تميزت الزيارة التي قام بها الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشيف لنيويورك خريف 1960، بحادثتين طريفتين: الأولى، يوم استخدم ضربات حذائه على الطاولة للتعبير عن استيائه من أداء منظمة الأممالمتحدة. والثانية، استعماله أحياناً شرفة السفارة السوفياتية كمنبر للترويج للشيوعية عبر مترجم كان ينقل خطبه النارية للمارة ورجال الأمن. حدث مرة أن لوّح أحد المستمعين بيده طالباً طرح سؤال محدد على خروتشيف. لما أشار إليه بأن يتفضل ويعرض السؤال، قال: أنا يوناني الأصل أدعى سبيرو... جئت الى هذه البلاد فقيراً معدماً لا أملك أكثر من أجرة السفر. وباشرت رحلة عمري في غسل الصحون داخل مطابخ المطاعم كي أوفر أقساط المدرسة. وبعد مرور سنوات عدة، وبفضل النظام الذي فتح أمامي فرص تحقيق الطموحات، أصبحت رئيساً لمجلس إدارة شركة"فوكس للقرن العشرين"التي يزيد عدد موظفيها على الألفين. هل هذا ممكن في نظامكم الاشتراكي؟ وانتفض خروتشيف غاضباً وهو يستمع الى المترجم، ثم رد على سبيرو بصوت يحمل نبرة التحدي، قائلاً: لو كنت في مكان آخر يسمح لي بخلع قميصي لأريتك آثار العصي المطبوعة على ظهري. أنا يا سيد سبيرو، بدأت مسيرة حياتي كراع للخنازير. وهذه أحقر مهنة يمكن أن يمتهنها أي مواطن في روسيا. واذكر أن صاحب المزرعة كان يضربني بعصا غليظة كلما تأخرت عن الوصول الى الحظيرة. ولما جاءت الثورة بالنظام الاشتراكي تحررت مثل الآخرين من كوابيس الاقطاعية وحققت طموحاتي. والآن، أنا رئيس لبلاد يزيد تعداد سكانها على مئة وثمانين مليون نسمة. هل هذا ممكن في النظام الرأسمالي؟ بعد 48 سنة حقق باراك أوباما الطموح الذي أعلن عنه خروتشيف في البلاد التي وصل اليها من كينيا مثلما وصل اليها سبيرو من اليونان. مع فارق أساسي هو أن نيكيتا خروتشيف حقق طموحاته عبر التدرج الحزبي وليس عبر الانتخابات الشعبية. واللافت في المقارنة بين الرئيس السوفياتي السابق والرئيس الأميركي الجديد، أن والد اوباما بدأ حياته يرعى قطيع الماعز الخاص بالعائلة في قرية كينية نائية قرب بحيرة فيكتوريا. وكان ذلك قبل التحاقه بمدرسة القرية حيث حاز على الشهادة الابتدائية. وفي سن ال23 نال منحة لإكمال دروسه في الولاياتالمتحدة، حيث التقى فتاة بيضاء خجولة في جامعة"هاواي"لم يلبث ان تزوجها سنة 1960. وفي كتابه عن سيرته الذاتية، وصف أوباما لونه الأسمر بأنه نتاج لقاح بين والد أسود كالزفت ووالدة بيضاء كالحليب. وقد استغل خصومه جذور والده الكيني وديانته الاسلامية حسين وانتماءه القبلي قبيلة ليو ليطعنوا بشرعية جنسيته الأميركية. ومع انه بقي يفاخر بالرعاية الاستثنائية التي أولته إياها جدته مادلين دانهم التي توفيت يوم الانتخاب... إلا انه كان ممتناً للتنشئة الصارمة التي وفرتها والدته، اي التنشئة التي بلورت شخصيته وضبطت اخلاقه وأطلقت طموحاته. وفي مؤلفه وعنوانه:"أحلام والدي"يروي أوباما كيف كانت تقرعه والدته عندما تلاحظ هبوطاً في علاماته المدرسية. وكانت تحذره من الركون الى الحظ، مشجعة إياه على مضاعفة الجهد لأن الاعتماد على الحظ لن يحقق الأحلام. وهو يتذكر نصائحها الغالية في ضرورة موازنة الجهد الشخصي بعوامل الثقة بالنفس والرضا عن الذات. وقد اكسبته هذه الصفات روح التحدي وعدم الانصياع للفشل. ومن هذه الروحية استخدم في حملته الانتخابية شعار"نعم... نستطيع". يجمع بعض المحللين على القول ان الثقة المطلقة بالنفس هي التي شجعت باراك اوباما على الاندفاع نحو الرئاسة على رغم الألغام التي وضعت في طريقه. أي الالغام التي زرعها منافسه ماكين بهدف تشويه سمعته وإظهاره بمظهر المرشح المخالف للصورة النمطية التي تقدمها وسائل الاعلام. ولما حطمت كبريات الصحف هذه القاعدة عبر تأييدها للمرشح الديموقراطي الأسود سرّب الحزب الجمهوري سلسلة اتهامات أبرزها اتهامه بمناصرة منظمة التحرير الفلسطينية بسبب صداقته لرشيد خالدي، ونشرت صحيفة"واشنطن بوست"نبذة عن السيرة الأكاديمية لرشيد خالدي، ختمتها بالقول ان وجوده كمدرس في جامعة شيكاغو أتاح له الفرصة لعقد صداقة وثيقة مع سيناتور ايلينوي والمحامي الذي تفتخر شيكاغو بأنه عمل وزوجته ميشيل فيها. فريق آخر من المحللين يربط عملية وصول أوباما إلى البيت الأبيض بعامل الوقت، على اعتبار أن الرجال التاريخيين جاؤوا في أوقات كانت شعوبهم مهيأة لاستقبالهم. ومعنى هذا أن"الحلم"الذي أعلن عنه قائد حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ، لم يكن مقبولاً في مرحلة التمزق العنصري وفصل البيض عن السود في المدارس والحافلات والمطاعم. وهذا ما فسره داعية الحقوق المدنية ومرشح الرئاسة السابق الافريقي - الأميركي جيسي جاكسون. وفي مقالته حول هذا الموضوع كتب يقول:"يجب أن نأخذ في الاعتبار القوى المحركة لسنة 2008 والتي تخدم حملة المرشح الديموقراطي باراك أوباما. ومن منظور تاريخ تلك الحركة قبل 54 سنة، يمثل هذا المرشح نموذجاً متطوراً لقيادة الحركة الحالية ونضالها التاريخي". واللافت أن كاميرات التلفزيونات ركزت خلال حفلة الانتصار التي اقيمت فوق ملعب شيكاغو، على وجه جيسي جاكسون وهو يذرف دموع الفرح. كما ركزت على وجه المذيعة الشهيرة أوبرا وينفري التي رشحتها الصحافة لمنصب سفيرة، وهي تمسح دموعها وتقول:"هذا يوم تاريخي، لم نر نحن مثله من قبل". وكانت تشير بكلمة"نحن"إلى الافريقيين - الأميركيين الذين نقلوا"كعبيد"من مختلف موانئ غانا ونيجيريا وليبريا وتنزانيا وجنوب افريقيا وسواها. وقد ازدهرت هذه التجارة بسبب الحاجة إلى الأيدي العاملة الرخيصة، خصوصاً بعد الحرب الأهلية الأميركية وإعلان الاتحاد 1861-1865. وكان من أول ضحاياها الرئيس ابراهام لينكولن الذي أعلن تحريم تجارة الرقيق. علماً بأن السود قدموا خلال تلك الحرب عدداً كبيراً من القتلى الذين وصل عددهم الى 620 ألف نسمة. أي 2 في المئة من عدد السكان في حينه. وهذا ما حاول مارتن لوثر كينغ أن يظهره للمجتمع الأميركي عندما قال إن الدم الأحمر سال من الأبيض والأسود كلون واحد، أثناء الحرب الأهلية. بل هذا ما استخدمه أوباما خلال الاحتفال بذكرى مارتن لوثر، مطالباً الشعب الأميركي بمختلف أطيافه أن ينبذ"الخطيئة الأصلية"ويتصالح مع ماضيه. وهو يعني ب"الخطيئة الأصلية"رفض المساواة بين الأبيض والأسود اجتماعياً وسياسياً، الأمر الذي يؤكد توارث النظرة العنصرية منذ انتعاش تجارة المزادات العلنية للرقيق في"نيواورلينز". لهذا وصفت الصحف المؤيدة لأوباما، انتصاره بأنه"تغيير"صحيح يصب في مصلحة تحقيق الحلم الذي بشرّ به مارتن لوثر كينغ. وقد اثبتت الانتخابات أن تحقيق المساواة أصبح فرصة متاحة لكل شرائح المجتمع الأميركي. مقابل هذه الخطوة التاريخية التي قامت بها الأكثرية البيضاء، يتوقع المراقبون أن تتصرف الجالية السوداء بمسؤولية وطنية أكثر احتراماً وأكثر انضباطاً، خدمة لمثلها الأعلى الذي أصبح رمز الدولة. كذلك يتوقع أوباما من الغالبية البيضاء ألا تزرع في طريقه الألغام السياسية والعنصرية والأمنية كي تثبت أن الولاياتالمتحدة لا تزال بلاد"الواسب"WASP - أي البيض الانكلوساكسون البروتستانت. وقد سبق للرئيس الأميركي جون كيندي ان سجل مثل هذا الهدف في مرمى الشريحة الاجتماعية التي حكمت الولاياتالمتحدة على مدى الأجيال الماضية. ومع ان تيد كيندي كان من أول المروجين لانتخاب اوباما، إلا ان تأييده في العمق لم يكن بسبب موقف الحزب الديموقراطي بقدر ما كان اعتراضاً على احتكار السلطة من قبل"الواسب". ولكن الفوز الساحق الذي حققه رجل اسود من خارج هذا النادي، يؤكد نهاية قاعدة الحكم السابق لضمان نفوذ الانكلو - ساكسوني الابيض. عقب انتخابه رئيساً، أعلن باراك أوباما ان التبعات الثقيلة التي يتوقع تحقيقها قد لا تنضج قبل سنتين. وفي رأيه، انها تحتاج الى ولاية ثانية كي تنفذ كبرنامج متكامل. وكان بهذا التلميح يشير الى احتمال التجديد لولاية ثانية في حال اتسعت الأزمة الاقتصادية الخانقة، أو فشلت خطة الانسحاب من العراق. أثناء زيارته لبغداد أطلعه الجنرال بترايوس على المتاعب التي تعانيها القوات الأميركية، ووضع أمامه الخرائط المتعلقة بخطط المستقبل. وفهم أوباما من الجنرال أن مدة 16 شهراً لن تكون كافية لإنشاء قوة محلية قادرة على فرض النظام والقانون. ومع هذا كله، فقد هنأه على معالجته للمشاكل القائمة، وأكد له أنه لو كان في موقعه لأقدم على انتقاء الخيار ذاته. وقال له أيضاً: في حال أصبحت رئيساً للجمهورية، فإن مهمتي ستكون سياسية بصفتي قائداً أعلى للقوات المسلحة. عندئذ سأضطر لمراجعة المشاكل القائمة من زاوية الأمن القومي، وتكاليف الحرب، والضغوط التي يعانيها جنودنا، وكان بهذا الجواب يحاول فصل عهده عن عهد جورج بوش الذي ساهمت أخطاؤه المتراكمة في فوزه وفوز الحزب الديموقراطي داخل الكونغرس ومجلس النواب. وعلى هذا أخبرني رئيس الغالبية الديموقراطية السابق السناتور جورج ميتشيل، بأن الحكمة تقضي بإشراك جمهوريين في الحكم لئلا تصبح اميركا في عهدة حزب واحد وموقف واحد. ومن المؤكد أن هذه المشاركة ستخفف عنه حدة الانتقادات، خصوصاً أن أداءه قد يفتقر إلى الاختبار والتجارب التنفيذية. * كاتب وصحافي لبناني