اسعاره 139 دولارا للبرميل، يبقى رغم ذلك من ارخص السلع مقارنة بأسعار السلع الأخرى، فمثلا أسعار المواد الغذائية يفوق سعرها أسعار النفط بنسب تصل في متوسطها من 3 الى 5 اضعاف. إن المتأمل يقرأ بجلاء حسن النية في دعوة السعودية يوم الاثنين الماضي للدول المنتجة والمستهلكة والشركات العاملة في انتاج النفط وتصديره وبيعه لعقد اجتماع للبحث في أسباب ارتفاع أسعار النفط، وذلك لدعم سوق النفط الدولية، ومثل هذا الاجتماع الذي سيعقد في مدينة جدة على مستوى رؤساء الدول في 22 من هذا الشهر تلبية للدعوة السعودية، سيفتح باب الحوار بين المنتجين والمستهلكين، فمسؤولية استقرار سوق النفط حاضرا ومستقبلا بقدر ما هي مسؤولية المنتجين من "الأوبك" وخارجها، فهي أيضا مسؤولية الدول المستهلكة التي تقع على عاتقها مسؤولية خلق آلية سوق نفطية دولية آمنة ومستقرة بشكل مقبول لطرفي المعادلة، المنتجين والمستهلكين. وعلى كل فإن سعر النفط بحساب احصائي بسيط لم يزد كثيرا عن الدولارات التي كانت تحصل عليها الدول المنتجة في نهاية حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، عندما كان سعره ما بين 39 الى 40 دولارا للبرميل، عندما كان الدولار في عز شبابه لا في أرذل العمر كما هي حاله اليوم، وضعف الدولار والتضخم لا شك أثّرا سلبا على إيرادات الدول المنتجة حتى بلغت الحضيض. ويبقى القول انه اذا كان النفط قد نفض الغبار وخطا خطواته الجريئة مرتفعا والى جواره زميله الغاز، فإن على الدول والشعوب التي تحتاج الى الطاقة في نشاطات حياتها المختلفة من المواصلات الى التدفئة التعوّد على نفط غالي الثمن، بعد أن غابت شمس النفط الرخيص، وعلى "اوبك" أن تراقب السوق بحذر قبل اتخاذ أي قرار برفع سقف انتاجها او خفضه! * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية