كان حلماً. كنا في غمار الإعجاب بما تحققه أميركا على صعيد العلوم والفنون وثقافة العصر. كنا أيضاً في غمار الغضب عليها بسبب إمبريالية توجهاتها وممارساتها وكراهية بعض حكامها لشعوبنا. كنا متأثرين بحركة الحقوق المدنية ومشاطرين طموحات الأميركيين السود. كان حلماً أن نعيش حتى نرى في البيت الأبيض رجلاً أسود يحكم الولاياتالمتحدة بالعدل ويخلصها، ونحن معها، من إمبرياليتها، ويحقق للأميركيين من أصل إفريقي أحلامهم في المساواة والحرية. تحقق جانب من الحلم حين دخل باراك أوباما البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة قبل خمس سنوات، ولم يتحقق الجانب الآخر من الحلم وهو أن يستكمل الرئيس الأسود مشوار الحقوق المدنية ويزيل ما تبقى وما استجدى من فروق وفجوات. وفي السنة الخامسة من حكم أول رئيس أسود بدأ شعبه يطالبه بكشف حساب يطرح فيه شهادته ويقدم أسباب عجزه عن تحقيق بقية الحلم. جاء يوم الحساب. واحتشد في واشنطن عشرات الألوف الذين جاءوا خصيصاً من أنحاء الولاياتالمتحدة ليحيوا ذكرى مسيرة 29 آب (أغسطس) في عام 1963 التي عرفت بمسيرة الوظائف والحقوق، وذكرى خطاب مارتن لوثر كينغ، الخطاب الذي يقول عنه باراك أوباما وبحق إنه أحد أعظم ثلاثة خطب في التاريخ الأميركي. وقد سبقت الاحتفال حملة قام بها البيت الأبيض والمسؤولون في الحزب الديموقراطي وبعض مراكز الأبحاث كان أحد أهدافها قياس اتجاهات الرأي العام حول ما أنجز فعلاً على صعيد الحقوق المدنية للسود خلال خمسين عاماً. كان الهدف الآخر تحسس رد فعل الناس لأفكار ينوي الرئيس أوباما طرحها في خطابه المزمع إلقاؤه يوم الاحتفال بالذكرى. كان يوماً مشهوداً، ولكن ليس إلى حد الانبهار الذي توقعه الكثيرون. كان مشهوداً بالنسبة الى عشرات الألوف من السود وهم يشاهدون رئيس جمهوريتهم رجلاً أسود ينزل درجات سلم صرح إبراهام لينكولن ممسكاً بيد زوجته وهي أيضاً سوداء: حلم أم حقيقة؟ هل دار بخلد مارتن لوثر كينغ أن يتجسد الحلم بهذه الصورة قبل أقل من خمسين عاماً؟ وسط تهليل الجماهير، ظهر أوباما أكبر سناً من صورته التلفزيونية. الشعر صار أكثر بياضاً، والوجه تسللت إليه التجاعيد، وبدا الجسم أقل عافية ورشاقة. جاء ليحتفل بذكرى الزعيم الذي يعود إليه الفضل في أن يصل باراك حسين، الطفل الأسود وكان وقتها يناهز السنتين من العمر، إلى منصب رئيس جمهورية الولاياتالمتحدة. جاء ليعترف له بالفضل، ولكن أيضاً ليبرر التقصير وبخاصة بعد أن اطلع على التقارير التي تقول إن الرأي العام يعتقد أن حلم مارتن لوثر كينغ لم يتحقق بدليل أن المجتمع الأميركي لا يزال يميز بين ألوان المواطنين. وصله أيضاً أن الجماهير التي ستحتشد يوم الاحتفال لن تكون بحماسة الجماهير التي انتظرته حتى الفجر في شيكاغو يوم إعلان نتائج انتخابات الرئاسة، هذه الجماهير التي اعتقدت وقتها أن فوز أوباما دليل قوي على أن طريق الحقوق المدنية وإزالة الفوارق قد انفتح ولن يغلق، وها هي تراه اليوم وقد عاد موصداً، أو كاد. وصله كذلك أن هناك من يقول إن الكراهية للسود ما زالت متجذرة في أجهزة الشرطة، وأن السود والشرطة معاً يتذكرون أن جهاز التحقيقات الفيديرالي الذي قرر أن يتعامل مع الشاب مارتن لوثر كينغ صاحب الأربعة والثلاثين عاماً باعتباره «خطراً على النظام»، بل واعتبره «أخطر رجل أسود على أميركا حاضراً ومستقبلاً»، هذا الجهاز الأمني وغيره من الأجهزة المحلية ما زالت تتعامل مع الشبان السود باعتبارهم خطراً يهدد النظام. هناك أيضاً عناصر متطرفة في الحزب الجمهوري وفي تيارات يمينية متشددة ما زالت تعتبر أوباما نفسه خطراً على النظام السياسي الذي أقامه ويتولى حمايته وينوي استرداده الرجل الأبيض. لم يخطئ باراك أوباما عندما كتب في سيرته يصف نفسه بالرجل ذي الدم المختلط والروح المقسمة والإنسان المهجن المحصور داخل عالمين. هكذا رأى نفسه قبل خمسة أعوام، وهكذا يرى نفسه الآن. فقد وقف الرجل على سلم صرح لينكولن ليخطب عن العدل مثلما فعل مارتن لوثر كينغ قبل خمسين عاماً. ينسى باراك اوباما أن مارتن لوثر كينغ أنهى خطابه في واشنطن وعاد إلى ولايات الجنوب ليستكمل نضاله بين شعبه الأسود وليعيش أسود مثلهم. أوباما سينهي خطابه ويعود أيضاً ولكن إلى البيت الأبيض، ليعيش كما يعيش الرجل الأبيض وبين مستشارين ومعاونين جلهم من البيض. كان المتوقع أن أوباما في خطابه لمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسين لمسيرة الحقوق والفقراء سوف يركز على التفرقة العنصرية ومشكلات الحقوق المدنية بعد سنوات من التهرب والامتناع عن مناقشتها. كتب أوباما، وهو شاب، عن اللون ومشكلاته ولكنه لم يتحدث عنه منذ أصبح رئيساً. ذات مرة وقبل شهرين وتحت ضغط شديد من بعض أصدقائه اضطر أن يخوض في تجربته كشاب أسود فتحدث عن توقيفه في الشوارع وعن مراقبته في السوبر ماركت وعن أبواب السيارات التي تغلق عند مروره بجانبها. جاء الحديث عقب انفجار غضب الأميركيين السود بسبب تبرئة شخص أبيض قتل شاباً أسود لا لشيء إلا لأنه أسود. لا أشك للحظة واحدة أن أوباما كرئيس للولايات المتحدة، وربما لدرء شبهة الانحياز للسود، قرر أن يبتعد خلال فترة رئاسته الأولى عن مناقشة مشكلات السود. إلا أن هذا الابتعاد صار يخضع لتفسيرات أخرى منها أن أوباما، طفلاً وشاباً ورئيساً، عاش في تناقضات غير عادية لا توجد عادة في شخص أسود عادي. فقد ولد باراك اوباما لأم بيضاء وأب من كينيا، ونشأ في بيئة «لا لون لها ولا رائحة». نشأ في هاواي أي بعيداً جداً عن «أميركا الحقيقية»، أميركا التفرقة العنصرية وأميركا الاختلاط وأميركا التطرف والتشدد. كان لافتاً للنظر أن لا أحد من قادة الحزب الجمهوري حضر الاحتفال بذكرى المسيرة. قيل في تفسير هذا الغياب إن الجمهوريين تفادوا أن يحضروا فيصبحوا طرفاً في مشكلة تفاقمت وقد تصبح أزمة، وهم في الأساس متهمون بأنهم قصروا في تحقيق حلم الأميركيين من أصل أفريقي. قيل أيضاً إن وجودهم لن يكون مرحباً به خصوصاً أن حملتهم ضد حركة الحقوق المدنية استعادت قوتها وأن قوى يمينية عديدة خرجت إلى العلن في مواجهة صريحة مع كل ما تحقق للأميركيين السود من إنجازات ولوقف حصولهم على المزيد. بمعنى من المعاني كان الاحتفال بالذكرى الخمسين لثورة السود امتحاناً صعباً للطبقة الحاكمة في أميركا. فالمؤشرات باستثناء القليل جداً تكشف عن أن قضية الحقوق المدنية تقترب من وضع الأزمة. لذلك تنبأ معلقون بأن أوباما سيجد صعوبة في الدفاع عن إدارته والإدارات السابقة. جاء في التقارير أن التفرقة العنصرية والتمييز في التعليم والإسكان لا يزالان عند المستوى نفسه الذي كانا عنده في عام 1963، العام الذي خرجت فيه مسيرة الحقوق، وجاء أن عدد المساجين السود بالغ الارتفاع، بل إنه المعدل الأعلى في العالم. حتى أن الرئيس كارتر، في خطابه الذي سبق به خطاب أوباما في الاحتفال، قال إنه يوجد في سجون أميركا 835 ألف أسود، أي خمسة أضعاف عددهم في نهاية عهده قبل أربعين سنة. وقيل في البحوث والتقارير المقدمة لأوباما قبل الاحتفال إن ثلث زنوج أميركا مقدر لهم أن يدخلوا السجن مرة على الأقل خلال حياتهم. الأهم في كل الأرقام التي نشرت هو ما يتعلق برأي المواطن الأسود نفسه، فقد اتضح أن 21 في المئة فقط من المواطنين السود يعتقدون أن حلم مارتن لوثر كينغ، أن يوماً سيأتي حين تحكم أميركا على الشخص بمعايير مختلفة ليس بينها معيار اللون، هذا الحلم تحقق. بينما كانت النسبة 71 في المئة في عام 2001، و79 في المئة في عام 2009، العام التالي لوصول أوباما إلى الحكم. الآن هي 21 في المئة فقط. من ناحية أخرى، فقد أذيعت أرقام كشفت عن كارثة أخرى، وهي أن الفجوة في متوسط الدخول بين البيض والسود بلغت في اتساعها حداً لم يسبق أن بلغته من قبل. لم تكن ردود أوباما التي جاءت في خطابه مقنعة. قال، مردداً القول الشائع لدى معظم حكام العالم، إنه رئيس لكل الشعب وليس لفئة أو أخرى. أراد أن يكون رئيساً لكل الأميركيين، وهو لا يرى حلاً لمشكلة السود إلا برفع مستوى معيشة كل الأميركيين. انتهز الفرصة ليؤكد إيمانه بالقول الذائع في الفكر الاقتصادي الغربي إن المد حين يرتفع يرفع معه كل القوارب. ولكنه لا يعترف بحقيقة تغيب عن وعي مسؤولين كثيرين، وهي أن المد حتى إذا ارتفع فلن يكفي وحده لسد الفجوة في الدخول ولن يرفع بشكل متوازن مستوى معيشة كل أفراد الشعب. قال أيضاً إن مشكلة البطالة انفرجت خلال الشهور الأخيرة. لم يقل الحقيقة، وهي أن البطالة في المجتمع الأسود تضاعفت خلال الشهور الأخيرة. وقال إنه تحقق الكثير من حلم مارتن لوثر كينغ، فالمواطنون جميعاً سواء أمام القانون وألوف السود يحتلون مناصب في الدولة وينتخبهم مواطنون سود وبيض ورئيس البلاد أسود وحكام ماساشوسيتس، وهي قلعة الرجل الأبيض، ومدينتا فيلادلفيا وواشنطن من السود. قال أيضاً إن حركة الحقوق المدنية امتدت لتضم اللاتين والآسيويين والمثليين. قال إن السود الآن يشرّعون القوانين. لم يقل الحقيقة، وهي أن قوانين عديدة تصدر الآن في ولايات أميركية هدفها الحد من نسبة تصويت السود في المجالس التشريعية في الولايات، وهدفها أيضاً العمل على وضع العقبات أمام احتمال وصول رئيس آخر من السود إلى البيت الأبيض. لا يفوتني في نهاية هذا المقال أن أعرب عن أن الاستماع إلى خطب باراك أوباما متعة. روعة في اختيار الكلمات واتساق في الأفكار وموهبة في نطق الحروف. كان باراك أوباما بلا شك، في هذا الخطاب تحديداً، يحاول التفوق على الأستاذ والخطيب المفوه مارتن لوثر كينغ. مشكلة الخطاب، في رأيي، هي أنه ترك الأميركيين السود معلقين في تناقض ضار. لا ينكر السود أن وجود أوباما في الرئاسة حلم تحقق، ولكنهم، وبالتقريب أربعة أخماسهم، يعتقدون أن بقية الحلم سرقت منهم. قال أحدهم: لقد قتلوا مارتن لوثر كينغ صاحب الحلم بعد أربع سنوات من إلقائه خطاب المسيرة، ومنذ ذلك الحين وهم يحاولون قتل الحلم نفسه، غير واعين لحقيقة أن الأحلام لا تقتل. * كاتب مصري