العلاقات اللبنانية - الفلسطينية تستمر مثار جدال على رغم حسم الشرعيتين منذ 2005 لما تريدانه لهذه العلاقات. على وجه التأكيد تُسهم التناقضات اللبنانية - اللبنانية، والفلسطينية - الفلسطينية، في الإبقاء على توتُر ما في هذه العلاقات، لا سيما أن فريقاً لبنانياً، وفريقاً فلسطينياً، يعتبران أن فريقاً لبنانياً آخر وفريقاً فلسطينياً آخر، يساومان على مفاصل"القضية"كافة. فيما الفريق الآخر يتهم"غير المساومين بحسبهما"، أنهما يستعملان"القضية"كورقة لتحسين شروط حلفائهما التفاوضية في ملفات لا تمت بصلة الى"القضية". بيت القصيد يكمن في تفكيك للخطاب السياسي لكلا الطرفين، بمنأى عن الانحياز إنما في تسمية الأشياء بأسمائها، من دون قُفازات. وكي لا نقع في محظور العموميات، نجدنا بإزاء إمكان الاستناد الى إعلانين يُكبان بهدوء وجرأة،على وضع النقاط على الحروف في ما خصّ العلاقات اللبنانية - الفلسطينية. عنينا"إعلان بيروت"الآتي من رحم"انتفاضة الاستقلال". وپ"إعلان فلسطين في لبنان"الذي أُطلق في الذكرى ال43 لانطلاقة الثورة الفلسطينية باسم منظمة التحرير، ومن بيروت العام الماضي. في كل الأحوال، لا بد من الدفع باتجاه تثمير المناخ التصالحي على المستويين اللبنانيوالفلسطيني، إذ أن المصالحات تحمي المصالح العليا للطرفين فترأب صدع التباينات بالحد الأدنى، كما تُخفف من إمكان الاختراقات والاستزلامات، ولو أيضاً بالحد الأدنى. نجح اللبنانيون بنجدة عربية، ورعاية قطرية مباشرة في التلاقي ضمن إطار"حكومة الإرادة الوطنية الجامعة". وها هم الفلسطينيون يُطلقون برعاية مصرية مسيرة التسالم، على رغم أن تصفية"اتفاق مكة"بات يحتمل الكثير من الهواجس. ما يعنينا في هذا السياق استراتيجية العلاقات اللبنانية - الفلسطينية على قاعدة تلاقي الشرعيتين. وقد أتت زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة"حماس"خالد مشعل الى بيروت ولقائه المرجعيات الرسمية لتُعيد طرح إشكالية هذه العلاقات انطلاقاً من الانقسامين اللبنانيوالفلسطيني على رغم خُطى المصالحات غير المكتملة والوافدة ربما مستقبلاً. فقد حمل مشعل مواقف تستأهل تفكراً ومساءلة. فالدعوة الى"قيام حوار لبناني - فلسطيني"يحتمل إما إغفالاً عن كل الحوار الذي بدأ منذ عام 2005، أو تشكيكاً بمبادئه، أو عدم اعتراف بقيامه أصلاً. وفي كل هذه يحتاج اللبنانيون، كل اللبنانيين، الى استعادة ما اتفقوا عليه على طاولة الحوار الوطني والتمييز بين الشأن السيادي أي قضية"السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وداخلها"، والشأن الإنساني بما يعني تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للاجئين الفلسطينيين بالتعاون مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أونورا من ناحية، كما الاتجاه الى صوابية عدم القبول بتجزئة الشرعية من ناحية أخرى. ففي الشأن السيادي محسوم أن المقايضة بالمفاوضة منطق ولّى. وفي الشأن الإنساني، الأجدى استبعاد الاستثمارات الانتخابية الضيقة التي يخوضها في الطرفين أفرقاء معروفون، ويزجون من خلالها بهذا الشأن في خانة التهويل بمؤامرة مستمرة لتجويف"حق العودة"لم ولن تنجح، والمطلوب فيها رؤية وآليات عمل ديبلوماسية متماسكة، أكثر منه استنفاراً عنصرياً وزوربة شعاراتية. وقد كانت حاسمة مقاربة الرئيس الفلسطيني محمود عباس في هذا الإطار عبر إعلانه صراحة أنه يحتكم للقانون وقرار اللبنانيين، مؤكداً على حق اللاجئين الفلسطينيين، وهم الضيوف الموقتون والقسريون حتى عودتهم، بعيش يحترم كرامتهم. تصويب العلاقات اللبنانية - الفلسطينية استُهل في"إعلان بيروت"إذ ورد في فقرته السادسة:"نريد أن نقول لأشقائنا الفلسطينيين: لقد طوينا نهائياً صفحة الحرب المشؤومة، التي كنا، نحن وأنتم، من ضحاياها، على اختلاف المواقع والتصورات والرهانات والأوهام. ومن الدروس الأساسية التي استفدنا منها معاً، ودفعنا ثمنها معاً، أن خلاص لبنان لا يكتمل إلا باستقرار الشعب الفلسطيني في دولة سيدة مستقلة، بالشروط التي يرتضيها الشعب الفلسطيني لنفسه، فليس لنا أن نعلمكم أو نملي عليكم أي خيار. ومن الدروس الأساسية التي استفدنا منها معاً، ودفعنا ثمنها معاً، أن لبنان المعافى داخلياً هو خير عون لقضية فلسطين، ولكل القضايا العربية، وليس لكم أن تُحددوا مواصفات موقفنا القومي. في إمكانكم التأكد من حقيقة هذه الخلاصة حين ترون اليوم هذا الإجماع اللبناني، من مختلف الطوائف والأحزاب، على تأييد قضيتكم بعد انتقال مركز نضالكم الى داخل فلسطين، وبعد إعلانكم، قولاً وعملاً، أنه لم يعد لديكم أي مشروع سياسي أو أمني في لبنان، أو عبر لبنان. لم تعد القضية الفلسطينية مسألة خلافية بين اللبنانيين. وعليه، فإننا نرفض معكم الاستغلال السياسي الذي يتعرض له وجود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، كما نتضامن معكم للحصول على كامل حقوقكم الإنسانية. كذلك ينبغي أن نعمل معاً على بسط سيادة الدولة اللبنانية على جميع المخيمات". ويلاقي ما ورد في السياق،"إعلان فلسطين في لبنان"في اعترافه بإثقال الفلسطينيين لبلد شقيق حتى تهديد صيغته، والاستقواء بالسلاح، ورفض أشكال التوطين والتهجير، ما يحتم انتقالاً الى تصفية منطق التعاطي مع لبنان كساحة مستباحة، واقتناعاً بموضعة أمن المواطن الفلسطيني على غرار المواطن اللبناني بيد الدولة، واستبعاد طرح مقايضة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية بالسلاح لمصلحة قيام نضال سلمي ديموقراطي في هذا الإطار. لم يكن هذا التلاقي الجوهري بين الإعلانين وليد صدفة. بل أتى نتاج قراءة تاريخية نقدية لما كان أولاً، واستشرافاً لما يجب أن يكون ثانياً. ومن هذه القراءة - الاستشراف يتحتم مقاربة معضلتين تأسيسيتين حول ماهية فلسطين في لبنان، ولبنان في رؤية فلسطين. 1 - فلسطين في لبنان: قضية - ورقة؟ في حرب لبنان، على تشعباتها الداخلية، وقبل أواسط الثمانينات من القرن الماضي، كانت فلسطين في قلب المعادلة اللبنانية. ضلّ حينها ثوريوها السبيل الى فلسطين. بعض اللبنانيين غالى في فلسطينيته. بعضهم الآخر بالغ في استعداء القضية. بانت رهانات الأطراف الثلاثة خاطئة. المأزق الأكبر تبدى حين تبارز عدوان في تصفية القضية. كيف؟ لا بد من الإصغاء الى ما عاشه آباء وأبناء الحركة الوطنية. عجزوا في مراحل عدة عن التمييز بين عدو وصديق. يومها كان الصراع علناً بين من يعمل لاغتيال الثورة، ومن يدفع باتجاه استخدام الثورة ورقة. تمكن المتصارعون من تنفيذ مهمتين نقيضين ظاهراً، ومتكاملتين ضمناً. لم يعد بحاجة من عمل على الاغتيال لاستكمال الضرب بمخالبه. تولى عنه ذلك المنظرون لاستراتيجية المبادلة بالأوراق الممسوكة، شُقت فلسطين في لبنان. ثوريوها كانوا جزءاً من إنجاح هذا الشقاق لأوهام سيطرة سلطوية مدمرة عاشوها. أوصد منذها الباب على علاقات لبنانية - فلسطينية سليمة. ربما كان عامل الوقت ضرورياً لشفاء ذاكرتين مجروحتين، مشوهتين، ملتبستي الرؤية. خلال زمن الوصاية استمرت مصادرة هذه العلاقات. بقي الشحن التخويفي والقمعي على حاله. في عام 2005، استُهلت تنقية الذاكرتين. خطت الدولة اللبنانية خطوات تأسيسية في إعادة إطلاق هذه العلاقات وترميمها. شكل مجلس الوزراء اللبناني، مكلفاً الرئيس فؤاد السنيورة ذلك، لجنة للحوار اللبناني - الفلسطيني، وعهد برئاستها الى الديبلوماسي المخضرم السفير خليل مكاوي. وكان قرار، سندته بعد فترة مقررات هيئة الحوار الوطني، بضرورة تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المخيمات، ونزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وضبطه وتنظيمه داخل المخيمات تحت السيادة اللبنانية، وعودة التمثيل الديبلوماسي بين الشرعيتين اللبنانيةوالفلسطينية. على طاولة الحوار الوطني تعهد حزب نافذ بمعالجة السلاح خارج المخيمات، ليُطل فجأة أحدهم بوثيقة حقوق للمقايضة. في الاجتماع الأول للجنة الحوار شدد رئيس مجلس الوزراء اللبناني على ما مفاده أن الفلسطينيين إخوة وضيوف أعزاء، وأن لهم حقوقاً لكنهم باتوا يعلمون أيضاً أن عليهم واجبات. وأضاف بما معناه أن القضية الفلسطينية واللاجئين تحديداً من مسؤولية المجتمع الدولي، لا سيما لجهة إنفاذ حق العودة المنصوص عنه في القرار 194، والى حينها لا بد من تأمين حياة لائقة لهم بالحد الأدنى، مع التأكيد على أن السلاح الفلسطيني بات مسألة سيادية لبنانية بعد تحرير لبنان وتحرره. الواضح من هذا الإعلان مقاربة رؤيوية وحكيمة. بعدها انطلق العمل، وأثنى عليه الجميع. ومن ثم أتت مباركة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان في خطاب القسم داعياً الى تأمين حياة كريمة للاجئين الفلسطينيين حتى عودتهم الى دولتهم فلسطين كما ورد في مندرجات قرارات الشرعية الدولية من جهة، وبالاستناد الى المبادرة العربية للسلام من جهة أخرى. بان في الأفق بعد حرب تموز يوليو 2006، تبدل في الأولويات، إذ بات اللبنانيون أسرى تخوينات متبادلة. استُعمل فيها"التوطين"مادة دسمة، شعاراتياً مع فراغ في المضمون. واستحقاق الإجماع حول فلسطين في لبنان مأزقياً. شهرَ من تسموا بپ"المعارضة"سيف الاتهام للحكم الذي كانوا شركاء فيه مخونينه بالعمالة المشروع إسقاط حق العودة. لم يشرحوا ماهية العمالة وكيفيتها. اكتفوا باستعمال مصطلح"لا توطين". لم يُعلنوا حتى استراتيجيتهم في هذا الإطار. بلى. إجابتهم جازمة. السلاح الفلسطيني خارج المخيمات ضد هذا المشروع. سد منيع لمواجهته. وجاءت معارك مخيم نهر البارد ليستغلها البعض في افتعال تقابل لبناني - فلسطيني. فشلوا. فراحوا يتحدثون عن التهجير المنظم. وبعد انتصار الجيش بقرار سياسي حكومي لبناني وغطاء فلسطيني شرعي، وانطلاق قطار العودة وإعادة إعمار المخيم، عادوا الى"التوطين"سيمفونية على إيقاع ما قاله الرئيس الأميركي جورج بوش إبان زيارته الى الشرق الأوسط عن حق التعويض للاجئين الفلسطينيين. سها عن بالهم أنه لا يعنينا، بل يجب ألا يعنينا ما يقوله بوش وحليفه الإسرائيلي في هذه المسألة، بل حري بنا بناء ديبلوماسية وازنة لبنانية - فلسطينية مشتركة لصد أي محاولة إسقاط لهذا الحق. في الولاياتالمتحدة بحسب ما قال الرئيس المنتخب باراك أوباما"هبت رياح التغيير"، فهلاّ أطلقنا قوة ضغط لبنانية - فلسطينية في عقر دار بلاد العام سام؟ في كل الأحوال، القرار 194 يتحدث عن حق العودة والتعويض. ليس من"أو"هنا، والجدير قراءة عربية صحيحة. الاعتلال مشبوه ومعرض. والسبحة مستمرة الكرّ. الالتباس الواجب إزالته أن لبنانيين اقتنعوا بپ"إعلان بيروت"، وتوأمه"إعلان فلسطين في لبنان"، يفضان عن"قضية"سمة"ورقة". فيما لبنانيون آخرون، على أحقية هواجسهم، ما زالوا في حيِّز التطلع الى فلسطين في لبنان ورقة. المؤلم أن بعض الفلسطينيين يتطلعون بالأسلوب عينه الى مُقدّس أسمى من أن يُزج في دوامة صون مصالح وتحقيق مآرب غير فلسطينية. فلسطين في لبنان تحتاج تحييداً لبنانياً من البازارات السياسية الضيقة. 2 - لبنان في رؤية فلسطين أخطأ الفلسطينيون في حق لبنان. ربما، وهذا ليس بمؤكد في الاستراتيجية، شكّل لبعضهم بديلاً كمستقر موقت. في التكتيك كانت تجاوزات. لبنانيون معهم أخطأوا الرهان. هل من حاجة لتكرار الاستياء والاعتذار؟"إعلان فلسطين في لبنان"حسم خيارات أساسية، ففيه باختصار، قالت الشرعية الفلسطينية، من دون لبس وبجرأة:"ندعو أنفسنا وإخوتنا اللبنانيين بلا استثناء الى تجاوز الماضي بأخطائه وخطاياه ... نُعلن التزامنا الكامل، بلا تحفظ، سيادة لبنان واستقلاله، في ظل الشرعية اللبنانية بجميع مكوناتها ...، ومن دون أي تدخل في شؤونه الداخلية ... ونعلن تمسكنا بحقنا في العودة الى وطننا فلسطين رافضين بحزم وثبات جميع أشكال التوطين والتهجير ... ونعلن أن السلاح الفلسطيني في لبنان، ينبغي أن يخضع لسيادة الدولة اللبنانية وقوانينها ... ونعلن عن تمسكنا بحقوقنا الأساسية كلاجئين مُقيمين قسراً وموقتاً في لبنان ... وإن حقوقنا هذه غير مشروطة بقضية السلاح ... وإن نضالنا يتطلب دعماً من جميع القوى والعائلات الروحية في لبنان، من دون انحيازات أو اصطفاف لأن فلسطين على مسافة واحدة من الجميع. والمعيار الرئيس هنا هو الموقف من قضية فلسطين ... لذلك، نحن شركاء في مشروع السلام العربي ...". هذه عبارات صريحة في غنى عن التأويل. على ما يبدو صاغها محترفون عايشوا تقلبات النظرة الفلسطينية الى لبنان. ساهموا في الهفوات. هم بناة التصحيح. يدركون العدو. يغمزون من قناة من يجب أن يكون صديقاً حريصاً على وحدة القضية، لا منخرطاً في تجزئتها، وتصنيف هذا أو ذاك من أبنائها. الأهم في الإعلان أنه يُطلق مصالحة هادفة بين شعبين شقيقين يُراد لهما نقيضان. دولة أو ساحة؟ ورقة أم قضية؟ على الأرجح، أن الشعبين، حتى ممن ضلّوا الحقيقة بينهم سيختارون حياداً عن أمَّتي السلطوية القمعية، والأصولية التكفيرية بجهادية مؤدلجة، لمصلحة انتفاضتين رساليتين للديموقراطية والتعددية والتنمية. هنا يكمن مقتل الصهيونية، والرهان على انتصار تاريخي، على قيامة، لا على أشلاء تُحرق كرمى عين من لا تعنيهم سوى مكاسب لا تمت بصلة الى أي قضية، عدا اللعب بأوراق ستحترق بها أصابعهم، فللظلم أيام أما الحق فله كل الدهور. * كاتب لبناني نشرت في عدد 16658 ت.م: 2008-11-12 ص: 27 ط: الرياض