منذ سنوات كثيرة وأنا كنت أسمع بمحمد بن عبدالله الفنتوخ -رحمه الله-، الذي يعد من الوجهاء في قريته القصب، وفي إقليم الوشم، وكان شخصية معروفة في العاصمة الرياض، وليست نكرة، نال قسطاً من التعليم في قريته القصب، وكان قد قرأ القرآن الكريم في الكتاتيب وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وهو من بيت علم وعلماء، وسوف نذكرهم. عاش محمد الفنتوخ في القصب، فكانت طفولته وحياته وشبابه في هذه القرية المشهورة بإنتاج الملح في المنطقة الوسطى والمملكة، وُلد عام 1320ه، وكان والده عبدالله الفنتوخ قد نال حظاً من العلم الشرعي، وهو إمام وخطيب جامع القصب، ولقد أفاد من والده العلوم الشرعية مثل العقيدة ورسائل الشيخ محمد بن عبدالوهاب كرسالة الأصول الثلاثة والقواعد الأربع، وكشف الشبهات وكتاب التوحيد، فهذه الرسائل للمبتدئ في طلب العلم، لابد أن يقرأها ويدرسها على المشايخ في ذاك الزمن؛ لأنها بمثابة السلم إلى علوم العقيدة والتوحيد، وكذلك رسالة آداب المشي إلى الصلاة، وهي في الفقه كرسالة مختصرة يحفظها المبتدئ ليرتقي بعد ذلك إلى المتون العلمية الأكثر منها بسطاً وتوسعاً وتفصيلاً. ولا نعلم بالتحديد متى خرج محمد الفنتوخ من القصب لأجل الكفاح في الحياة، لكن في الأغلب أنه حينما بلغ مبلغ الرجال، أصبح يعتمد على نفسه متنقلاً بين أرجاء المدن والقرى، وكانت المملكة قبل النفط مواردها قليلة جداً، وسبل العيش محصورة في الفلاحة والزراعة ومهن أخرى، وبعضهم يغامر إلى السواحل الشرقية ليركب البحر ويغوص في اليم لعله يحظى برزق وفير، أو بدانة من اللؤلؤ، لهذا كان الكثير من أهالي نجد يسافرون إلى البحرين والكويت وقطر بغرض الغوص، فكان شخصيتنا من هؤلاء الذين يمشون في مناكب الأرض يبتغون رزق الله كفافاً وليس للتجارة والتوسع في الدنيا. عزيز نفس ومحمد الفنتوخ -رحمه الله- طيلة حياته كان عزيز النفس، عالي الهمة، يكتفي بالقليل متأبطاً القناعة بيقين من الله عز وجل، ورضا بما قسمه له من العيش، ويرى نفسه أنه أغنى الناس، وكأنه يتمثل بقول أمير السيف والقلم «أبو فراس الحمداني» -رحمه الله-، حيث جسّد هذه القناعة وأنها حقيقة كنز، بل منجم لا يفنى مهما استخرج منه من الذهب أو الفضة، يقول أبو فراس: ما كل ما فوق البسيطة كافياً فإذا قنعت فكل شيء كافي والقناعة ليست شعارات عند شخصيتنا، بل هي قناعة ومبادئ التزم بها، وهي من أخلاقياته التي لا يمكن التزحزح عنها مع الالتزام بالدين، وكما قلت عاش محمد الفنتوخ يطلب ويلاحق الرزق الحلال شطراً من حياته. الرياضوالشرقية ورحل محمد الفنتوخ -رحمه الله- إلى الرياض وكانت فيها وسائل العيش أكثر من غيرها من مدن وقرى نجد الأخرى؛ لأنها العاصمة واستقر بها مدة من الزمن، وفد في أوائل 1340ه تقريباً، ثم بعد ذلك رحل إلى المنطقة الشرقية، ولعل ذلك في مدينة الجبيل، لأنها كانت عامرة السكان والتجارة قبل تأسيس مدينة الدمام والخبر، وكان في الجبيل الكثير من أهالي نجد قد سكنوا هذه المدينة، وخصوصاً من أهالي الوشم، ولا نعلم كم هي السنوات التي عاشها في المنطقة الشرقية لكنها مدة زمنية ليست قصيرة. مستشار أمين رجع محمد الفنتوخ -رحمه الله- إلى الرياض وارتبط مع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبدالعزيز -رحمه الله-، وكان عنده بمثابة المستشار الأمين، وله مكانة خاصة لدى سموه، وكان في معيته عقوداً من الزمن، وكان الأمير محمد يقدر شخصيتنا تقديراً خاصاً، ويؤمه في الصلوات الخمس سواء في قصره في الرياض أو خارجها، إذا كان سموه في نزهة برية، فكان محمد الفنتوخ مخلصاً صادقاً أميناً مع سموه، ومع هذه المكانة عند سموه، إلاّ أنه لم يجعل هذا القرب لتحقيق مصالحه الشخصية، ولو أراد الدنيا بحكم هذه الصلة القوية من سموه لنالها؛ لكنه كان قنوعاً، مدركاً أن هذا القرب من سموه هو شيء لا يقدر بثمن من حطام الدنيا، وهذه قناعته الشخصية، لهذا كان الأمير محمد بن عبدالعزيز يعده من خاصته ويحترمه كل الاحترام، وعُرف شخصيتنا عند الناس الخاصة والعامة، واشتهر بهذه المكانة عند سموه. وكان محمد الفنتوخ -رحمه الله- لا يبخل بجاهه، إذا لجأ إليه أحد يطلب شفاعة، بل يبادر بها ويرى أن زكاة الجاه هو بذله كما قال الإمام الشافعي: وجبت علي زكاة ما ملكت يدي وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا بلدة القصب وقبل أن نتكلم عمّا قدمه محمد الفنتوخ -رحمه الله- لبلدته القصب، نورد تعريفاً عنها، فقد أفرد للقصب حديثاً المؤرخ الجغرافي الأديب الشهير عبدالله بن خميس في كتابه (معجم اليمامة) قائلاً: وتقع القصب في منفسح من الأرض رحب، غربية رمل الرغام، وشمالية منبسط الحمادة، روضة العكرشية، والضبيات، ومنحدرات طويق الغربية، مما يلي الحريق، وشرقية فوهة العتْك الواسعة، مما يلي قصور ثادق والبكرات، والمعُيقل ومشاش المراطيب، وجنوبية أعيوج إلى رمل الرغام -انتهى-. كلامه- وقد سرد الحوادث التاريخية التي وقعت في بلدة القصب التي ذكرها المؤرخون مثل المؤرخ ابن غنام والمؤرخ ابن بشر والمؤرخ ابن عيسى. والجدير بالذكر أن شخصيتنا صديق للمؤرخ ابن خميس، كما أخبرنا أحفاده فهد، وإبراهيم، ومحمد، وهم الذين أمدونا بهذه المعلومات عن جدهم والصور، ولهم فائق الشكر والتقدير، وقد أورد المؤرخ عبدالله بن خميس العلماء وطلبة العلم الذين أنجبتهم القصب، وذكر منهم صديقه شخصيتنا حيث قال: ومن طلبة العلم الفضلاء محمد بن عبدالله الفنتوخ إمام الأمير محمد بن عبدالعزيز، ومن تلاميذ الشيخ عبدالله بن زاحم -انتهى كلامه-. وقد أطلعت على رسالة من محمد الفنتوخ -رحمه الله- إلى القاضي الشيخ عبدالله بن زاحم رئيس محاكم المدينةالمنورة، وهي رسالة ودية أبوية أرسلها شخصيتنا من مدينة جازان وهي من مقتنيات الباحث ناصر الزاحم. حفر بئر وكانت قرية القصب في مرحلة من المراحل الزمنية قد نضبت آبارها وغارت، والماء هو الحياة فلا حياة بدون ماء، ولا يمكن أن يعيش أي كائن حي بدون ماء، فما كان من محمد الفنتوخ -رحمه الله- إلاّ أن سعى بجهوده لحفر بئر شمال القصب، وحيث لا يوجد آبار صالحة للشرب إلاّ هذه البئر، وهذا قبل أن تكون القصب ذات شبكة حديثة، حيث تمد المياه إلى المنازل بيسر وسهولة، وهذا من شخصيتنا جهد يشكر ويذكر بالخير، ومن أعماله التي فيها النفع العام للناس أجمع، وكل ما كان العمل الصالح متعدياً نفعه كان أكثر أجراً ومضاعفاً عند الله، نرجو من الله العلي القدير أن يتقبل هذا العمل من شخصيتنا ويثقل به ميزان حسناته، ولعل دعوات الصالحين من أهالي القصب آنذاك كانت تلهج بالدعاء لمحمد الفنتوخ لا سيما في ذاك الزمن الذي كان الناس يستقون الماء من الآبار عن طريق القِرب، ونجد ليست كالحجاز، فالحجاز كان هناك بما يسمى السقاء الذي يطوف على المنازل ويمدهم بالماء. ومن المشاريع التنموية التي كانت من جهود محمد الفنتوخ وجاهته عند المسؤولين ربط القصب بطريق مزفلت، يربط هذا الطريق حريملاء إلى نفوذ شقراء، وبهذا يسهل الوصول إلى القصب، وهذا لا شك قد كان أمراً حيوياً للقصب وللمنطقة، وشخصيتنا مفتاح لكل خير وما فيه نفع لعامة الناس وهذا وفاء لبلدته القصب. استقبال الملك سعود وعندما كان الملك سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله- يتفقد مدن وقرى نجد بعد توليه الحكم 1373ه، كان من برنامجه أن يتوقف عند بلدة القصب وكان أهالي القرى آنذاك يستقبلونه، حيث يعدون مكاناً يليق بالملك، وتنصب الخيام وتفرش بالسجاد وكان محمد الفنتوخ -رحمه الله- هو الذي أعد المكان المناسب، وأشرف على الحفل في استقبال الملك سعود، وقد شارك الأهالي في هذا الاستقبال، صغيرهم وكبيرهم وكان حفلاً ناجحاً. ذو مكارم أخلاق ومن المعروف أن محمد الفنتوخ -رحمه الله- ذو مكارم أخلاق، ولديه مروءة، وكان طيب الخلق مع الناس، وهو كذلك دبلوماسي في تعامله وحكيم في تصرفاته، وذو منطق جيد وحديثه حلو وعذب وسلس في المجالس، كما سمعت عنه أنه اجتماعي ذو معشر طيب راقي الأخلاق، والفنتوخ من بيت علم وعلماء، وأسرة الفنتوخ أسرة علم وعلماء منذ القدم، وقد ذكر المؤرخ الفقيه القاضي عبدالله البسام -رحمه الله- في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون) عدة من علماء آل فنتوخ وأقدمهم محمد بن عبدالله الفنتوخ -من علماء القرن الثاني عشر الهجري-، وكذلك والد شخصيتنا عبدالله بن محمد من طلبة العلم، وهو كما ذكرت إمام جامع القصب، وقد نسخ كتباً كثيراً، وقد كتب الكثير من الوثائق في القصب، وأخو شخصيتنا إبراهيم بن عبدالله الفنتوخ درس على والده المذكور آنفاً، وكان من علماء منطقة الوشم، وترجم له المؤرخ عبدالله البسام في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون)، وجَد شخصيتنا هو العالم محمد بن فنتوخ من علماء أشيقر ومن تلامذته المؤرخ إبراهيم بن عيسى، ومن علماء أسرة الفنتوخ عبدالله بن عبدالرحمن بن محمد الفنتوخ ترجم له المؤرخ عبدالله البسام في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون)، وتوفي عام 1392ه، وهو من طلبة العلم، وكان من شيوخه الفقيه عبدالله العنقري -رحمه الله-. وتوفي محمد الفنتوخ في شهر ربيع الأول لعام 1402ه، أسكنه الله الفردوس الأعلى فقد خلق ذكراً طيباً وحسناً يلين الناس. محمد بن عبدالله الفنتوخ -رحمه الله- الفنتوخ عُرف عنه الدبلوماسية في تعامله والحكمة في التصرفات عبدالله بن خميس صديق محمد الفنتوخ الشيخ عبدالله بن عبدالوهاب بن زاحم أحد مشايخ وأساتذة شخصيتنا رحل محمد الفنتوخ إلى الرياض طلباً للرزق إعداد- صلاح الزامل