هل هو القهر والكبت؟ أم هي التنشئة الاجتماعية المصحوبة بقليل من المصاعب المادية وكثير من قشور التفسيرات الدينية المعتمدة على اجتهادات ذاتية؟ أم هي ثقافة مجتمعية تساندها منظومة إعلامية تأبى أن تواكب صوت العقل والفكر الحقوقي الذي يساوي بين الجميع؟ الأجساد المتراصة في ميادين وشوارع قاهرية ذات مواقع محورية واستراتيجية في صيف 2007 وفي أكثر أوقات النهار قيظاً ورطوبة وحرارة هي لأشخاص تعدوا مرحلة الهواية ووصلوا بجدارة وبعد خبرة وجهد إلى"الاحتراف". رجال وشباب يفترض أنهم تعدوا عقد العشرينات بهرموناته المتذبذبة ومشاعره المتأججة كل مهمتهم في أيام الصيف هي"التحرش". منهم من تخصص في التحرش الجسدي، وهو أكثر أنواع التحرش فجاجة وسهولة في آن. ومنهم من أتقن الجوانب اللغوية واللفظية. لكن أكثرهم حنكة وعمقاً في مجاله وتمرساً هم اختصاصيو التحرش بالنظرات. أماني 24 سنة تعمل موظفة في شركة سياحة في وسط القاهرة. تقول:"أسمع يومياً في طريق الذهاب والعودة الكثير من الهمهمات والكلمات من رجال وشباب يتخذون من النواصي مركزاً لنشاطهم. وعلى رغم أن بعضاً من هذه الكلمات يحمل تصريحات جنسية أقل ما يمكن أن توصف به أنها قبيحة، إلا أن الأسوأ منها هي تلك النظرات الثاقبة كالسهام والتي تدقق في كل تفصيل من تفاصيل جسدي والتي لا تخلو من تحقير لا أستطيع شرحه، هذا على رغم أنني محجبة". لكن المدقق في أحوال المعاكسات والتحرشات في شوارع القاهرة خلال السنوات القليلة الماضية سيعي تماماً أن مسألة الحجاب هذه لا تقف عائقاً أمام المتحرشين وهواة المعاكسات. سهام 29 سنة تقول:"لم يعد الحجاب حشمة وزياً إسلامياً الهدف منه ستر تفاصيل جسد صاحبته عن الأنظار، بل تحول في الحقبة الأخيرة إلى قبول اجتماعي لأي أنثى بلغت. والدليل على ذلك هو أن الغالبية تعتقد بأن الحجاب هو تغطية شعر الرأس مع إمكان إظهار كل شيء آخر". أشياء أخرى كثيرة يتحدث عنها أيمن 21 سنة الذي يرى ان المعاكسات"حرية شخصية". يقول:"أقول ما أشعر برغبة في قوله، سواء كان غزلاً أو تعليقاً على ملابس أو ألوان غريبة، أو نقداً لتصرفات، أو طريقة معينة في المشي أو ما شابه، ومن حق الفتاة أن تسمع أو لا تسمع". لكن ماذا عن حق الفتاة في ألا تسمع؟ يستنكر أيمن السؤال بشدة ويقول:"الله خلق النساء مختلفات عن الرجال، والمرأة التي لا تود سماع تعليق أو غزل عليها أن تحترم نفسها وتلتزم بيتها، وهذه هي تعاليم ديننا الإسلامي". وعلى رغم أن أيمن لم يوضح السند الذي استند إليه في كلماته، إلا أنه يجزم بأن"المرأة أو الفتاة التي لا تريد حقاً أن تسمع أو تتعرض لأي معاكسات عليها أن تنتقب لو اضطرت للخروج من البيت ولو كانت أمي سأقول لها الكلام ذاته". وعلى رغم أن"أم أيمن"لا ترتدي النقاب، إلا أنها تلتزم البيت ولكن لأسباب صحية بحسب ما يقول ايمن، إلا أن أمهات كثيرات يخرجن إلى الشوارع ويتعرضن لأيمن وأمثاله ممن يعتبرون المعاكسات والتحرشات"حرية شخصية". لأولئك وغيرهم وجهت"ساقية الصاوي الثقافية"حملتها المناهضة للتحرش في الشوارع والأماكن العامة والتي أثارت الكثير من الجدل بسبب شعار"أمك عليها الدور"وهو ما أدى إلى صدور قرار برفعها من ميادين القاهرة وشوارعها ومحافظاتها. وعلى رغم افتقار الشعار إلى الذوق والاحترام، إلا أنه كان شديد الواقعية. وتكفي سيول التعليقات التي انهالت على المواقع الإخبارية الإلكترونية التي تناولت خبر إزالة اللوحات من الشوارع والتي دار الكثير منها حول مدى التدني والبذاءة التي وصلت إليها الأحوال الأخلاقية في الشوارع، بالإضافة إلى قصص حكاها البعض عن تعرض أمهاتهم لهذه التحرشات، ولعل أكثرها صدمة كان ما رواه أحدهم عن رجل"كشف نفسه"أمام جدته في أحد الشوارع التجارية المزدحمة في حي مصر الجديدة في شرق القاهرة. ويبدو ان مسألة التحرش والمعاكسات باتت منظومة ثابتة في شوارع القاهرة. وفي وسطها، وتحديداً قرب مقر الجامعة الأميركية، يصدر الكتاب السنوي للجامعة وهو يحتوي على قسم خاص بپ"تحرشات الشارع"جاء فيه:"النساء الأجنبيات يتعرضن لدرجات متفاوتة من التحرشات في الشارع معظمها لفظي وغير ضار نسبياً، وقد يتعرضن كذلك للتحرش الجسدي بما في ذلك اللمس و"القرص"لا سيما في الأماكن المزدحمة ومترو الأنفاق والأسواق". الطريف أن إدارة الجامعة تنصح النساء المتحرشات بهن بعدم اللجوء إلى إبلاغ الشرطة"لإن ذلك قد ينتج عنه المزيد من المشاكل". ويبدو أن هذه حقيقة، فالدراسة التي صدرت عن المركز المصري لحقوق المرأة أخيراً تشير إلى أن الغالبية العظمى من الفتيات والنساء اللاتي يتعرضن للتحرش في الشارع يعتقدن بأن القانون لا يحميهن. وعلى رغم وجود النصوص القانونية التي تعاقب على أنواع التحرشات المختلفة، إلا أن الدراسة تؤكد أن الشرطة في مصر لا تسعى إلى اتخاذ الخطوات اللازمة في هذه الأمور، لا سيما لو كان التحرش لفظياً وليس جسدياً. الأدهى أن الاعتقاد العام السائد في المجتمع هو ان الفتاة أو المرأة التي تتعرض للتحرش"تستحق ذلك لأنها حتماً ترتدي ملابس غير لائقة". وتلمح الدراسة كذلك إلى ان الأسباب غير المباشرة لسكوت المجتمع على ما تتعرض له الإناث في الشارع هو نوع من العقاب غير المباشر على"تخلي المرأة عن دورها الطبيعي في البيت وهو تربية الأولاد ونزولها إلى الشارع". السبب الثاني هو عقابها ايضاً على"تجرؤها في مزاحمة الشباب والرجال على فرص العمل المتقلصة، ومن ثم مساهمتها الضمنية في زيادة معاناة الرجال من البطالة". والسبب الثالث هو أن الرجال لا يعون فعلياً المهانة والقرف اللذين تشعر بهما الأنثى المتحرش بها. كما أنه لا يوجد حوار مفتوح في المجتمع حول ظاهرة التحرش الآخذة في الازدياد، إضافة إلى أن السلطات فشلت تماماً في السيطرة على نمو هذه الظاهرة. الطريف أن المجتمع المصري بات يطالب الفتاة والمرأة بپ"تسليح"نفسها، سواء بالملابس المحتشمة أو تعلم فنون الدفاع عن النفس، أو عدم النزول من البيت من دون مرافقة، وذلك لعدم التعرض للتحرش الذي صار جزءاً لا يتجزأ من حياة المرأة المصرية.