منذ استقلال باكستان عن الهند سنة 1947، لم يعرف نظام هذه الدولة الحديثة أزمة سياسية عميقة في مستوى الأزمة التي يتعرض لها عهد الرئيس برويز مشرّف. وبما أن هذه الأزمة لم تولد من فراغ، فإن المعنيين بخطورتها شرعوا في البحث عن أسبابها الحقيقية لعل تدخلهم يساعد رئيس الجمهورية على الخروج من دوامة العنف التي اتسعت كثيراً عقب منع رئيس الوزراء السابق نواز شريف من العودة. وكان من الطبيعي أن يواجه الرئيس مشرّف معارضة إضافية عقب قرار منع زعيمة"حزب الشعب"بنازير بوتو من الرجوع إلى البلاد. ويرى المحللون أن جذور الأزمة تمتد إلى سنة 1979، أي إلى يوم غزا السوفيات أفغانستان، الأمر الذي حوّل باكستان إلى ساحة مشرعة لتدويل النزاع ضد موسكو. وبسبب وجود أبناء قبيلة الباشتون، أكبر قبائل أفغانستان، في القسم الجنوبي الشرقي من البلاد المتاخم لجمهورية باكستان الإسلامية، اتخذ"المجاهدون"من مدينتي بيشاور ولاهور محطتين لتجميع الصفوف وتوزيع السلاح وانشاء مراكز تدريب. وهكذا تحولت باكستان إلى خط الدفاع الأول ضد الاحتلال السوفياتي، وإلى ترسانة أسلحة كان من الصعب على إسلام آباد ضبطها أو مراقبتها، خصوصاً أن الملايين الثلاثة الذين نزحوا إليها هرباً من أفغانستان، شكلوا قوة مستقلة استهوت بطولاتها آلاف المتطوعين من اليمن والسودان والسعودية والمغرب والجزائر والعراق ومختلف الدول الإسلامية. وسط هذه الأجواء الأمنية المضطربة ظهر أسامة محمد بن لادن كشخصية مركزية سلطت عليها اضواء الإعلام الخارجي، خصوصاً أنه كان يملك ثروة مالية ضخمة تبرع بقسم منها لدعم المقاومة عبر"الجماعة الإسلامية". ولما انسحب السوفيات من أفغانستان، قرر جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستاني بالتعاون مع قيادة الجيش، ملء الفراغ السياسي والعسكري بقوى مرتبطة بإسلام آباد، وأُستنفرت لهذه المهمة حركة"طالبان"التي خرج مقاتلوها من المدارس الدينية المحافظة جداً. وقد أعانتهم على تحقيق المهمة الهزيمة المدوية التي لحقت بالسوفيات وأنصارهم. يجزم مؤرخو سيرة أسامة بن لادن أن تبعات الانتصار في أفغانستان لم تكن مشجعة، بدليل أنه لم ينجح في توظيف دوره كمقاتل ساهم في طرد السوفيات من أهم موقع استراتيجي. ولما أخفق في هذا المسعى، وحُرم من تحقيق طموحاته السياسية، انتقل إلى السودان لينضم إلى الدكتور حسن الترابي، زعيم الجبهة الإسلامية. وكانت قد سبقته إلى الخرطوم طلبات تقدمت بها واشنطن من أجل تسليمه وتقديمه للمحاكمة بتهمة ارتكاب أعمال إرهابية تبنت"القاعدة"مسؤولية تنفيذها. ولما عقد السودان صفقة مع فرنسا مقابل تسليم كارلوس، عاد بن لادن إلى أفغانستان ليتفيأ مظلة صديقه الملا محمد عمر الذي اختارته حركة"طالبان"في قندهار أميراً لها في صيف 1994. وبقي زعيم"القاعدة"في قندهار إلى حين أخطأته الصواريخ الموجهة عقب تسديده ضربات موجعة إلى السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا. بعدها انتقل إلى"جلال آباد"حيث أشرف على سلسلة عمليات مروعة ازدادت حدتها خلال النصف الثاني من التسعينات. سنة 1999 قام برويز مشرّف بانقلاب أبيض ضد رئيس الوزراء نواز شريف الذي حكم عليه في حينه بالسجن المؤبد لتهم تتعلق بالخيانة والتهرب من دفع الضرائب وتحويل أموال إلى الخارج. وبعد أن أمضى بضعة أشهر في السجن، ألغى مشرّف الحكم الصادر ضد شريف مقابل موافقته على قرار يقضي بنفيه خارج البلاد لمدة عشر سنوات. المراسلون الأجانب في إسلام آباد لم يقتنعوا بالأسباب المعلنة التي فرضت انقلاب العسكريين على السياسيين الفاسدين. ولدى البحث عن الدوافع الصحيحة تبين ان واشنطن هي التي ضغطت على نواز شريف من أجل استبدال نظام"طالبان"المتخلف بنظام أكثر انفتاحاً وديموقراطية. كذلك ربطت مساعداتها العسكرية والاقتصادية بضرورة اعتقال اسامة بن لادن الذي استغل صداقة الملا عمر لينشئ قواعد تدريب يخرج منها أفواج"الارهابيين"ضد الولاياتالمتحدة وحلفائها. علماً بأن باكستان تعد خامس دولة في قائمة المساعدات الخارجية. على الصعيد السياسي ركز المسؤولون الأميركيون في اعتراضاتهم على تحول افغانستان من الحكم الشيوعي الى حكم"طالبان"المتخلف الذي يمنع السينما والمسرح والرسم والغناء، كما يحرم سفور النساء ويحظر على سائقي سيارات الأجرة نقل المرأة غير المحتشمة، أو نقل رجل حليق اللحية. وبما ان"طالبان"كانت تهيمن على تسعين في المئة من افغانستان، فقد أدى هذا التشدد الى تجميد الاصلاحات والى هرب المنظمات الدولية من كابول. قادة المؤسسة العسكرية في باكستان اختلفوا مع رئيس الوزراء نواز شريف حول اجراءات التغيير التي قرر ان ينفذها في افغانستان. والسبب ان نظام"طالبان"كان صنيعة الاستخبارات الباكستانية التي اكتشفت في المدارس الدينية العناصر المتزمتة المستعدة لمحاربة الملحدين الشيوعيين بقوة الايمان والتعصب الأعمى. ورأت قيادة الجيش ايضاً ان كل تغيير في طبيعة النظام يمكن ان يفتح الباب لاندلاع حرب أهلية يتنازع فيها زعماء العشائر. ولتفادي حصول التغيير الذي تطلبه واشنطن، قام برويز مشرّف باسم مجلس القيادة، باعتقال رئيس الوزراء، مستنداً الى ملفات جمعها له جهاز الاستخبارات. ويزعم شريف ان كل ملفات الاتهام ملفقة ومضخمة. أحداث 11 ايلول سبتمبر 2001 كانت نقطة تحول بالنسبة الى العلاقات الاميركية - الباكستانية - الافغانية. ذلك ان الضربات التي سددها اسامة بن لادن الى مركز التجارة العالمي في نيويورك، والى مبنى البنتاغون في واشنطن، أحدثت جرحاً عميقاً في المخيلة الاميركية أعمق من الجرح الذي خلفته معركة"بيرل هاربور". وصادف في ذلك اليوم وجود الجنرال محمود أحمد، رئيس جهاز الاستخبارات الباكستاني، الذي أرسله الرئيس مشرّف للبحث في عملية تحديث سلاح الجيش. واستغل قائد البحرية الأميركية كيرك ليبولد، زيارة الجنرال محمود ليطلعه على تفاصيل تفجير المدمرة"كول"في اليمن باعتباره كان قائدها. وفجأة، بلغهما خبر تفجير"مركز التجارة العالمي"وهما يتناولان طعام الفطور في فندق"ريتز كارلتون". كان قرار اقتلاع نظام"طالبان"مرتبطاً بقرار تجفيف آبار الارهاب وإزالة حماته. ومع ان المؤسسة العسكرية الباكستانية لم تكن مرتاحة لنتائج تلك الحرب، إلا أن الرئيس مشرّف لم يستطع الوقوف في وجه التيار العالمي الذي أيد تغيير النظام الحاضن لزعيم"القاعدة". ولقد كافأته الولاياتالمتحدة على تعاونه، وإن لم تكن راضية عن الطريقة التي سهلت اختفاء اسامة بن لادن وسط القمم المحيطة باقليم وزيرستان. وكان هذا الاختفاء المريب موضوع جدل حاد بين مشرّف وحميد كارزاي يوم جمعهما الرئيس جورج بوش في البيت الأبيض بهدف مصالحتهما. والسبب أن الرئيس الباكستاني اتهم كارزاي بعقد صفقة مع"طالبان"تضمن بقاءه في الحكم وإنما بشكل هزيل، مقابل التغاضي عن نشاطاتهم في مواقع أخرى. وقد أنكر كارزاي حصول اتفاق سري، واتهم مشرّف بالاخفاق المتعمد في اقليم وزيرستان، حيث يؤكد أن اسامة بن لادن وأيمن الظواهري يختبئان ويشرفان على إدارة حرب الإرهاب من فوق تلك القمم. يشهد المراسلون في إسلام آباد وكابول أن تلك المصالحة أعطت الرئيسين زخماً واندفاعاً لم تعرفه قواتهما من قبل. وفتح مشرّف جبهة طويلة ابتدأت باقليم وزيرستان وانتهت في المسجد الأحمر. وكان من الطبيعي أن تثير هذه الجبهة حفيظة القبائل والمعارضة والجماعات الإسلامية، خصوصاً بعد تطبيع العلاقات مع إسرائيل من أجل كسب معركته الإعلامية في الولاياتالمتحدة وبريطانيا. ولما اتسعت حلقة المعارضة بسبب قسوة الجيش في التعاطي مع المتظاهرين ضد النظام، نصحت واشنطن حليفها الجديد بضرورة كسب تأييد حزبي نواز شريف وبنازير بوتو. وكانت الحكمة من وراء ذلك خفض موجة الاستياء الشعبي التي تزايدت عقب إقالة القاضي شودري. والثابت أن مشرّف أقدم على تنفيذ نصف هذا الطلب على اعتبار أن تحالفه مع بنازير بوتو قد يساعده على اقتسام السلطة معها في الانتخابات المقبلة. واستغل نواز شريف حكم المحكمة العليا في إسلام آباد القاضي بالعفو عنه ومنحه حق العودة من المنفى، كي يقرر الرجوع على عجل. كذلك استثمرت بوتو وضعه السياسي المرتبك لتدلي بتصريحات مغرية للإدارة الأميركية، مفادها أنها سترسخ الديموقراطية والعدالة في بلادها. وقبل أن يصل نواز شريف إلى مطار إسلام آباد الذي أُعيد منه إلى منفاه، أعلن أنه عائد للعمل على إطاحة الحاكم العسكري. وبسبب الأسلوب المتهور الذي اعتمده زعيما المعارضة، قرر الرئيس مشرّف نسف كل تعاون مع خصومه السياسيين، ملمحاً للأميركيين بأنه سيخوض معركة البقاء في السلطة وحيداً. في هذه الحرب المعلنة سيركز مشرّف ضرباته على"جماعة القاعدة"لأنها خطفت عطف الشارع وراحت تزرع القنابل في إسلام آباد ولاهور وبيشاور وداخل ثكنات الجيش. وهو مقتنع بالتحليل الذي قدمته واشنطن بأن الشريط الذي أطل من خلاله بن لادن في ذكرى 11 ايلول، يشير إلى اعتلال صحته، وإلى أنه لم يعد الزعيم الذي يدير شبكة"القاعدة"في العالم. ويرى عسكريون باكستانيون أن اسامة بن لادن قد تخلص من لحيته الكثة الطويلة بقصد التضليل، وأن لحيته المصبوغة بالسواد والمشذبة بشكل مزيف، لا تدل على العافية والهدوء. وكانت مستشارة الرئيس بوش لشؤون الأمن الداخلي فرانسيس تاونسند، قد أعلنت أن اعتقال بن لادن وقتله"أولوية مطلقة"بالنسبة إلى واشنطن. وربما أصبح هذا الهدف أولوية مطلقة لدى الرئيس برويز مشرّف، خصوصاً إذا ما أصبح نشاط"القاعدة"يمثل تهديداً مباشراً لنظام حكمه. وميزة مشرّف أنه يستطيع اكتشاف موقعه بواسطة الاستخبارات العسكرية التي صنعت"طالبان"، وحددت المغارة التي يختبئ فيها بن لادن مع أعوانه قرب اقليم وزيرستان! * كاتب وصحافي لبناني