في مناسبة حلول الذكرى المئوية لولادة الشاعر الأميركي المعاصر ثيودور رتكي 1908-1963، نضيء على التجربة الشعرية لهذا الشاعر الكبير، وعلى أهمية موقعه في خريطة الشعر الأميركي المعاصر. هو من جيل شعراء الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. أشعاره تطمح إلى الموضوع الكوني والمأزق الوجودي وسؤال الذات. لفت إليه بتقنياته الشعرية العالية، ولغته الخلاّقة، واستعاراته الباهرة وخصوصاً في ربطه بين عالم النبات وعالم الإنسان الداخلي. عُرف بأصالته وقدرته على إيقاظ الكوني في التجربة الشخصية. كثيراً ما جرت مقارنته بويتمان، إذ جمعتهما رحلة الذات نفسها من الظلمة إلى النور. واعتبره الناقد ديلمور شوارتز، شاعراً بأصالة ييتس وفاليري، ولديه وعي حقيقي ب"الهاوية""بأعماق اللاوعي الإنساني. مقومات أساسية في شعره، كطريقة إدخاله السيرة الذاتية في النص، ودعابة أسلوبه، والرموز التي تحيل إلى النموذج البدئي، نجد أثرها لدى بعض من لحقه من شعراء أميركا، أمثال روبرت بلاي، جيمس رايت، سيلفيا بلاث، جيمس ديكي، آن سكستون، تيد هيوز وغيرهم. حظيَ رتكي باهتمام كبار شعراء زمنه وثنائهم، في حين أُهمل من النقّاد الكبار آنذاك. وقبل عام 1970 لم يُضَمّ اسمه إلى أي من أنطولوجيات الشعر الأميركي المعاصر. ولعلّ هذا ما يدعم مقولة أنه كان شاعر الشعراء ولم يصبح شاعر النقّاد إلا بعد مدة من مماته. ما قدّره الشعراء في شعره عموماً، غنائيته الاستثنائية المستمدّة من غنائية وردزورث وييتس وويتمان، وإسقاطه الذات اللاواعية على حياة النباتات والحيوانات، وإبرازه لِ"أنا"غير مقنّعة، تتحدّث عن ثيمات العالم الداخلي التي لا تُدرَك إلا بالحدس. حاز جوائز عدة عن معظم أعماله الشعرية، منها جائزة غاغنهايم وبوليتزر والجائزة الوطنية للكتاب. صدور أعماله الشعرية الكاملة عام 1966، جدّد الاهتمام به، وأتاح للقرّاء والنقّاد على السواء جسماً شعرياً متكاملاً يستطيعون معاينته وتحديد مواطن القوة والضعف فيه. اعتمد رتكي بقوة، في إطار انشغاله بلغته الشعرية، وصقلها وتهذيبها، على مقولة لِِ ت. س. إليوت مفادها أن"الطريقة الوحيدة لمعالجة أيّ نوع من شعر اللغة الإنكليزية، هي عبر الاستيعاب والمحاكاة". وكان رتكي نفسه كتب مرة:"المحاكاة، المحاكاة الواعية، هي أحد المناهج الأمثل، وربما هي المنهج، لتعلّم الكتابة... النجاح النهائي هو في ما تفعله اللغة، وليس في ما يستطيع الشاعر فعله أو إظهاره". وكانت للشاعر قناعة بأن على الشاعر الحداثي التخلّي عن المفهوم الرومانسي للتعبير الشخصي. عليه في الواقع، السير عبر تاريخ الشعر ومراجعته وإعادة كتابة قصائد الماضي، بأمل أن يصبح شاعراً، ويكون في وسعه التقدّم خطوة إلى الأمام، وإضافة الجديد. مهمة رتكي إذاً لم تكن سهلة، إذ انّ تجربته الشعرية لم تكن مدينة فقط إلى بعض شعراء أميركا المعاصرين، وإنما امتدت إلى أسماء كثيرة في تاريخ شعر اللغة الإنكليزية، كوليام وردزورث، وليام بلايك، كريستفور سمارت، والت ويتمان، وليام بتلر ييتس وغيرهم. والواضح، أن بداياته رافقتها مشاعر متناقضة. فهو جاء بعد جيل من الشعراء تجوز تسميته بجيل النهضة في الشعر الأميركي، ضمّ إليوت، باوند، أودن، وليامز، بوغان، ستيفينز، كراين، موور، كامينغز، فروست، رانسوم، تايت، وغيرهم. هؤلاء الذين شكّلوا مشهداً بانورامياً لمواهب فذّة اجتمعت كلها للمرة الأولى في تاريخ الشعر الأميركي في جيلٍ واحد. وعلى رغم ما قد منحه هذا الجيل لرتكي من إحساس بالفخر والغبطة، لكونه وفّر له الأساس الذي يستطيع البناء عليه والاستمرار في مسيرة التجديد أُعيد اكتشاف ديكنسون وويتمان وماليفل، ربما لهذا الغرض تحديداً، فلا بدّ من أنه كان أيضاً مصدر ضغط نفسي وإحباط، لضخامة حجم المؤثرات التي كان على الشاعر تحرير شعره منها. ومع أن قصائده مملوءة بأصداء الشعراء الأسلاف، إلا أنها تمنحنا الانطباع بأننا أمام نوع شعري جديد كلياً. ولد رتكي في مدينة ساغينو من ولاية ميشيغن. ترعرع بين أحضان الطبيعة حيث كان والده وعمه يملكان بيوتاً زجاجية لزراعة النباتات. في مراهقته تعرّض لسلسلة صدمات غيّرت وجه حياته، بدءاً ببيع العائلة للبيوت الزجاجية، ثم بانتحار عمه ثم بموت والده المفاجئ. علاقته بوالده"أوتو رتكي"المتحدّر من أصل ألماني شابها التناقض. فالأخير كان يُظهر وجهاً سلطوياً قاسياً في تربيته لابنه، في حين كان بالغ الرقّة والحساسية تجاه جمال الطبيعة. موت الأب المبكر لم يمنح الابن مجالاً كافياً لفهم طبيعة أبيه في شكل أعمق، وللتصالح معه ومع نفسه، كذلك كان سبباً في عدم اكتفائه العاطفي واستقراره النفسي، فكان أن أصيب لاحقاً بنوع من المسّ العقلي الناتج من الاكتئاب. أمضى رتكي مراهقته محاطاً بثلة من الشباب المُشاغب والهامشي، ولكن مع ازدياد وعيه بذاته وإمكاناته، أخذ يتّجه نحو خيارات مغايرة تماماً في حياته، فدرس الحقوق لأشهر قليلة ثم عاد فاختار دراسة الأدب. خلال دراسته الجامعية بدأ بكتابة الشعر، وبعد تخرجه اختار مهنة التعليم. ديوانه الشعري الأول لم يصدر إلا بعد اختبار طويل وشاق لمقدّراته الشعرية، دام لأكثر من خمسة عشر عاماً. يصرّح رتكي"أنا في عمل متواصل"، جيوبه كانت تظلّ ملأى بقصاصات، وكان كتب مرة"الحركة تعادل الإحساس"، ما يعني أن كتابة الانفعال تستلزم ذهناً لا يتوقّف عن الدوران. وبسبب من ضغط العمل والتفكير هذا، تعرّض لأكثر من انهيار عصبي ونوبات جنون بدءاً من العام 1935، ما استدعى جلسات علاج دائمة، ودخوله لمدة مصحّة في مدينة آن آربر. فُصل بسبب مرضه، من جامعة ميشيغن عام 1958، ولكنه عاد في العام نفسه ليعلّم في جامعة واشنطن. وهو أكان مريضاً أم معافى استطاع أن يكسب مودة الجميع واحترامهم. التقنية الصارمة في البحث عن الهويّة "الذات"، كانت انهماك رتكي الأول الطاغي على أشعاره، وهذا تحديداً ما أخذه بعض النقاد عليه، مشيرين إلى اهتمامه الضئيل بمشاغل أو هموم عصره وأبناء جيله. ونحن هنا نتكلم عن زمن الحرب العالمية الثانية والحرب الفيتنامية وما ترتب عليهما من انعكاسات على كل الصعد الحياتية. هذا الاهتمام المحدود الذي اعتبره البعض مصدر ضعف رئيساً في شعره، اعتبره نقاد آخرون مصدر قوة. فهو في رأيهم شعر بالكاد يقوم على ركيزة اجتماعية أو سياسية، ومع ذلك يلامس الذات الجمعية بموضاعاته الشخصية الصرفة، كالعلاقة الإشكالية بالأب التي تختلط فيها مشاعر الحبّ بالخوف، المتعة التي تمنحها الطبيعة بنباتاتها وحيواناتها وغيرها من المواضيع. ونرى أنّ الانشغال بالذات لدى رتكي هو المحفّز على المعرفة والرغبة في الاكتشاف، لا بل هو ضرورة تمنح القصائد شرطها الوجداني من المنبع الأصل. من ناحية ثانية، بقدر ما كان الشاعر ذاتياً في الكتابة بقدر ما كان لا ذاتياً خارجها. فهو وهب حياته لمهنة التعليم، على حساب إنتاجه الإبداعي الخاص، وجعل من حماسته للشعر، رسالة إنسانية نبيلة وضرورية، مانحاً رصيده المعرفي إلى تلامذته بتفانٍ وحب هائلين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن شعراء من أمثال جيمس رايت وريتشارد هوغو ودافيد واغنر كانوا من تلامذته. ديوانه الأول"البيت المفتوح"1941 جاء محكماً من حيث احتوائه على عناصر الشعرية التقليدية. فالشاعر أتقن فن الكتابة عبر فن الاستيعاب والمحاكاة في وقت صنع فيه خصوصية أسلوبه. غير أن التقنيات الصارمة جعلته في المقابل مقيّداً ومحكوماً، إذ بدى أن من غير المسموح للشعرية التحرر من ربق التقنية. وبصرف النظر عن تلك القيود، نجد أن معظم المراجعات في ذلك الوقت، اعتبرت صاحب هذا الديوان شاعراً أصيلاً، ناضجاً وليس مبتدئاً، وكان الشاعر أودن رأى أن"البيت المفتوح"حقق نجاحاً كاملاً. يقول رتكي:"إنك كي تتقدّم إلى الأمام روحياً وإنسانياً لا بدّ لك أولاً من العودة إلى الوراء". وهذا ما نشهده في قصائد مجموعته الثانية"الإبن الضائع"1948، والتي يسبر فيها عتمات طفولته. المفارقة أن شعرية النصوص سبقت موضوعها البحث عن الذات والهوية إلى الهدف، فاستطاع الشاعر تحقيق هويته الشعرية. فها هو ستانلي كونيتز يرى في بنية قصائد هذا الديوان سيطرة الشاعر الكلية على فنه ورؤاه، كذلك الناقد ريتشارد بلسينغ الذي لفت إلى"تحوّل رتكي في هذه المجموعة من شاعر الغنائية والبراعة التقنية والحساسية المنضبطة، إلى شاعر الإبداعية الجارفة، والجرأة المغامرة... إلى شاعر صعبٍ، لديه اندفاع بطولي، ومؤثّر، ومثير للقلق بعمق، وهو واحد من الشعراء الأكثر تميّزاً في تاريخ أميركا الأدبي". لم تختلف مجموعته الثالثة"مجّدْ حتى النهاية"1951 عن سابقتها من حيث الملامح العامة للعمل، وتسلسل الحوارات الداخلية للقصائد، غير أن ثمة رؤية جديدة إلى الماضي، لا مأسوية، تتلخّص في أن يكون البحث عن معنى الحياة من خلال تقبّلها لا رفضها. عمله الشعري الخامس"كلمات للريح"1957، اتّخذ بعداً فلسفياً إضافة إلى شيء من الحسيّة والإيروتيكية، والأهم أن قصائده نمّت عن الافتتان بشيء آخر يتعدّى الذات. ولكن الشاعر ستانلي كونيتز رأى أن فيه عودة إلى الأشكال الشعرية الصارمة لعمله الأول. في كثير من قصائد رتكي اللاحقة، نلمس نزعة صوفية تأملية. فهي تعكس مراحل التبصّر الروحي والوعي التدريجي الباطني بالأشياء، بدءاً من مرحلة الإدراك المؤلم للعجز الإنساني، مروراً بالرغبة في التطهّر الروحي وتأنيب الذات، ووصولاً إلى نوع من الصحوة الروحية، إلى تلك النشوة في غمرة تفتّح الوعي المتجاوز لنفسه"الوعي الماوراء الوعي. غير أن رحلة رتكي لا تؤدي إلى التوحّد الكلّي بالوجود المطلق، فهو لم يكن رجلاً متديّناً والأغلب أن كل ما خبره روحياً تأتّى من بعض الرؤى في جلساته التأملية. المسألة كانت بالنسبة إليه، كما عبّر في مجموعته السادسة"سلسلة متعاقبة، أحياناً ميتافيزيقية"1963، هي محاولة"اصطياد، رحلة صوب الخالق، سعي لاختراق حاجز التجربة العقلانية". خياره إذاً سلوك طريق لا دينية إلى الدين، والاعتماد على قدراته الروحية ومخيلته بعيداً من كل أجوبة ناجزة. بعد سنة على وفاته بنوبة قلبية مفاجئة، صدر ديوانه"الحقل البعيد"1964. وقد أحال البعض سمة فقدان التماسك لهذا الديوان إلى أن الشقاء واليأس متجذّران في أصل بحث الشاعر عن مصادر الأمان والثقة. وربما يكون الشاعر أقرّ أخيراً بعجزه، وقرر الاحتفاء بالطاقة على استمرار العيش في اللغز، من دون الحاجة إلى البحث عن حقائق. وعموماً، فإن النظرة المتأملة إلى كل ما يحمله شعر رتكي من مفارقات وتناقضات، تدفعنا إلى القول بأنه شاعر وجد ثيمته العقلانية في هذا التأرجح اللاعقلاني بين الضوء والعتمة، وفي حرية الذهاب إلى حيث تقوده مشاعره من دون أيّ توجه فلسفي واضح صريح يضعه خارج دائرة المجهول. ثم علينا ألا ننسى أن جنونه هو أجمل ما فيه.