أكثر من ثلاثة عقود تأخرت الكتابة النسائية السردية في السعودية، عن مثيلتها عند الرجل. فما بين صدور رواية"التوأمان"، أول رواية سعودية، لعبدالقدوس الأنصاري عام 1930 ورواية"بريق عينيك"التي ظهرت عام 1964 بتوقيع سميرة بنت الجزيرة، كان صوت المرأة يعيش صمتاً مطبقاً، كأن لا أوجاع ولا هموم تشغلها لتحفز مخيلتها وتشرع في التعبير، في ما كانت تتوالى القصص التي يكتبها الرجل، جاعلة من تلك المرحلة ذكورية محضة. نحو 33 سنة، بحسب دراسة للناقد علي الشدوي، ظلت خريطة الأدب السعودي خلواً من الكتابة النسائية. مدة طويلة عاشت فيها المرأة بعيدة كل البعد من قضايا التعبير الأدبي ومن التعاطي سردياً مع مشكلاتها ومما تواجهه في حياتها اليومية من تحديات ومستجدات تفرضها طبيعة المراحل التي تعاقبت. بل كأن المجتمع نفسه كان ضد أن تمسك المرأة بالقلم وتبدأ رحلة التعبير،"ظلت الكتابة والمرأة تعبران عن مفهومين نقيضين"، فالمرأة كانت أشبه بكائن محصور الحقوق مأمور بالصمت وعدم التعبير. وإذا كان هناك من يعتبر أن غياب كتابة المرأة في تلك الفترة، يرجع"إلى سيادة أنواع أدبية، وقلة خبرة المرأة بالحياة، وعزلتها، ومعرفتها المشروطة والثقافة الشفاهية السائدة"الناقد علي الشدوي، فإن هناك أيضاً من يرى عدم الجدية في المحيط الأدبي عموماً في تلك المرحلة،"فما من قارئ متابع ولا ناشر حريص على إثراء السوق المحلية بالإبداعات المحلية"الناقدة لمياء باعشن. وإذا وجدت بعض الكاتبات اللاتي كتبن في تلك المرحلة، فإن ذلك يعود إلى أنهن نشأن وكتبن وطبعن خارج البلاد، سميرة خاشقجي، مثلاً. لكن الكاتبة السعودية نجحت أخيراً، على رغم كل الصعوبات التي واجهتها، في صوغ همومها وقضاياها روائياً، واستطاعت أيضاً أن تثير انتباه النقاد، وتدفعهم إلى التملي في كتابتها وتأملها نقدياً، مع أن النظرة السريعة إلى أدبها لا تزال قائمة، وهي نظرة تختصر الكتابة النسائية برمتها في تحرير المكبوتات وإطلاقها في نصوص روائية، تقرأ عربياً قبل أن يطالعها القارئ السعودي في بلده. ولكن هل ثمة علاقة تربط بين كثافة الإصدارات النسائية اليوم وتوالي ظهور روائيات وروايات تعبّر عن قضايا المرأة السعودية من جهة، وتلك الحقبة التي شهدت غياباً كاملاً لأي كتابة أنثوية من جهة ثانية؟ حتى في حال غياب العلاقة، فإن موجة الكتابة النسائية اللافتة منذ سنوات قليلة، وفّرت الضرورة اللازمة للبحث في بدايات كتابة المرأة السعودية وتأمل لحظات التطور في مسارها الأدبي. ولعل النقاش الواسع، الذي نظمه ملتقى"جماعة حوار"في نادي جدة الأدبي، واستمر في صيغة جلسات أشهراً عدة، بعنوان عريض:"خطاب السرد: الرواية النسائية في السعودية"، جاء انطلاقاً من تلك الحاجة إلى تأمل المسارات التي اختطتها كتابة المرأة في السعودية. قدم الملتقى نحو 15 دراسة وبحثاً نقدياً، وتناولت كل جلسة من تلك الجلسات رواية واحدة من الروايات النسائية، التي صدرت باكراً. وصدور تلك الدراسات في مجلد واحد أخيراً، يحمل العنوان نفسه، حرره وقدم له المشرف على الملتقى الناقد حسن النعمي، يوفر لشريحة واسعة من القراء الإحاطة بالتحديات التي واجهتها الكاتبة السعودية، وكذلك الاطلاع على الرؤى والمواقف التي عبرت عنها أعمالها الروائية. وتتيح قراءة الكتاب أيضاً التيقن من أن الطفرة الروائية التي تشهدها السعودية هذه الأيام، على صعيد الكتابة النسائية، لم تأتِ كتطور طبيعي لبدايات الكتابة، ويمكن القول إنها جاءت أشبه بالقفزة، لتشكل قطيعة مع ما سبقها، سواء من ناحية الجماليات أم الجرأة غير المسبوقة، في تناول القضايا والموضوعات. وقد تكون بعض كاتبات هذا الجيل قرأن رواية أو اثنتين من تلك الروايات التي صدرت باكراً، غير أن سبب القطيعة أو عدم الانطلاق من نقطة البداية، أن تلك الروايات كانت بعيدة من أن تشكل حافزاً لتأسيس كتابة روائية جديدة، تمتاز بالجرأة والمغامرة. فغالبية روايات الجيل الأول من الروائيات بدائية شكلاً ومضموناً. ولئن تعددت القراءات في ملتقى"جماعة حوار"وعبرت عن مناهج نقدية جديدة، وعن زوايا نظر مختلفة، وتضمنت خلفيات ثقافية ونقدية متنوعة، فإنها كانت تقارب ما يشبه النص الروائي الواحد. فالروايات الخمس عشرة، موضوع جلسات الملتقى، على رغم صدورها في أزمنة مختلفة لا تختلف كثيراً بعضاً عن بعض. وعدا روايتين أو ثلاث عبرت عن حساسية روائية جديدة، تعكس لحظة زمنية مغايرة، وتعقد في العلاقات الاجتماعية، وأخذت فيها علاقة الرجل والمرأة بُعْداً غير مباشر، شديد الالتباس والتعقيد، وعبرت عن طغيان المدنية وقيم الاستهلاك في المجتمع السعودي خلال العقدين الماضيين، فإن بقية الروايات جاءت مشبعة بالهجاء والنقد اللاذع للرجل، إذ لم تتخطَ العلاقة بين الرجل والمرأة في هذه الأعمال، أكثر أشكالها مباشرة وسطحية. في الكتاب يقرأ علي الشدوي، الرواية النسائية السعودية، ويتأمل سحمي الهاجري في الخطاب المضاد في"غداً سيكون الخميس"، وتتوقف إيمان تونسي عند بوح الأنثى في"قطرات من الدموع"، وتتفحص فاطمة إلياس ولاء الخطاب الأنثوي الإبداعي في"آدم يا سيدي"، ويكتب عايض القرني عن الدمية العرجاء في"البراءة المفقودة"، وتعاين إيمان الصبحي الخطاب الإيديولوجي في"بسمة من بحيرات الدموع"، ويقدم خالد ربيع السيد قراءة في"وهج من رماد السنين"، وتتبع لمياء باعشن الحمامة والسحلية والمرأة الخفية في"وجهة البوصلة"، ويتوقف عبده خال عند الذاكرة الشعبية في"عيون على السماء"، وتقرأ أميرة كشغري"الفردوس اليباب"، ويتلمس كامل صالح الخط الفاصل بين الروائية وشخصيات الحكاية في"امرأة على فوهة بركان"، ويكتب محمود عبيدالله عن جمالية التجريب وتشخيص اليومي في"مزامير من ورق"، ويتأمل عالي القرشي في عوالم"توبة وسلي". من ناحية أخرى، توضح دراسة شاملة أعدها الناقد حسن النعمي وضمها الكتاب، أن الرواية النسائية كأنما شقت لها بداية أخرى، من دون الاستفادة من المنجز السابق عليها، ومثلته روايات عبدالقدوس الأنصاري وحامد دمنهوري وإبراهيم الناصر وسواهم، عطفاً على أن رواية المرأة الكاتبة لم تنظر إلى ما تحقق من تطور نوعي في الرواية العربية، وكأنها غير معنية بها، فجاءت هذه الأعمال فقيرة جمالياً ومباشرة دلالياً. ناهيك باشتغال الكاتبات في غالبية هذه الروايات انطلاقاً من خطاب مسبق،"يملي عليهن تراكمات من جدل العلاقة بين الرجل والمرأة". وتتأمل دراسة النعمي المكان بصفته"حالة خاصة تتشكل وفقاً لمواصفات اجتماعية، حيث تجد المرأة نفسها ملزمة بمراعاة شروط وجودة"، وتقودنا إلى وضعية المرأة عندما تكون محكومة بالمكان المغلق، الذي هو"صنيعة ذكورية تتأكد بها الفواصل القاطعة بين عالمي الرجل والمرأة". لكن الكتابة السردية توفر مخرجاً للكاتبة من هذا المأزق"لتنقلها من ظل المكان إلى أرض تتخلص فيها من نفيها وإقصائها". ومن هنا لا يعتبر النقاد أن غياب ملامح المكان عن رواية ما"نقيصة سردية جمالية، بل خطاب متخف غير واع يتجسد في تغييب المكان". ويتراوح تعامل الكاتبة مع المكان الصريح، أي في حال التسمية، بين الحذر والتحفظ والجرأة في أحايين قليلة. ويتجسد المكان في بعض الروايات من خلال ما يمكن تسميته المكان البديل،"الذي يأتي بصفته بيئة سردية تعكس بيئة مناقضة للمرجعية الاجتماعية المتوقعة وفقاً لانتماء الكاتبات". وبعد قراءة في الخطاب، الذي عبر عنه عدد من الروايات، بصفته"نظاماً له آليات اشتغال متخفية، ويعنى بتفكيك آلية اشتغال السلطة في مستواها الاجتماعي... مفترضاً دائماً أن الإيديولوجية جزء من تركيبته"، يخلص النعمي"إلى أن إشكالية خطاب المرأة في هذه الروايات أنها اختزلت مصدر شقائها في الرجل، إذ أصبح هو العالم في نظرها... وكي يظهر دورها قررت إقصاءه بلعب سردية بدت أحياناً ساذجة، وأحياناً متكلفة، وفي أحايين أخرى متسلطة". ويخلص إلى أن معظم روايات المرأة التي قرأت في الملتقى،"تتسم بضعف فني بارز، مرده على الأرجح الافتقار إلى الموهبة لدى معظم الكاتبات. ولعل منطلق بعض هذه الروايات لم يكن الفن في الدرجة الأولى، بل استغلال الكتابة لفرض هيمنة الحضور، فالكتابة قادرة على حمل انتصارات متخيلة للمرأة في مقابل انتصارات الرجل الواقعية. ومن ثم، فإن الكتابة هنا تنتقل من صفتها الأدبية إلى صفتها الاجتماعية، ومن صفتها السردية إلى صفتها الإيديولوجية بغية تأسيس خطاب مضاد لخطاب الرجل". وذلك بالتالي يعني إحلال المرأة في موقع الهيمنة والسيطرة. ويعني أيضاً تحول هذه الروايات إلى ما يشبه منشورات اجتماعية"متوسلة بالسرد". ولم ينفِ الناقد وجود أعمال مميزة سعت إلى طرح رؤية جمالية مثل"وجهة البوصلة"لنورة الغامدي وپ"الفردوس اليباب"لليلى الجهني، وپ"توبة وسلي"لمها الفيصل وپ"مسرى يا رقيب"لرجاء عالم. ومن الأمور اللافتة التي يتيحها كتاب"خطاب السرد النسائي"للقارئ، أنه يهيئ له فرصة التأمل في واحدة من محطات الكتابة الصعبة عند الكاتبة السعودية، وكيف تتحايل فيها الكاتبات على أعراف المجتمع وعاداته، التي تبدي تحفظاً وأحياناً ممانعة، في ما يخص اقتراف المرأة حرفة الكتابة، سعياً إلى التعبير عن ذاتها من خلال تقصي ملامح التحولات المجتمعية التي تطرأ عليها وتؤثر فيها.