لم يكن الروائي الأميركي نورمان مايلر مرة أشدّ براعة وإيجازاً منه في قوله بأن المؤلفين الذين يحيون في أسطورة إنما هم أولئك الذين يقدمون أنفسهم كشخصيات يمكن الإحاطة بها على الوجه الذي يُحاط به نجوم السينما. وتبعاً لذلك فإن سكوت فيتزجيرالد وارنست همنغواي يغزوان نفوسنا بالوضوح نفسه الذي تغزوه صورة جيمس كاغني وهمفري بوغارت. ومكمن الذكاء في ملاحظة كهذه لا يتوقف على حقيقة أن فيتزجيرالد وهمنغواي كانا السبّاقين في الظفر بصفة النجومية بحيث أضحى من الوارد مذ ذاك أن ينعم الأديب باهتمام الجمهور على نحو ما نعم به نجوم الفن السابع في عصر ازدهار هذا الفن، وإنما يعود أيضاً الى دقة الشبه ما بين صورة جيمس كاغني وسيرة فيتزجيرالد، من وجهة، وما بين بوغارت وهمنغواي من جهة أخرى. وانه لمن غير المستغرب أن يذكرنا اسم همنغواي بعدد من صوره الفوتوغرافية بقدر ما يمكن أن يذكرنا بشخوص وحوادث مما هو معروف وشائع من أعماله الأدبية. فصورة همنغواي في ثياب الصيد أو صورته في حلبة الملاكمة أو في باريس برفقة زوجته أو في كينيا أو في كوبا ليست أقل حضوراً من الصور الأدبية لجاك بارنز ولفيف المغتربين الأميركيين والبوهميين المتنقلين ما بين باريس واسبانيا في ما يشبه حفلة متواصلة على ما يأتي في "سوف تشرق الشمس أيضاً"، أو صورة انهزام الجنود في الحرب الأولى في "وداعاً أيها السلاح" فضلاً عن شخصيتي فردريك وكاترين هنري والنهاية المأسوية لتلك القصة، أو صورة الشيخ سانتياغو، في رواية "الشيخ والبحر"، وصراعه مع تلك السمكة الكبيرة التي لا يعرف السلام قبل أن يتمكن منها، أو مقولته الشهيرة "يمكنك أن تدمر الإنسان ولكن لا يمكن أن تقهره"، أو غيرها من الصور التي تخلفها قصصه ورواياته في نفوس قرائها. بل يجوز القول ان هذه الصور الأدبية ما كانت لتحظى بهذا الشيوع ما لم تحوّل رواياته الى أفلام سينمائية لعب أدوارها الرئيسية ممثلون كبار. ومجمل الأمر أن همنغواي جاء مع ازدهار عصر السينما والمجلات المصورة التي لم يعد ميدان اهتمامها مقتصراً على أخبار وفضائح رجال السياسة والمال وإنما تجاوز هؤلاء الى أبطال الثقافة الجماهيرية. وشأنه شأن أبناء جيله، فإن همنغواي لم يزهد في الشهرة ولم يتوان في أداء دوره أمام الكاميرا كشخصية عامة شهيرة. "الجيل الضائع" وصادف أن بلغ همنغواي طور الرجولة وظفر بشهرة عارمة في العشرينات من هذا القرن. أي في العقد الأغنى دلالة في تاريخ الولاياتالمتحدة الحديث على نحو خاص. وعلى ما يذهب الناقد البريطاني مالكوم برادبري، وهو أحد الرواة ممن يسلك مسلكاً عاماً وشاملاً في وصف ما جرى في ذلك العقد أملاً بأن يبيّن أثره على سير وأعمال الكتاب من أشباه همنغواي، وسعياً الى الحد من غلواء المنهج الذي يصور الكاتب كصانع نفسه ومصيره بمعزل عن الثقافة والمجتمع، فإن من المسوغ النظر الى هذا العقد بمثابة حقبة من الأوهام وقعت ما بين حقيقتين تاريخيتين بالغتي القسوة، الحرب العالمية الأولى، من ناحية، وانهيار "وول ستريت" عام 1929 والكساد الاقتصادي الكبير الذي تبعه، من ناحية أخرى، بما أفقد ذلك العقد رونقه ورصيده السياسي والثقافيّ. وفي مجال القصة، أدى الوعي الحديث الى اختراق غلاف السرد الطبيعي المطبق حتى ذلك الحين على القصة الأميركية بما أثمر كتابة تُعنى بتعقيدات الوجدان وبميل الى تجاوز ما بعد الطبيعي وما أسفله أيضاً. وفي ضوء ذلك فإن ما سعى اليه روائيون مثل سكوت فيتزجيرالد وهمنغواي وتوماس وولف ووليم فوكنر هو الإمساك بما يتهدد نفس الإنسان بفعل انضوائه الحثيث والآني في مسائل زمنه. ولقد كتب همنغواي في هذه الحقبة أحسن أعماله الأدبية كروايتي "سوف تشرق الشمس أيضاً" و"وداعاً أيها السلاح" ومجموعتي "في زماننا" و"رجال بلا نساء". وعلى ما تمضي طائفة أخرى من رواة ومروّجي أخبار الأدباء، ينتسب همنغواي الى ما يُعرف ب"الجيل الضائع"، وهي الصفة التي أطلقتها جرترود شتاين على ذلك الجيل من الشبّان الأميركيين الذين خاضوا غمار الحرب العالمية الأولى في أوروبا وحسبوا أنهم حينما سيؤوبون الى بلادهم سيستأثرون بلعب دور مهم في تقرير مستقبل أميركا. بيد أنه سرعان ما خاب أملهم حينما أيقنوا بأن بلادهم لم تتغير بالقدر الذي يفسح المجال لظهور نخبة جديدة تُحدث التغيير المأمول. كان همنغواي من ألمع وجوه المغتربين الأميركيين على رغم أنه لم يكن قد نشرّ سوى كتاب صغير واحد يحتوي على ثلاث قصص وعشر قصائد، وأنه ما انفك يكسب رزقه كمراسل صحافيّ لمجلة "تورنتو ستار". ولقد قدم همنغواي الى باريس لا بغرض الكتابة بالدرجة الأساس وإنما لكي يتعلم كيف يكتب، أما ما الذي سيكتبه فهذا لم يكن بالأمر العسير طالما أنه كان قد شرع في تسجيله كسائق عربة اسعاف خلال الحرب الأولى وكمراسل صحافي جال بقاعاً مختلفة من العالم فضلاً عن استغراقه المتعاظم بأنشطة رياضية شتى كالملاكمة ومصارعة الثيران والصيد والتزلج... الخ. وسؤال "كيف تكتب؟"، على ما يذهب الرواة وصُنّاع الأساطير، كان سؤال الجيل الذي انتمى اليه همنغواي طالما أن هذا الجيل وعى تقاليد الكتابة لدى أسلافه وعياً نقدياً. بيد أن السؤال الذي تلمس صاحبنا الإجابة عليه عند مواطنيه الرائدين في هذا المضمار عزرا باوند وجرترود شتاين لم يكن إلاّ ذاك المعنيّ بالعثور على تقنية سرد تُفلح في ايصال ما يُدرك ويُحس من دون وساطة راوٍ كُليّ المعرفة على ما كان معهوداً في أساليب سرد الأسلاف. على ما يزعم همنغواي في رواية "موت في الظهيرة"، وهي واحد من أعماله الخمسة التي تختلط فيها الرواية بالسيرة الذاتية، فإنه بالإضافة الى صعوبة المعرفة الصادقة لما يحسه المرء فعلاً، عوضاً عما يجب عليه أن يحسه أو ما كان قد لُقّن بأن يحسّه، فقد واجهته مشقة كتابة ما حدث بالفعل، أي ما حدث من الأمور الفعلية وأفضى الى ذلك الإحساس الذي يعتري المرء. وكان السرد التلقائي والموجز هو حصيلة هذا الجهاد. وهو السرد الذي تميّز به همنغواي خصوصاً في قصصه القصيرة حيث أرسى تقليداً من القصة تقول الكثير بوجيز العبارة ومن غير تكلف أو عسر. ولا غلو في القول بأن همنغواي أفلح في قصصه القصيرة، دون غيرها من أعماله الأدبية، أن يكون الكاتب التقليدي الذي ينتفع من تقنيات السرد الحديثة على وجه نادر الحدوث. وهذا عائد في الحقيقة الى أن الاقتضاب أو الاتكال على الحوار التلقائي هما من بعض العناصر التي تعين القصة على أن تأخذ شكلها كعمل أدبيّ مستقل. نهاية حقبة وبداية أخرى وإذ سعى همنغواي الى كتابة سرد لا دور فيه لوسيط يصف أو يصوّر ما يُحس ويُدرك بما أفضى الى ايثار الجملة المقتضبة والى الاعتماد المفرط على الحوار، فإنه لم يرقَ في حداثة أسلوبه الى مصاف العديد من روّاد ما يُعرف ب"تيار الوعي" ممن رأوا الى العالم الخارجي مثابة مقصد الوجدان الذاتيّ للشخصية المعنية. أي أنه ليس عالماً قائماً بذاته وبمعزل عن المدرك أو العاقل. ولا شك في أن همنغواي كان منشغلاً بسؤال "كيف تكتب؟" بما لا يقل عن انشغال جلّ أبناء جيله، وبما استدعى منه انغماساً في الأساليب التجريبية، غير أن ما أراد أن يكتبه ويكتب عنه، ما كان ليتيح له الافراط في سرد منغلق على ذاته كما هو الأمر بالنسبة لفوكنر، على سبيل المثال. فلم يكن بوسع همنغواي أن يتخلص من التصوّر المسبق بأن ثمة عالماً هناك يحتاج الى من يصفه ويصوره. وعلى هذا جاءت كتاباته أشبه ب"أدب رحلة". ففضلاً عن اشتغاله لزمن مديد كمخبر ومراسل صحافيّ بما يعني أن الكتابة بالنسبة اليه هي وسيلة اخبار ما يجري، فإن جلّ رواياته وقصصة إنما تدور في بقاع مختلفة من العالم يحوطها من الغموض والإثارة ما يجعل الوصف والتصوير ضروريين لإشباع فضول القارىء. ينضاف الى ذلك أن الكاتب الساعي الى صوغ حياته على نمط معين، قد عمد الى صوغ شخوص قصصه على النمط نفسه أيضاً. فأبطال قصصه هم مغامرون ومتسكعون ورحالة وملاكمون ومصارعو ثيران وصيادون وسكارى ومتمردون على الأعراف الاجتماعية، وفي كافة الأحوال فهم أما رابحون وأما خاسرون. وحيث شاء الكاتب أن تكون هذه الشخصيات صورة لنفسه، أو الصورة التي أراد أن يكوّنها الآخرون له، فمن الطبيعي ألاّ يكون هناك كبير فرق ما بين جاك بارنز وما بين فردريك هنري وروبرت جوردان لمن تقرع الأجراس وهاري مورغان ان تملك والاّ تملك أو مانويل مصارع الثيران في قصة "غير المهزوم". وليس استئثار مثل هذه الشخصيات، والعالم الذي تعيش فيه والعلاقات التي تربطها ببعضها، على اهتمام الكاتب إلا دلالة على أن الانفعال الذاتي بالعالم ليس هو نقطة انطلاق الكاتب ولا مبتغاه، وإنما كتابة ما هو أشبه بأدب الاحتفاء الذاتيّ، أي الاحتفاء بالذات متجاوزة للحدود التي تفصل بين البلدان والأمم المتعالية على قيم وأعراف الطبقة المتوسطة التي ولد فيها همنغواي ومقتها بالتالي أشدّ المقت. ومن منظور شامل فإن من الممكن الخلوص الى أن ما رجح أسلوب السرد الوصفي الإخباري على السردي المتشابك والمعقد أن أدب همنغواي هو تجسيده لكونية ارست الحرب الكونية الأولى معالمها. ولكن حيث لم يتأت هذا الحسّ بالكونية إلاّ من سبل كالتمرد على ما هو محليّ وخاص ومن خلال فعل تدميريّ كالحرب، فإنه كان لا مناص من أن ينحو وجهة تكريس الفردية بوجهها "الطقوسي" اذ تمّ تصوير كل ما هو حادث أو عابر كأنه مأسوي وقدريّ. لهذا استوت قصص همنغواي وفق معادلة الذات في مواجهة العالم حيث تبقى كل علاقة علاقة انسانية قاصرة عن التحقق، وكل اتصال أشبه بمعركة تنجلي غالباً عن هزيمة الطرفين. وتبعاً لذلك فإنه إذ يفلح هنري وكاترين في الفرار من ويلات الحرب إلاّ أن كاترين تموت خلال عملية الانجاب فيما يبقى هنري وحيداً في نهاية الرواية. ويلبث جاك بارنز عاجزاً عن اقامة علاقة جسمانية مع المرأة التي يحب. والكاتب سعى الى احياء الطقوس الذكورية البدائية وسط العالم الحديث، فإن العجز الجسماني، وتحديداً العجز الجنسي، ما هو إلاّ الصورة الاكثر بلاغة للهزيمة في العالم. لهذا لا بد أن يهزم الملاكم ويموت مصارع الثيران ويفرّ الجندي ويبقى الكاتب وحيداً يجتر أحلامه ندماً ثلوج كليمنجارو. في النهاية فإذا ما رأينا الى انتحار همنغواي كإقرار بالهزيمة، فإن هذه كانت هزيمة جسمانية أولاً. فبعدما تجاوز الكاتب سن الخمسين واعتور جسمه الوهن، أمسى عاجزاً عن مزاولة الأنشطة الرياضية التي عشقها ودأب على ممارستها، ولم يعد بمقدوره الكتابة بالهمة واليسر اللذين اعتادهما. فحين تستوي الكتابة وفق السعي الى الإخبار، أي إخبار المغامرات التي يعيشها الكاتب، فإنه حينما يعجز عن القيام بتلك المغامرات تصبح الكتابة عسيرة ما لم تنحُ منحى التكرار. وشأن جلّ الأدباء الذين يشتهرون كأبناء عقد واحد أو جيل أو مدرسة، ثم لا تني شهرتهم أن تخبو بعدما ينطوي ذلك العقد في ثنايا الماضي، فإن همنغواي في مواجهة امتحان الزمن لم يبق منه سوى القليل جداً. وأبرز هذا القليل صورة الكاتب الذي أفلح في مضاهاة النجوم شهرة. ولقد حاول الرجل مجاراة تقلب الزمن والمضي بحياته وأدبه من حقبة العشرينات الى ما تلاها. فعمد الى لعب دور الشخصية العامة متخففاً من عبء الانتماء الى "الجيل الضائع" وصورة الفرد الذي لا تربطه آصرة حميمة بالعالم من حوله، والذي ينصاع بالتالي لقدره المأسوي. وما جرى في العقدين التاليين من صعود الفاشية في أوروبا قد تراءى لناظري همنغواي وأبناء جيله مثابة فعل تدمير لا غرض له سوى بسط نفوذ وبلوغ أطماع، فإن الحرب الإسبانية والحرب العالمية الثانية، كانتا معركتين لا مناص من خوضهما ضد الشرّ المتمثل في الفاشية. ولقد انضوى همنغواي مراسلاً ومحارباً في كلتا الحربين وأصيب بجروح بالغة كان لها الأثر المباشر في عجزه عن الاستغراق في الحياة وفق ما يرجو ويشتهي. وقد حرص الكاتب على تصوير ذلك الانتقال من طور الى آخر في قصصه من خلال الاستعاضة عن البطل ذي النزعة الوجودية والرواقية، أي ذاك الذي لا يعبأ بقيمة أو بشأن عام، بصورة البطل صاحب المسؤولية الأخلاقية الرفيعة والإلتزام السياسي الإنساني، ومن ثم فقد حلّ روبرت جوردان، المتطوع الأميركي في صفوف الجمهوريين الإسبان في رواية "لمن تقرع الأجراس" محل جاك بارنز وفردريك هنري. وإذا كان جوردان هو الصورة التي توخاها الكاتب لنفسه أبان الحرب الأهلية الإسبانية وخلافاً لجبنه وادعائه على ما كشف أكثر من مصدر فإن الكولونيل روبرت كاتنال في رواية "عبر النهار والى داخل الأشجار" هي صورته المتوخاة خلال الحرب العالمية الثانية حيث، على ما يُذاع، قاد الكاتب فريقاً من الجيش غير النظامي على الجبهة الفرنسية وأبدى شجاعة أسطورية في مواجهة الجيش النازي. لقد شاء همنغواي أن تظهر حياته العامة أسطورة على غرار حياة نجوم السينما، وعمد الى كتابة روايات تكون بمثابة سرد أسطورة الإنسان في العصر الحديث، ومن ثم فإن الشخصية الروائية سواء ظهرت عدمية أم ملتزمة سياسياً فإنها تبوء بقدرها الذي هو جزء منها. وهذا مرد اخفاق همنغواي كرجل وكروائي. ذلك أنه لم يوقن أنه إذا ما آذن العصر الحديث بأمر ما فلقد آذن بزوال عصر الملاحم والأساطير، وأن الفرد في هذا العصر، هو عصر الرواية، لا يجسد قدراً أو قيمة مطلقة وإنما يعيش حياة هي على الدوام قيض التكوّن، وفي عالم يعصى على الإحاطة أو الاختزال. هذا على أية حال لا يقلل من ريادة أعمال همنغواي الروائية في جمعها الأديب الى الصحافي واضعة بذلك حداً لحيرة التوزع ما بين المتخيّل والفعليّ، وهي الحيرة التي وعاها الجيل التالي من الروائيين الأميركيين على نحو جاد، ومن ثم فإنهم التمسوا الخلاص من خلال احتذائهم حذو مواطنهم الشهير، وبما أثمر ذلك النمط الهجين من الأدب المعروف ب"الصحافة الجديدة".