تدور الصبية على الطاولات، تنثر بضع جمل :"مرحبا، اسمي روان وأنا عضو في المنتدى"، وتمضي سريعاً... هي من ضمن مجموعة شباب نزلوا من على شاشات الكومبيوتر، خلعوا عنهم المعرفات الافتراضية والأسماء الوهمية المستخدم للتعارف عبر الانترنت، كمن يبدّل ثيابه. ارتدوا هيئاتهم وأسماءهم الحقيقية، ليدلفوا من العالم الافتراضي إلى ذاك الحقيقي. تجدهم يعترضون على جعل الافتراضي نقيضاً للواقع. تحتج روان:"ما عشناه في غرف الدردشة، والتعارف، لم يكن وهما أبداً، وبدليل أننا الآن موجودون ونلتقي، وأفضل صديقاتي تعرفت عليها هناك". تعرف هذه الصبية بعض الموجودين، إذ اجتمعوا سابقاً، وكان لهم نشاطات ورحلات مشتركة، تأخذ هذه التجربة دليلاً لتقول إنها باتت مقتنعة بأن"العالم الافتراضي يمثّل انعكاساً للعالم الواقعي، نجد فيه من يكذب أو يخطئ إلى جانب الناس الصادقين، وهذا جزء من الطبيعة الإنسانية سواء عاشت في عالم افتراضي أم واقعي". تتطلع روان، ومثلها الكثير من الحاضرين، إلى لقاء مباشر مع من تبادلت معهم الآراء والأفكار، والتي شكلت ملامحهم على شبكة الانترنت إلى جانب الاسم الوهمي. هو لقاء بين أعضاء منتدى"شبابلك"السوري الذي أطلق في العام 200، وبلغ عدد أعضائه بحسب المشرفين عليه 52 ألفاً. جاءت الفكرة من الأعضاء أنفسهم، ولقيت تشجيعاً من المشرفين على"المنتدى". هو اللقاء الثاني، إذ حصل لقاء مشابه منذ سنوات عدة. مؤسس المنتدى، ومديره، الدكتور نعيم الجابي، أراد القول، من خلال اللقاء،"نحن لسنا افتراضيين بل حقيقيين، ولا نختبئ خلف لوحة المفاتيح". في رأيه أن"شبابلك"وفر فسحة"خضراء"للشباب السوري كي يعبر عن نفسه"بعد أن كان هناك من يوجد عنهم، ويتحدث بدلاً منهم". ويوضح الجابي أن المنتدى واجه"هجوماً لتعزيز الشللية، والطائفية، لكن أعضاءه هم من أوقفوه على قدميه". في بهو بيت شامي، صار مطعماً، اجتمع أكثر من خمسين عضواً في المنتدى. كانت روان الوحيدة التي بادرت إلى تقديم نفسها. لكن لاحقاً تكفّل"الميكروفون"بالمهمة، وانتقل من شاب إلى آخر. عرّف كل منهم عن اسمه الحقيقي، ثم تبعه باسمه"الحركي". كانت بعض الوجوه تنقبض على شكل علامات استفهام وتعجّب عند ذكر الأول، ولا تلبث أن تنفرج، بانفعالات متفاوتة، لدى سماع الثاني. سئلوا قبل ذلك من منهم لم يستخدم إسماً وهمياً للتعارف، وآثر اسمه الحقيقي. الأيدي التي ارتفعت لم تتجاوز العشر. يحلو للمشرفين على المنتدى التباهي بأنه أنتج حال زواج بين عضوين فيه، وأن الزواج الثاني"على الطريق". وبدت تلك الخطوة كأنها تساعدهم على رفع منسوب الحقيقة في عالمهم الافتراضي، وهو أمر احتل الأولوية لديهم. جلس زاهر ولميس ليتحدثا عن تجربة زواجهما، الذي تم بعد تعارف وأحاديث في غرف الدردشة. أبدى الشاب السوري سعادته بزواجه، الذي مضت عليه سنة، وعبّر عن إيمانه بأن المنتدى هو"مكان نظيف ومحترم، ولو كنت غير مقتنع بذلك لما كنت تزوجت عبر لقاء فيه". لميس التي تحمل الجنسية المصرية قالت أنها أعجبت بزوجها عبر تبادل الآراء والأفكار خلال الدردشة، من دون أن تكون عرفت اسمه أو شكله، فالصورة لم تختلف عند اللقاء وبعده. لكن لماذا الإصرار على نقل العالم الافتراضي إلى حيز واقعي؟ أليست لعبة"الشخصية الافتراضية"على الانترنت، هي واحدة من المتع التي مهدت لانتشاره الواسع؟ كل الشباب الذين حاولوا الإجابة عناهم التأكيد على أنهم في عالم افتراضي"لكنه يتطلع لأن يكون واقعياً". الكاتب السوري نبيل صالح، الذي يعمل في حقل النشر الالكتروني أيضاً، رأى في اللقاء مؤشراً إيجابياً:"الاختباء خلف شاشة الكومبيوتر لا يعطي عالماً حقيقياً، والمتعة التي يمنحها وهمية، وهي تماماً مثل العادة السرية التي لا يمكنها إنشاء أسرة"، وأضاف صالح بأن الشباب السوريين"تم تأميمهم ضمن عمليات التأميم الاقتصادي التي شملت قطاعات كثيرة في سورية أواسط الستينات، وأبعدوا من مساحات الحياة العامة"، وهو برأيه ما جعل الشباب"جيلاً مجهولاً"، موضحاً أن التعامل بأسماء وشخصيات وهمية لن يفيد في تغيير الحال القائمة. افتتح المنتدى منذ مدة القسم الخاص بالمدونات، ويطمح، من خلاله، إلى تشجيع الشباب على التعبير عن أنفسهم. لقاء أعضائه سرّب بعض اليأس من الواقع الحقيقي، فالعالم الافتراضي وفرّ فرصاً أكثر لم يستطع الأول إتاحتها. آخرون غمزوا إلى ضيقهم من حال"الفرض والقسرية"التي يعيشها الشباب في المجتمع السوري، والشرقي عموماً. قال أحدهم أنه يستطيع الآن، عبر المنتدى، بناء"مجتمع خاص على هوانا. بناء أسرة، ومدرسة، ومجتمع كامل نضع نحن أساساته ولا يفرضه علينا أحد".