بلاد تنتظر تقريراً. متى التقرير؟ في 12 تشرين الأول أكتوبر أم في 21 تشرين الأول؟ بائع الخضر والفواكه غير متأكد. أو أنه يمازح الزبائن كعادته. امرأة تقول: 21. أخرى ترد: لا، 12. لكن الأصوات تتكاثر في الدكان الضيق. بين صناديق تفاح وبندورة وخيار وبصل وعنب وليمون ولوبياء... تتكاثر الأصوات فيهز البائع السكين في يده ثم يضعه جنب فصوص الثوم التي يقشرها لماذا يقشر ثوماً؟ لا يبيع فراريج مشوية! هل يطبخ طعامه هنا، في مؤخرة الدكان؟. يبتسم للزبونات الكثيرات هذا الصباح الثلثاء 27/9/2005 ويقول: 21، ليس 12، 21. الدكان في الأشرفية بيروتالشرقية يعكس دكاناً آخر في نزلة الحصّ بيروت الغربية. كل دكاكين بيروت صورة عن دكان واحد هذه الأيام. خط التماس لم يعد يقطع المدينة الى شطرين منذ 15 سنة. هل زال خط التماس حقاً؟ الحرب اللبنانية 1975 - 1990 قتلت مئة ألف انسان وأخفت في الظلمات 17 ألف مخطوف. بعد الحرب جاء السلم حائراً مرتبكاً. نهار الاثنين 14 شباط فبراير 2005 تمايلت البلاد من جديد على حافة هاوية. منذ ذلك اليوم الأزرق البعيد وبيروت ليست بيروت. تغيرت المدينة وتغيرت البلاد. صيف 2004 : لحظة ذروة صيف 2004 شكَّل لحظة الذروة في حياة بيروت ما بعد الحرب: 14 سنة مضت على انتهاء الحرب وبيروت تعجّ بالبشر. أكثر من مليون ونصف مليون سائح ينزلون في المدينة. معقول؟ ضاعفوا عدد سكانها. المطاعم والمقاهي لا تفرغ ليلاً ونهاراً. الفنادق مشبعة تماماً. المدينة لا تنام. الكهرباء تشتعل في الشوارع والساحات. والمهرجانات تقطع الأحياء والقرى العالية. الصيف قائظ لكن المكيفات تنعش والمراوح تنعش والبحر ينعش والجبل ينعش. كان صيف 2004 لحظة الذروة: نشاط سياحي محموم في ساعة سوء! توتر سياسي غير مسبوق. والسياح دخلوا في الجو. باتوا يعرفون أسماء الساسة اسماً اسماً. يناقشون في أحزاب البلد وطوائفه وانقساماته كأنهم عاشوا هنا ردحاً. كأنهم يسكنون بيروت من نعومة الأظافر. هذا ليس غريباً: بلادنا مترابطة. ابن بطوطة عرف هذا. من المغرب الى المشرق، بلادنا مترابطة. اللغة تربطها. الانتماء الى العالم الثالث يربطها. والاحساس بمصير مشترك أو عدو مشترك أو رغبات مشتركة وخيبات... هذا أيضاً يربطها. يربطها ولا يربطها. اذا كانت المدينة الواحدة قابلة للانشطار الى مدينتين طوال 15 سنة فعلينا التفكير ملياً قبل اشباع الروابط تحليلاً. مع هذا زوار بيروت في صيف 2004 استمتعوا بالطعام والصحبة والليل والبحر والجبل مقدار استمتاعهم بمتابعة الجدل السياسي المتوتر. الانسان يحب الاقامة في قلب الحدث. خصوصاً اذا كان الأذى ما زال حتى اللحظة ممنوعاً عنه. في صيف 2004، وعلى رغم الجدل العنيف، لم يكن الواحد يتوقع الوقت الأسود المقبل على المدينة. منذ زمن بعيد، منذ سنوات، لم تنفجر سيارات في هذه الشوارع. السيارة الأولى لن تنفجر على كورنيش المنارة قبل اليوم الأول من تشرين الأول 2004. لم ندخل الخريف بعد. ما زلنا في الصيف. الآن لا ندري ماذا سيجري غداً. أمام سان جورج من سيارة الجمعة 1 تشرين الأول 2004 الى سيارة الاثنين 14 شباط 2005: مسافة 4 شهور ونصف الشهر قطعتها بيروت في لحظة واحدة. لحظة طويلة غامضة. فجأة انقلبت المدينة رأساً على عقب. دويٌ فظيع. ثقب أسود انفتح أمام أطلال سان جورج. ومن الثقب ارتفع لهب أصفر وأزرق. اللهب يشرقط في الشاشات الصغيرة. يد بيضاء ترتفع بخاتم ثم تسقط. النار، النار. أبيض اللحم يصير أسود. صراخ وركض وغيوم. ماذا حدث؟ ماذا يحدث؟ لا يعرف الواحد ماذا يصدق. الناس في المكاتب والظهيرة تقترب. وعند الظهيرة يخرجون الى المطاعم أو يطلبون الطعام الى المكاتب أو يفتحون العلب والأكياس ويتبادلون نظرات الخجل. الحياة اليومية وعاداتها الطيبة. سنوات السلم. هذا كلّه انكسر في الخارج وهم لم يعرفوا بعد: أغبرة تنزل من السماء والنوافذ ما زالت ترتجف والناس ? كل الناس على الشرفات. يسألون ما هذا الصوت، ليس خرقاً لجدار الصوت، ليس انفجاراً عادياً، هل يفجرون احدى البنايات القديمة؟ رجل بكنزة زرقاء على دراجة نارية يقول انهم يفجرون فندق سان جورج من أجل الترميم. لكن بيروت صغيرة. سرعان ما يصل الواحد الى هناك. الكل يركضون في الاتجاه المعاكس. لكنه يصل. وحتى اذا لم يذهب يصل. يخطو خطوات فيبلغ التلفزيون. وفي الشاشة يرى: 15 سنة تقع في ثقب أسود. لكن المدينة لا تقع. تقع ولا تقع. غريب الوقت. كيف عبرت أيام الفزع بعد ذلك اليوم الشباطي البعيد؟ بحر 14 شباط كان في الصباح ساكناً أزرق كصحن زجاج. الماشي على كورنيش المنارة في ذلك الصباح لا ينسى لون الصخور الأخضر اللازوردي أبداً. كان البحر مرآة مصقولة تمتد الى ما لا نهاية. أيام الإقفال والشوارع الفارغة. لا ترى في المدينة كلها متجراً مفتوحاً. ماشياً من وسط بيروت التجاري الى ساحة ساسين، لا تسمع غير الريح تصفر في مدخل عبد الوهاب الانكليزي. لا ترى غير صيدلية مفتوحة قبالة مجمع ABC التجاري. وجنبها صالون حلاقة. في الصالون حلاق عجوز يحلق لشاب. في هذه الساعة؟ تبحث عن ربطة خبز الى ان تجد"فرن الناصرة"فاتحاً. كأننا رجعنا الى أزمنة الخراب. الى حرب لم نصدق انها قبل 15 سنة انتهت وراحت. من شباط الى تشرين الأول 2005 ماذا حدث لبيروت بين شباط 2005 وتشرين الأول 2005؟ كم شهراً مضى؟ 7 أم 8 أم 9؟ تحصي الشهور على الأصابع لكن ماذا ينفع هذا؟ الوقت لا يُقاس بالساعات والأيام والشهور. الوقت نفساني. كل هذه الشهور كأنها لحظة. كأنها ساعة. لا. كأنها دهر. من شباط الى تشرين الأول قطع علينا دهر. دهر تظاهرات مليونية وسيارات ملغومة وجنازات طويلة وتقصي حقائق وتحقيقات بعد التقصيات وانفجارات أخرى... دهر كامل يعبر في شهور والمدينة تُغير وجوهها. وجوه لا تعد. بيروت التظاهرات التي تملأ الساحات ليست بيروت الأيام العادية. بيروت ربيع 2005 والأشجار الخمس الصفراء الزهور أمام جامع السراي ليست بيروت ما قبلها. وهذه ليست بيروت الذعر والشوارع الفارغة والمتاجر المقفلة. وهذه ليست بيروت الليل المحروق تهدر زعيقاً. وهذه ليست بيروت التي تنتظر اليوم تقرير ميليس. كم مدينة في بطن المدينة؟ أبراج وخرائب ووقت يحترق وهذه المدن كلها ألا تشغلنا عن مدينة أخرى خفية؟ أثناء صيف 2004، وقبل صيف 2004، كانت بيروت ترتفع الى أعلى. الأبراج الباطون والحجر والزجاج ترتفع. ومعنويات أصحابها وسكانها ترتفع. ترتفع ولا ترتفع. الخوف يكمن في أعماقك وأنت ترى عماراتك تطلع الى أعلى. المدينة - مثل كل مدينة - تحجب بأبراجها ضوء الشمس. تخطف الضوء وتحجبه. نرى الأبراج تعكس نوراً فنذكر حارات بائسة ولا نذكرها. الانسان يرى ولا يرى. الآن لا تتكلم بيروت الا عن ميليس. وعن التقرير الموعود. هذه حياتنا في هذه الساعة. السياسي يطنّ ويطغى. مثل بطانية تُرمى على الرأس. يطنّ كلام مكرور. حتى يفكر الواحد في الهجرة الى مدغشقر. أو التنسك على قمة جبل. للخروج من الدائرة. تحتاج الى مناعة ذاتية داخلية فظيعة لتحفظ وجهك في هذا الوقت الأسود. تحتاج روحاً سليمة لتحفظ وجهك من الضياع بين الأقنعة. الواحد يخاف أن يفقد وجهه. البدن المريض تحمله الروح. لكن الروح المكسورة من يحملها؟ الناظر الى عمارات الوسط التجاري المرممة الجديدة هل ينسى بيروت 1990 والساحات السوداء تتباعد فيها الخرائب ويغطيها الدمار والعشب والشوك والطيون والأتربة؟ تنظر الى الأبراج اليوم فتذكر أحياء بائسة كانت قبل 15 سنة ها هنا: حيّ الغلغول وسكان سيتي بالاس والخروف الذي كان يرعى بين تلال العشب عند مدخل اللعازارية. الوقت غريب. يخفي مدناً ويكشف أخرى. أفي هذا الزمن القصير رأينا كل هذا! أحرقت بيروت الوقت حرقاً. من 1990 الى هذه الساعة وهي تحرق الوقت. من حرب 15 سنة الى سلم 15 سنة الى خوف من حرب وسلم يجتمعان ولا يجتمعان. مدينة غريبة. والآن ننظر اليها ولا نراها. لا نراها لأن الطنين المتواصل لا يمنع السماع فقط، بل هو يمنع الرؤية أيضاً. هكذا لا ترى الأبراج تتصاعد نحو الغيوم بينما نظرتك تعبر على هذه الكلمة. مدينة جديدة بانت أخيراً: من يراها؟ هذا الخريف، ماشياً من باب ادريس الى أطلال سان جورج، ترى حياً كاملاً جديداً من البنايات والأبراج. متى ارتفعت هذه المدينة الجديدة؟ هذا النصف الغربي من مدينة سوليدير بأي سرعة ارتفع كاملاً من بطن التراب؟ مدينة عجيبة. كان الطنين يملأ البلد. خوف وانفجارات ووساوس. ومع هذا ارتفعت هذه المدينة الصغيرة. في الشهور القليلة الماضية ارتفعت! معقول؟ مدينة في جوف المدينة. لم تكتمل بعد. لكنها أوشكت أن تكتمل. وهذا كلّه حدث في شهور الاضطراب الأخيرة! واقفاً عند الفيلات الفخمة وراء السراي الكبير ترى أطلال الكنيس تحتك لكنك لا ترى البناية الحمراء البعيدة على البحر. بناية مربعة حلوة قرميدية اللون بشرفات خضر كانت تُرى من هذه النقطة. أين اختفت؟ نبتت بينك وبينها بنايات كثيرة! غابة من البنايات ملفوفة بالستائر! متى نبتت هذه البنايات؟ كانت بناية ستاركو وحيدة في قلب صحراء بعد ان هدمت الحرب - ثم الإعمار - البنايات المجاورة. ستاركو لم تعد وحدها. بنايات أخرى تحاصرها الآن. بيوت ونوافير وجنائن. وورش جديدة. الغبار يملأ وادي أبو جميل. والسماء تنخفض. الغيوم تفور في الأعالي وتخترق نوافذ لم تخترقها من قبل. على البحر - في نصف المسافة بين أوتيل فينسيا ومكب النورماندي - يرتفع برج غريب الشكل. دائري وقمته كشراع سفينة. هذا البرج سيتحول بعد وقت شهور؟ سنة؟ أقل؟ أكثر؟ الى علامة مميزة للواجهة البحرية. من طبقاته العليا تنظر الآن مع العمال اللابسين الخوذ الصفر الحديد الى الشارع تحتك والى مرفأ اليخوت والى عين المريسة. اذا استدرت رأيت مشهداً لم تتخيل انك يمكن أن تراه من هنا: ساعة البرلمان ومآذن جامع محمد الأمين. هنا وهناك: المزيد من الورش. الواجهة البحرية تتحرك. المدينة تنحدر بعماراتها صوب الماء. أهل"النهار"لم يتركوا الحمرا الى البناية الزجاج على ساحة البرج إلاّ هذه السنة. وفي المستقبل الغامض يختفي مكب النورماندي: تختفي جبال النفايات. تظهر مكانها مدينة جديدة. مدينة صغيرة بحدائق وعمارات أوسع من"قرية الصيفي". بيروت المستقبل الواقف أمام"بلدية بيروت"العثمانية يحصي نوافير الماء 11 نافورة؟ يرفع رأسه وينظر غرباً. يرى الأذرع الحديد العملاقة تغطي السماء. لونها أصفر وتدور وترفع حجارة وحديداً وشغيلة. لا يرى الا هذه الأذرع على مد العين والنظر. صف بنايات ينتظر الظهور من وراء الشبك الأخضر على الحافة الغربية لشارع اللنبي. يمضي وقت ويتساقط هذا الشبك كما تساقط من قبل عن ورشة الجامع العمري الكبير. الآيات الكريمة في سقف الجامع المذكور غطاها خشب الترميم. بأي سرعة تبنى المدن؟ كيف تكون بيروت المستقبل؟ بيروت الأولاد والأحفاد كيف تكون؟ علينا أن نصرف ما هو أسود عن الأذهان. ننسى فالق الأناضول ونأمل خيراً. ننسى أشياء أخرى أيضاً. كوكب سيتي بالاس كيف تكون بيروت المستقبل؟ التصاميم الهندسية التي عُرضت قبل شهرين أو ثلاثة في جوف سينما سيتي بالاس تُظهر رسوماً خيالية لساحة البرج المستقبلية ساحة الشهداء أو سهلات البرج المزروعة توتاً في القرن التاسع عشر. ليس مستقبلاً بعيداً بحسب خطط سوليدير. في المستقبل لن تُهدم سينما سيتي بالاس قبل أيام قليلة تحولت طبقتها السفلية الى موقف سيارات تحت الأرض. المبنى الغريب بقبته البيضاوية الباقية من زمن الحرب منخورة بالشظايا يبين في مستقبل المدينة مرمماً جديداً. القبّة الخارجة من أزمنة الخراب نراها في المستقبل تتعلق في الهواء كصحن فضائي: قبة معمولة من زجاج ومعدن ومرايا وفضة وكهرباء. تشبه كوكباً.قبالتها، بين شارعين مستقيمين، تتطاول ساحة أنيقة بأنوار نيون أبيض وبنفسجي وأزرق، وبسلالم كهرباء وأشجار خضراء ومتاجر فخمة. ساحة خارجة من روايات فيليب ك. ديك؟ مخيلة تلامذة فرانك للويد رايت أم دي شيريكو ولوحاته الميتافيزيقية؟ لعله المستقبل الأنسب لهذه المدينة الغريبة. سمة اكتشف كالفينو في كتابٍ منشور سنة 1972 ان كل مدينة تحمل في بطنها تاريخها كاملاً. بيروت الآن تحمل الماضي في زوايا الشوارع، في أباجور النوافذ، في شظايا الحيطان، في حديد الأبواب، وفي خطوط غامضة ترسمها أسراب الحمام بين السطوح العالية. واقفاً أمام قناطر الجامع العمري الكبير تقدر أن تتخيل بيروت 1830، مدينة مسورة سكانها خمسة آلاف نسمة. باموك يعتقد أن الحزن سمة تختصر اسطنبول. منذ انهيار الامبراطورية العثمانية وانتقال المركز العاصمة الى أنقرة، واسطنبول حزينة. كأنها فجأت باتت فارغة. هل هذا دقيق؟ تضاعف عدد سكان اسطنبول عشر مرات من مليون الى عشرة ملايين في العقود الخمسة الفائتة. لكنها مع هذا حزينة. ما هي سمة بيروت؟ ليست مدينة حزينة. كل الحروب التي شطرتها لم تورثها حزناً. مدينة ضجة ومليون ونصف مليون انسان وزحمة ومناقيش وبطاطا مقلية وحركة. صباح الأربعاء 28 أيلول سبتمبر 2005 أمطرت 15 دقيقة في رأس بيروت. الطرقات مسدودة في الأشرفية. زحمة السير خانقة مع انها لم تمطر هنا. أبواق وسيارات وهتافات ووجوه. باصات مدارس وعمال. هل بيروتكنيويورك مدينة نشيطة مزدهرة؟ بيروت ليست نيويورك. حتى ولو زارها الپFBI بينما قاعة بيال تزهو بعارضات أزياء. أتكون مدينة مضطربة عصبياً؟ مدينة مذعورة وغير مذعورة. مدينة تخاف وتركض. تبكي وتضحك. تربط الليل بالنهار وتلعن نفسها 24 ساعة ثم تبارك نفسها 24 ساعة! هل بيروت مريضة نفسياً بعد الحرب الأهلية الطويلة والسلم الطويل المرتبك؟ مريضة ومثل مريضة لا تعرف أنها مريضة. متكبرة متجبرة مملوءة حبّاً وشقاء وخوفاً وأملاً، تطلب العالم كلّه وتخشى ألا تُعطى شيئاً. المدن معقدة. لا يجوز اختصارها الى سمة أو سمتين. المدينة الواحدة ذاتها ليست مدينة مفردة. من حي الى آخر تتغير. من بيت الى بيت تتغير. دورة واحدة على نفسك فوق"جسر فؤاد شهاب"تكشف أمامك أربع مدن أو أكثر. قد لا تُرى بعد اليوم امرأة خمسينية تقطع شارع بشارة الخوري. خطوتها سريعة. تخاف من السيارات. على رقبتها ضمادة بيضاء. كانت في المستشفى؟ تدخل في زقاق يأخذها الى حيّ رأس النبع. تختفي في المتاهة. قد لا تُرى بعد اليوم. غابة كليمنصو أولاد يركضون في شارع كليمنصو شرق الجامعة الأميركية. هذا نادر الحدوث. الآن وقت مدارس. ونادراً ما ظهر أولاد هنا. وراء حائط طويل غابة صغيرة يملكها الفرنسيون. لا يرى الغابة من يعبر هذا الشارع. من أعلى البناية المجاورة - جنب الفندق - قد تراها. من منطاد أصفر اللون تراها أيضاً. حدود سيارات تتصادم على تقاطع طرق. عصافير الدوري تطير من السروات الخضر كم سروة؟ من يعدها؟ أمام البيت القديم الأبيض بالشبابيك الخضر والقناطر العتيقة. بيت بقرميد أحمر يُشرف على وادي أبو جميل، ويقع عند أقصى الحدود الغربية لسوليدير. من شرفاته ترى مدرسة"راهبات المحبة"بأشجارها الكثيفة وسورها العالي. ترى قرميد الكنيسة المجاورة. ترى برج المرّ. وفي الجهة الأخرى: منطقة الفنادق. الهوليداي - إن ما زال مهجوراً. البيت يبدو موصداً. تحته قطة سمينة تنعم بالظل، لونها لون الذهب. قديم محجوب بيوت الأزقة الفرعية في منطقة الجامعة اليسوعية. بيت ريفي يختفي وراء حائط تعربش عليه البنايات. من باب الحديد المطرق ترى كنبات بشراشف مطرزة زهوراً. ترى شجراً في حوش ومقاعد في قش. العتمة داخل البيت. كقطعة حلوى أمام طفل. والعجوز القاعد تحت الشباك يأكل برتقالة ويحرك رأسه حركة رتيبة. بلس والسيوفي والأحدب الدكاكين التي زالت من شارع بلس وارتفعت مكانها الأبراج والمقاهي الحديثة. مساكن فاخرة وسيارات عالية وحراس. اختفى مطعم بارون الصغير المشهور بالبسطرما الأرمنية. لكن ظل صالون سفر للحلاقة. لونه أزرق. صالون كامل قديم أزرق. اختفى عند تقاطع المكحول - جاندارك"عصير الزاوية". كان يُقصد لسندويشة البطاطا الحرّة بالكزبرة والثوم. لم يعد يُقصد. الشجرة المقطوعة عند طرف شارع الياس السيوفي فرَّخت فروعاً خضراً جديدة. أهل الحيّ ظنوا انها فُقدت. ها هي ترجع. شجرة الكينا. الحمائم تملأ سماء بيروت. كانت أشد كثافة في منطقة"مدام كوري". لكنها قلّت في الشهور الأخيرة. الحمائم على ساحة البرلمان ما زالت كثيرة. حراس يرمون لها حَبَّاً. تتكاثر على الحجر البركاني الأسود. في شارع"حسين الأحدب"اكتملت قبل أيام بنايتان جديدتان. احدى البنايتين تضم فندقاً. وراء بنايات شارع المعرض يمتد رصيف المطاعم الجديد ويطل على أعمدة رومانية. مطعما"ديو"وپ"لا بوستا"لم يزرعا الأحواض بعد. لكن"لا بيازا"زرعها حبقاً. غيوم تفور غيوم تفور في سماء بيروت. هذه سماء الخريف البديعة الزرقة. الغيوم تنعكس في الأبنية الزجاج قبالة سينما كونكورد. مصارف ومتاجر وشقق. المدينة تحلم. زحمة أمام"المدينة الرياضية". رائحة طيبة تفوح من سوق الخضر. عابراً"الضاحية الجنوبية"تلاحظ تكاثر الأفران ومطاعم الفلافل الصغيرة. الكاراجات أيضاً. الواحد في هذه المدينة لا يذهب الى عمله إلاّ راكباً سيارته. الباصات أصلاً ملآنة. والمترو لم يصل الى بيروت بعد. مع أن بيروت ليست فينيسيا. تحفر التراب فلا يخرج من التراب ماء. المترو قد يكون فكرة جيدة. يُخفف الزحمة. يزيد الروابط. كيف تكون بيروت المستقبل؟ لا حاجة للتفكير في هذه المسائل. قبل أن يأتي ذلك الوقت عندنا تقرير ميليس.