يدنو. يكون بعيداً وعلى مسافة وغريباً ثم في رمشة عين يصير هنا. كيف هذا؟ ما هي إلا سبعة أيام أو ثمانية لعلك تقرأ هذه الجريدة بعد غد وأنت تنتظر دورك في صالون الحلاقة وتنتهي 2008. يكاد الواحد أن يكتب 2007 أو 2005. هل مرّت حقاً ثماني سنوات على ذلك الصباح البعيد، حين عبرنا أمام هذه المكاتب ذاتها ونحن نتضاحك بينما أميركا تحتار مَنْ ربح في الانتخابات بوش أم آل غور؟ ما قيمة ذلك الآن؟ هل كان أحدنا يتوقع في ذلك الصباح ونحن نقارن عناوين الصحف المحلية ما سيأتي؟ كم حرباً هجمت على الكوكب في ثماني سنوات؟ كم ولداً صغيراً قصّت رقبته شظية ساخنة وهو يقطع الطريق؟ الصديق الذي أحرقت وجهه حرب تموز ينام وراء الأطلسي الآن، وضع بينه وبين الوطن أكثر من محيط. ترك في القبو لوحات تتسرب إليها الرطوبة وغداً الشتاء يدنو، يُقال إنه بدأ يكسو العفن وجوهها. كان يحبّ أن يرسم الوجوه. الآن يرسم وجوهاً جديدة؟ يرسم الوجوه التي تتغير بين ساعة وأخرى، في وجهك وظهرك، عند الصباح وعند المساء؟ القريب يبتعد أيضاً. الأجسام وكذلك النفوس. المرأة دخلت الى المستشفى ثم دخلت في"كوما". هل تخرج من غيبوبتها؟ يعرفها منذ سنوات طويلة، طالما رآها وألقى عليها التحية وابتسمت له. غابت فتبدل الشارع. مثل عمارة بقرميد كانت هنا ثم أُزيلت. عمارة غريبة، ثلاث طبقات، وأبوابها من خشب الجوز الثقيل. باعوا الأبواب قبل وقوعها؟ يتغير المشهد بلا توقف. تظن أنك تعرف الناس لكن من يعرف ماذا؟ كيف تصدق ما تصدق؟ أفضل أن تُعلق أحكامك الى ما لا نهاية. في هذه الأثناء تنتظر البعيد. تراه يدنو. وبينما تنتظر الآتي تُبدّد حياتك. كل الوقت تخسر؟ ألا يربح الإنسان أيضاً وهو ينكسر، وهو يرى الوهج يشتعل في كومة البارود ويشعر بلسعة النار على الأصابع؟ كوى اللهب الغادر يده كلها. وضعوا له مراهم. لكن ماذا يُبعد الألم؟ الزيت على يده وملامح وجهه تتبدل. الحرق فظيع. وعليه أن يتحمل. قالت له المرأة عليك أن تكون أقوى. كيف هذا؟ لو امتلك القوة هل كان يعبس، هل كان يرتعد في البرد وهو عائد في الليل الى بيت تغمره الثلوج؟ ماذا يتذكر الواحد وماذا يتخيل؟ أين يتقاطع الدربان الذاكرة والمخيلة، في أي غابة؟ وبعد الغابة الملتفّة الأغصان، تحت سماء داكنة سوداء ثم زرقاء ساطعة، بعد الأشجار والرطوبة والحشرات، ماذا يجد؟ ماذا ينتظرك في الجانب الآخر؟ أي وجوه؟ البعيد يدنو. كل شيء يختلط في الذاكرة. أعدموا صدام حسين. لكن متى قبضوا عليه؟ ألم يفرّ من السجن؟ القوات الحليفة طاردته، عثروا عليه في"حفرة"، ردّوه الى الحبس. هذا غير دقيق. يجانب الواقع. لكن بعد سنوات طويلة، بعد ربع قرن، وأنت عزيزي القارئ تروي الخبر لأحفادك، هل ستتذكر ترتيب الحكاية؟ متى وقع برجا نيويورك؟ حرب أفغانستان سبقت ذلك؟ بالتأكيد تعرف الأجوبة. أو تظن أنك تعرفها. أحفادك يجتمعون حولك، تدلّهم الى أسماء على خريطة. فتاة سألت أستاذها المشرف على التقاعد هل كان موجوداً مولوداً عندما وقعت الحرب الأهلية في لبنان؟ هذا جرى في مدرسة في بيروت. والأستاذ بعد الدهشة الأولى رسم على اللوح أرقاماً وتواريخ وكلمات. ظن أنه هكذا يشرح العالم للتلاميذ. ماذا تشرح وكيف؟ تقرأ التقارير وتسأل نفسك كيف هذا: كأننا ندور في حلقات. كأننا نعيش مرة أخرى سنة قديمة. الوقت مسحور. يلعب بعقل الإنسان. هذه السنة غير التي سبقتها؟ هذا الشتاء غير الشتاء الماضي؟ نتحرك الى أمام. أو نتجمد والوقت يجري، نهر يندفع ونحن ننظر اليه ونظن أننا نتحرك. الشوارع تتغير، الوجوه أيضاً. قال الرجل صرت عجوزاً، عندي سبع سنوات بعد ثم أغادر. الكواكب أخبرته، قال الرجل. كان حزيناً. لكنه بينما يمشي الى بيته، واسع الخطى، يسترد نفسه. من جديد يضحك. يضحك بينما البعيد يدنو. يكون بعيداً وعلى مسافة وغريباً ثم في رمشة عين يصير هنا. والقريب؟ يكون هنا وأقرب إليك من حبل الوريد وفيك روحٌ منه وفيه روحٌ منك ثم في رمشة عين تراه هناك، على بعد أميال، ملامح الوجه تضيع في الضباب وأنت تنظر. الى أين تنظر؟ تقطع الغابة. عصافير تطير عن الأغصان. رائحة الصنوبر ثم رائحة الزيتون. الغيوم تظهر من بين الأوراق. يهبّ الهواء، طيباً، عطراً. جلول الزيتون بعيدة، في القاطع المقابل. لكن الهواء يحمل رائحتها الى هذه الغابة. الأسلاف زرعوا هذه الأشجار أم الطيور العابرة؟ تقطع الغابة. ترى بنايات مضاءة بالكهرباء. ترى زحمة الأعياد والكهرباء مرة أخرى. أرض الكهرباء. مدن هذا الكوكب. تقطع الغابة. الأرض طرية، والورق الإبري اليابس يغوص في الوحل. تصل الى تقاطع طرق. ثم الى تقاطع آخر. لا تتذكر ماذا كان قبل لحظة خيارك: كيف ذهبت، يميناً أم يساراً؟ كيف أخذك مزاجك؟ تقطع الغابة ومرات تبالي ومرات لا تبالي.كل ما عليك أن تتحرك، القدم اليسرى ثم اليمنى. بينما العالم يتحول، في كل لحظة يتغير المشهد، القريب يبتعد، والبعيد يدنو. سكن الهواء وسكتت الغابة. نشر في العدد: 16699 ت.م: 23-12-2008 ص: 30 ط: الرياض