لحظتنا الراهنة ليست أدبية كما حلمنا لزمن طويل بها. السياسة تلتهم كل شيء: الحياة اليومية والحب وأحاديث المساء والأدب. وستكون القيامة قد حلت حينما ستدخل السياسة، ذات ليل، أحلامنا. المسافة القصيرة بين الزمن والواقع والتي كان يملأ الأدب فضاءها تتقلص يوماً اثر يوم مثل فانوس بلزاك ليصير الواقع ضرباً من أخبار المعادلات السياسية السخيفة التي تتغير أرقامها كل يوم. انتظار صدور رواية صاخبة أو ديوان شعري يبادل المخاوف بالأوهام الشعرية أصبح ترفاً للحالمين الذي يعيشون على أطراف العالم الافتراضي. هؤلاء هم نبلاء العصر ما بعد الحديث الفاقدي اللقب والحظوة بعد ان طوق حديثو النعمة من الرأسماليين الجشعين، العالم بسياج - هو الآخر افتراضي - من اسهم البورصات ومداخيل الشركات العالمية والأسماء اللامعة لرجال السياسة على شاشات التلفزة والانترنيت وصفحات الصحف والمجلات والكتب المطبوعة بملايين النسخ والتي تروي سير من يصنعون عالم اليوم المتعجل الخطى الى مزيد من الذعر. أكثر من أيقونة أدبية في عصر الأدب الحقيقي الذي مضى بلا رجعة تخبرنا أن مستقبلنا كامن في الخطوات التي يرسمها حاضرنا. لكن حاضرنا اليوم مدموغ بعدم النزاهة في كل شيء. الانحياز الى الأفكار السياسية المحضة هو سمة عالمنا اليوم والقيم الأدبية أصبحت صناعة أكثر منها مفهوماً أخلاقياً، يتعلق بمصائرنا كبشر فانين، يوازن بين حياتنا وموتنا الأكيد الذي لا بد لنا من الموافقة عليه في ساعة ما، عصيبة، من وجودنا. فغاية الأدب كما كتب بورخيس في أحد أيام عام 1926"هي عرض مصائرنا". وكان يقصد كأفراد من دون شك وليس كقطعان تسوقها رغبات الرعاة والصيادين. لكننا على رغم تملكنا وسائل فردية في غاية التعقيد تزيد من عزلتنا عن الآخرين ابتداء بالتلفزيون الى الهاتف النقال والكومبيوتر المحمول، فأن فرديتنا تتضاءل وتنحسر الى عزلة إرادية والصراع بين الفرد الواعي لمصيره والمجتمع المنهمك في معيشته تزداد في شكل مأسوي. ان شبه قطيعة بين الفرد والمجتمع تأخذ طابعاً عالمياً كحرب من حروب القرن الماضي. الطابع الأخلاقي للأدب كمصفاة للحياة الشعورية للبشر هو الآخر يتراجع فأكثر ما يكتب في أيامنا هذه هو تنميط للسلوكيات داخل وخارج البيت الى حد يجعل الفرد ممغنطاً طوال اليوم، بما تقذفه وسائل الإعلام من موجات، مسلوباً من متعة التفكير الفردي الحر الذي يقرب من مفهوم الجمال. التنميطات الأخلاقية الجديدة، التي تبرر ما كان لا أخلاقياً وهرطقة، قبل عقود، تحل محل القيم التي رسخها الأدب عبر أساطيره وسحره شعراً ونثراً. الجمالية تضمحل مقابل الوفرة الكتابية والموضة متقلبة الأهواء بحسب مزاج رجال المال والسياسة. انتحار الكلمة في ساعة من ساعات غضبه كتب ستندال"السياسة في الأدب مثل إطلاق رصاصة في كونشيرتو"وبعد ذلك كتب رواية"دير بارم"حيث بطله فابريس دون دونجوني يجتاز خطوط القتال في معركة اوسترليز ويدخل في نقاشات لغوية مع قادة المعركة قبل ان يطرده احد الجنرالات متذرعاً بالقيامة. ومثله فعل، لكن بطرق أخرى، تولستوي وكافكا وجويس وبروست وهمنغواي وفولكنر... قبل أن يكتب كلود سيمون"طريق الفلاندر"التي تصف صفحاتها حطام أوروبا المنغمرة في حربها بفعل انتحار العقل وانتحار الكلمة. بطريقة ما يعلن سيمون في روايته الخراب نهاية الأدب في أوروبا وعصف السياسة بأسطورة الأدب الذي حكم البشرية اكثر من ثلاثة آلاف من سنين الزمان الحضاري. ليس لنا اليوم ان نجد نقداً واقعياً وحيادياً يضيء لنا بنزاهة عتمة أو غموض كتاب. صفحات الكتب أصبحت مضاءة سلفاً بإنارة ميتة مثل إنارة مصابيح النيون وليس بنبوءة من نبوءات نوسترادموس أو جورج اوريل أو ماركيز بين طياتها. والنقد منحاز مسبقاً بأحكام سياسية ورشوات من أنماط مختلفة وعقد الاختلاف عن بقية الركب ومثنوية في الغالب -، يمين يسار، رأسمالي اشتراكي، مسالم إرهابي، أوروبي عالم ثالثي - تقود الى متاهات ليس لها علاقة بالنص بمقدار علاقتها بالسياسة وتشعباتها المكتظة بالأكاذيب والنزعات السلفية التي تنتشر كالفطر في الخريف. فانعدام الصدق في النص والتكلف، المدروس بعناية، أصبحا سمة لأكثر ما يكتب اليوم، والقارئ يلتهم هذه الأكاذيب والانحيازات السطحية ويصبح مبشراً بها كحقائق شبه مطلقة، شبه لاهوتية، عن مسيرة عالمنا اليوم. ليس حماقة أو استخفافاً ذم غالبية النتاج الحاضر لعصر الرواية. فترنيمات الفرنسي ميشيل ديلرم البيتية في رواياته تبدو مثل وجبات معلبة تنز برائحة مركبات الحفظ لأمد محدود وقد ينقصها إشارة في الغلاف من نمط"الرواية صالحة للقراءة لعام واحد بعد نشرها"وليست أحسن حالاً روايات نجوم البرامج الأدبية في فرنسا زكلير أو الكسندر جردان أو برنار ليفي التي تبدو مثل سفرات سياحية لمجاهل أفريقيا على شاشة السينما في عروض لكبار السن وليس بين الفيلة النتنة الرائحة السارحة في سهوب السافانا أو في بحار أو انهار جهنمية كما كتب كونراد أو ملفيل أو همنغواي. أما المبشر بالكراهية مثل مسيح دجال ميشيل ويلبك، الذي كلما اصدر كتابا امتلأت أرصفة محطات القطار والمترو ومحلات بيع التبغ والصحف بإعلانات كبيرة عنها بجانب إعلانات مطاعم الهمبرغر والعطور النسائية، فليست رواياته الأكثر مبيعاً وترجمة، من بلاد الغال الى سهول سيبيريا المتجمدة طوال العام، إلا تمرينات فاشلة في الكتابة الكيدية لواحد من الزعران في ثلاثينات القرن الماضي الألمانية. يكاد الأدب الحالي ان يكون صورة بائسة لما يبثه التلفزيون والريبورتاجات الصحافية وليس الواقع بطبقاته اللانهائية وأساطيره الخارقة. فعلى رغم البؤس الجماعي ومئات الملايين من المصائر الفردية الفاجعة التي تصنعها السياسة كل يوم في الهجرات الاضطرارية والحروب والمجاعات، فأن السياسة ذاتها أصبحت متن الأدب بصورة مباشرة أو ملتوية، لكنها حاضرة في الحالتين لأن الأدب المقروء هذه الأيام اصبح يمر عبر ممرات كافكوية متشعبة يحكمها رجال السياسة الذين تحرك مشاعرهم وأيديهم أسهم البورصات وشهوات رجال المال الذين هم سياسيون محنكون في الفضاء الخفي لروما العالم المضطربة مما يجعل منهم اكثر بطشاً من قتلة يوليوس قيصر. وكأن كل هذا غير كاف بعد لجعل الأدب في قائمة الثانويات من الأمور فها هم السياسيون أنفسهم، دخلوا عالم الأدب عبر أبواب خزائنهم الفولاذية، بأقلامهم أو أقلام عبيدهم وإمائهم، صاروا ينشرون الكتاب تلو الكتاب، ليسردوا شجاعاتهم المزيفة في قلب موازيين العصر ومحتدهم الضارب في قدم السلالات التي صنعت التاريخ، مبشرين في الوقت نفسه، بعقاقير شافية لم تحوها حتى صيدلية لقمان الطبيب الأسطورية. تكفي اليوم جولة على الواجهات الزجاجية ومداخل مكتبات السان جيرمان ومونبرناس وكنزنج تاون وكرون فيا، ليجرب القارئ الشغوف مرارته وهو يرى أن أغلفة كتب السياسيين تملأ الواجهات والمداخل بالعشرات بينما ينام الأدب المحض على الرفوف بانتظار من يسأل عنه. معارك الانتخابات الرئاسية في فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا هي أيضاً معارك الناشرين في نشر وعرض آخر ما أنتجته فانتازيا عقول بوش وماكين ومدام كلينتون واوباما ومخيلة سيكولين رويال وبشارات نيكولا ساركوزي. الى جانب ذلك تقف على حمالات بلاستيكية روايات الشلل الأدبية - المدمنة على البرامج التلفزيونية والإذاعية - لدور النشر الكبرى التي تجمع كتاب الروايات الضحلة وكتب المغامرات العاطفية لمقدمي برامج المنوعات في التلفزيون وطبيب الرئيس السابق وكتب صحافيين كاد القدر أن يجعلهم يلتقون بن لادن بعد ان تقفوا أثره سنوات على سفح من سفوح جبال بورا بورا في أفغانستان. نعلم منذ عصر هوميروس ان الكتابة هي مسألة مشاعر داخلية للكائن البشري ولا يمكن لها ان تكون موجهة من خارج الانفعال الفردي أمام العالم. وبديهية هي فكرة اننا لا ننتج أدباً حقيقياً إذا لم نعتنق الحقيقة بغض النظر عن الأسلوب الذي تعلن به هذه الحقيقة، هوميروسياً أو كافكوياً أو ماركيزياً. حينما أطبقت السياسة على ألمانيا الثلاثينات اختفى الأدب على الأرض وكذا الحال في ايطاليا الفاشية وإسبانيا الفرانكوية والعراق الصدامي وكل الأنظمة التي أفرطت فيها السياسة ساحقة تحت عجلاتها الأفراد الذين يصنعون أهواءهم بحرية مطلقة و روحانية من نمط خاص بهم. فالأدب نقض للسياسة باعتبارها شأن المجموع بينما هو يزدهر في عقول الأفراد، كل على حدة. انه الليبرالية الحقيقية للفرد بلا سياسة أو اقتصاد أو علم اجتماع أو تاريخ رسمي ونشيد وطني... السياسة التي تطبق اليوم على عالمنا بأذرع أخطبوطية متعددة الاختصاصات تضيِّق الطريق على مستقبل الأدب. القراءة تستحيل الى فعل موجه بألف طريقة هدفها النسيان من أجل إعادة الإنتاج وزيادة الأرباح. فعل القراءة أصبح استهلاكياً وغرضياً أحياناً وجزءاً من عملية الإنتاج اكثر منه متعة وتساؤلاً في مغازي الحياة وأسئلة المصير البشري ومقارعة الزمن. في أيامنا هذه أصبح نادراً الكتاب الذي يدعونا الى إعادة قراءته لنجد متعة الطفولة كما متعة الكهولة مثلما يصفها البرتو مانغويل. ولعله من السهل، أمام الزحف البربري للسياسة وهيمنتها على كل شيء في هذا العالم، التوقع ان هذه المتعة لن توجد في المستقبل إلا في مكتبة الأسلاف حيث الحب والخيانة والشجاعة واليأس والموت والمستقبل نفسه الذي لن يكون أدبياً. حينذاك سيجرفنا الحنين للأدب المفقود. مثل صناعة السيارات وأجهزة التبريد والسياحة نعيش اليوم برهة لاوجود فيها للفرد ككائن طيب بالضرورة كما وصف دوستويفسكي بطله الأمير ميشكين بل نحيا في فردانية وهمية ومقادة، كجموع من جواميس البر، تحت مهب غريزة الانقياد التي تعيد إنعاشها، على نحو بالغ الإباحية، أجهزة الإعلام السياسي المرئية والمكتوبة، التي بعد ان خربت وحدة العائلة اتجهت لطمس معالم الفرد المستقل الذي اصبح خارج التاريخ الاجتماعي والأدبي. في نصف قرن اصبح الأدب صناعة جماهيرية مثل صناعة السيارات وأجهزة التبريد والسياحة. أجهزة تؤدي وظائفها لحقبة محددة ثم تنتهي الى مقابر الحديد على أطراف المدن الحديثة او النسيان، مرض حضارتنا الأخير. لم يعد هناك الجمهور الذي يلاحق بلهفة مسلسلاً لروايات بلزاك أو دوستويفسكي أو الكسندر دوما التي كانوا ينشرونها فصلاً فصلاً في صحافة القرن التاسع عشر: الروايات التي كانت تغذي التفكير بالمصير الإنساني وعلل الوجود والحب والموت ووحدة المصير البشري. ليست روايات فولكنر او همنغواي أو غراس أو استورياس أو ماركيز أو محفوظ أقل التصاقاً بالتجربة البشرية وفجائعية المصائر والوجود. بينما روايات اليوم في معظمها روايات أفكار عابرة، موضات متقلبة، وزيجات مصالح وثرثرات يومية الى حد السأم، ولا يشذ عن ذلك إلا روايات الأقلية الميكروسكوبية التي وضعت حقل الغام بينها وبين السياسة بالمعنى الذي فرضته العقود السوداء للحرب الباردة بين الأنظمة الشمولية القاتلة والأنظمة الديموقراطية الواضعة يدها على الزناد، أو حرب السنوات الأخيرة التي تدور رحاها بين بوش وبن لادن في وقائع معلنة و دامية و في صخب احتفالي نادر في تاريخ البشرية. روايات الروسي شولوخوف، الأبن غير النموذجي للواقعية الاشتراكية، والذي اغمض عينيه عن ضحايا الكولاك السوفياتي، تبدو اليوم كأنها عدن سحري أمام مهرجي السوبر ماركت الروائي المتعدد الجنسيات والمسكون بهاجس"البيست سيلر"، الفكرة العقيمة للرواية الأكثر مبيعاً، ماسة الناشر السحرية. فمثل زيادة الإنتاج التي أصبحت لب الفكرة الرأسمالية وديدن السياسيين فأن زيادة عدد الكتب المنشورة سنوياً أصبحت علامة الناشر الكبير وعلة شهرته التي تجعل الكتاب يتسابقون على استقباله كحكيم من حكماء المدينة الفاضلة. بينما يعلم الجميع من أصحاب الشأن، عشاق العزلة، ان مفارم الورق تنتظر بعد شهور ملايين الكتب الكاسدة التي لم يلتفت إليها القراء في زحمة سوق الإعلانات والمؤامرات الخفية للناشرين في منح الجوائز الأدبية والثناء على بعض"الأسمال الأدبية"التي تتحول في ليال شبيهة بليالي ساحرات ماكبث الى أناجيل تقرأ في القطارات وعلى شواطئ البحار في الصيف. هكذا توجت في مملكة القراءة التي بلا حدود مرئية لها."شفرة دافنشي"والأجزاء الخمسة من مغامرات"هاري بوتر"التي انتظر توزيعها قراء القرن الواحد والعشرين أمام الأكشاك في ليلة برد ومطر لندنية أرّختها نشرات الأخبار كليلة عيد ميلاد لعصر جديد. وهكذا أيضاً تجولت"الخيميائي"في لغات القارات الخمس لتسلب ال نشر في العدد: 16692 ت.م: 16-12-2008 ص: 24 ط: الرياض