رغم الحبور بنهاية عهد بوش القريبة، فقد محور الممانعة بعضاً من حججه ووقوده حيث ينتظره فصل جديد من التعاطي مع الأسرة الدوليّة، وتحديداً مع القوة الأعظم، مفتوح على كافة الاحتمالات. وليس، في المدى المرئي، من كابح للغضب المعلن إزاء ملف إيران النووي، ولا من مقلص لجدول الخلافات العميقة مع قطبي الممانعة وحلفاء المحور الايراني / السوري. بل أن التشدّد في الشأن النووي العسكري باتَ يشمل دمشق، فيما تغوص حماس في العزلة وظلام قطاع غزَّة الدامس، ويجتهد حزب الله لإملاء صيغة"دفاعية"على الدولة اللبنانية ملؤها الالتباس في الوظيفة ونوعية السلاح. خاضتْ أطراف الممانعة معركة وهمية أوحت بهزيمة الولاياتالمتحدة على يد المجاهدين، تقارن تداول السلطة بسقوط النظام، وتترقَّب انسحاب الشيطان الأكبر من مسرح الشرق الأوسط، نزولاً عند هندساتها، وتهميش دول الاعتدال دفعة واحدة. وكما بنى الرئيس الايراني أحمدي نجّاد خططه الرؤيوية متوقعاً تجاوز سعر برميل النفط عتبة المائتي دولار أميركي في القريب العاجل وهدَّد بإغلاق مضيق هرمز كتدبير في متناول الحرس الثوري عند الاقتضاء، استولد الركود الاقتصادي العالمي الذي تمنَّاه انخفاضاً حادّاً في أسفار المحروقات، يضغط ويكاد يخنق الدورة الاقتصادية في بلده بالذات، وهو يعاني من ندرة السلع وانقباض السوق الداخلي، يلامس معدل التضخم فيه الأربعين في الماية سنوياً. وحيث تحظى الدول الخليجية العربية المنتجة للنفط بمدّخرات وفيرة واستثمارات خارجية متنوعة نالت نصيبها من الأزمة الضاربة في الأسواق المالية لكنها لم تجف، اضافة الى صناديق سيادية تخوِّلها الصمود والإبقاء على مستوى معتبر من الرّفاه، سوف يفضي برنامج أوباما الهادف الى إيجاد مصادر بديلة للطاقة في غضون سنوات عشر، الى التضييق على الصادرات الايرانية، ودخولها في منافسة مباشرة مع المنتجين الكبار على أسواق البلدان الناشئة نتيجة تدنِّي الطلب والتفاوت في النوعية وكلفة الاستخراج. تنفرد الجمهورية الاسلامية بموقع القاطرة ومصدر الإمداد في دائرة محور الممانعة. وعليه. يرتدّ عثارها على شركائها والملحقين في ركابها، ويتأثر كامل المنظومة من كل تقارب بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وكل تعميق للتعاون بين الولاياتالمتحدة والعملاقين الصيني والهندي، ناهيك عن انهماك باكستان ما بعد مشرّف بالحرب على الارهاب، وتقاطعها مع الغرب بعامل الضرورة ودرء المخاطر. لذا يصطدم سعي سورية الى فك الطوق المضروب حولها أوروبياً بمسألة بناء الثقة مجدداً، ويثير برنامجها النووي غير المعلن ريبة الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، بينما يقترب التحقيق الدولي في سلسلة الاغتيالات والأعمال الأرهابية التي نزلت بلبنان، من خواتيمه، ويلقي بظلاله على السلوكيات والعلاقات المتبادلة مع دمشق، وإزاء اصرار الرئيس الأميركي المنتخب على الشفافية والمرجعية الأخلاقية في حقل الحرِّيات، كما لم يتأبّطه رئيس أميركي معيارياً من ذي قبل. دقت ساعة الاستحقاق، وربما الامتحان الصعب، بالنسبة لسورية، في أكثر من محطة ومجال، وهي بالتأكيد تراكم الأخطاء دون احتساب التبعات، وتمعَّن في إذكاء حفيظة الإدارة الأميركية المقبلة جرّاء عودة القيادة السورية الى التنديد بالمعاهدة الأمنية بين بغدادوواشنطن، وأبلسة السياسة الأميركية في مجملها، الى الوقوف وراء إفشال الوساطة والرعاية المصرية للحوار الفلسطيني، واستخدام الوسائل الاعلامية الرسمية للتشهير والمضي في حملات الاعتقال السياسي. استقبلت سورية الرئيس الأميركي المنتخب بالكثير من الشماتة حيال المصاعب الأميركية، وبشيء من التعالي الواعظ والمعطي للدروس. ولئن كرّرت القيادة السورية بلسان الرئيس الأسد، وجوب رعاية أميركا للمفاوضات مع إسرائيل، وربطت الانتقال بها من المحادثات غير المباشرة الى طور التفاوض المباشر بالحضور الأميركي وميقات انتقال السلطة في واشنطن، فلقد أبدت مؤخراً ملاحظات علنية زرعت الشك في جدوى المحادثات، ونزعت عليها صفة تاكتية خلاصتها امتحان نوايا إسرائيل والتشاؤم إزاء عملية التفاوض ومسارها. قعدت سورية في منطقة البين بين، تحاول الافادة من الوقت الضائع، وتلميع صورتها المعطوبة أمام الأسرة الدولية بقصد جنيْ الأرباح والمحاصيل قبل أوانها، دونما التزاام نهائي جازم، وبالأخص دون إحراج العلاقات الحميمة مع إيران ووضعها في كفة الميزان. فعبر لولبية انتهازية المنشأ، تحاول سورية التفلّت من الإجابات الصريحة وتستأخر الحلول، مع أنه من المفترض ان يقع عنصر العجلة على عاتقها لاستمرار احتلال اسرائيل هضبة الجولان، تحت طائلة التفريط بالسيادة والتباطؤ في تنفيذ الواجب الوطني الأسمى العالق باسترجاع الأرض، عوض الانصراف الى أوراق النفوذ الاقليمي وإرهاق الشعب السوري بسياسات المشاغبة والخطاب القوموي، منتج الملفات والخلافات. يُخطىء محور الممانعة في إغفال مبلغ الجاري أميركياً كعملية تصحيح تُعْزى الى إرادة مجتمعية في المقام الأول، وتصبو الى استعادة حرية الحركة والمبادرة على الصعيد الكوني وفق مقاربة رغماتية خالية من قيد الأخيار والأشرار، محرِّكها نموذج وطني فريد. أثبت صلاحه، ينفر من الإيغال الأيديولوجي ومعادلات القوة العادية. عند استعراض مجموعة الرؤساء الذين تواكبوا على السلطة في واشنطن، يحضر عنصر ثلاثي من كوكبة الطليعيين، طبع بيئة أوباما ورسم تكاوين شخصيته السياسية: أبراهام لينكولن الجمهوري القادم من ولاية إيلينويز معقل أوباما، ملهمه الأول، وروزفلت صاحب العقد الجديد أبان أزمة الثلاثينات، وكينيدي مطلق العهد الجديد، وكلهم أبلى في السلم كما في الحرب، وكتب صفحات من تاريخ الولاياتالمتحدة تنضح بالمحمول التحديثي والرسالة الاجتماعية. تفيدنا قراءة الأحداث عمَّا تعرضوا له من امتحان واستهداف، لأن العداء للاصلاح يجد مكمنه دوماًُ لدى المتضررين من كينونته ومفاعيله في الداخل، كما في الخارج، على هذا النحو، يتحين محور الممانعة فرصة المصادمة مع الوافد الجديد الى البيت الأبيض، لما يمثل ويعمل له، لاعتبارات وجودية نابعة من المفاهيم الكلية الشمولية ومن صيغة مقنعة لصراع الحضارات. أفقد نجاح أوباما الممانعة حيِّزاً من مآخذها وكمّاً من قذائف منجنيقها، لكن منطق الرجم لن يغيب عن واجهة منظومتها، وستعمل على استحضار ما تيسر من مقولات ماضوية للإبقاء على نزاع مربوط سلفاً، واصطياد شمّاعة جديدة، بغية شحن مناصريها وبيان جهوزيتها واستعداداتها. أنه قضاء المأزوم، يرتاب من تصويب أساليب أعدائه وتصحيح أدائهم، ويأخذها على محمل الخوف لا البشائر. فبالرغم مما يُنبىء به ويختزنه مجىء أوباما الى البيت الأبيض، من المستبعد توقع المفاجات السارة في مقلب الممانعة ومسارها، ويُخشى من إثبات أربابها، بالقول والفعل، ان لا جديد في الشرق. فالمسألة ليست في مبدأ الحوار بل في غايته، وحسن النوايا لن يطيح بمعارضة المتشدِّدين الجذرية للوجود الأميركي في المنطقة ورفضهم تسويات تحدّ من اندفاعتهم الجهادية. في المقابل دعونا نتذكر ان روزفلت قبيل إعادة انتخابه وعد الأميركيين بتفادي الحرب الدائرة، فكان هجوم اليابان المفاجىء على بيرل هاربور نهاية عام 1941 مثابة الصفعة والصاعق، وباقي القصة معروف بائن في سجل التاريخ. * كاتب لبناني