توالي الإصدارات الروائية في السعودية، خلال السنوات القليلة المنصرمة، وتأسيسها تراكماً سواء على صعيد الكم أو الأساليب الروائية الجديدة، خلق ما يشبه الحراك في الساحة الثقافية، فنشط عدد غير قليل من النقاد في تأمل ودراسة لهذه النماذج الجديدة، وهي في معظمها لكتّاب شباب، ومحاولة تقديم كشوف واستخلاصات نقدية، تنظر إلى الرواية الجديدة، في مقارنة مع ما سبق أن صدر من أعمال في فترات زمنية مبكرة جداً، وفي ضوء التجارب الروائية العربية أيضاً. ويمكن القول ان الرواية السعودية الحديثة، خطت خطوات جيدة، فهي وفرت إلى حد ما، كمّاً روائياً يمكن الانطلاق منه، وبلورت كذلك عدداً من السمات والملامح الفنية، التي تمنحها فرادة وخصوصية. وحديثاً صدر كتاب "رجع البصر: قراءات في الرواية السعودية" للناقد حسن النعمي، نادي جدة الأدبي، وهو يرصد المنجز الروائي، وفق رؤية نقدية وجمالية متماسكة. والكتاب وإن بدا صغيراً 178 صفحة قطعاً صغيراً، غير انه يقدم مادة نقدية مكثفة عن الملامح والسمات الجمالية، التي حفلت بها الرواية في السعودية، مع الوقوف عند القضايا الجوهرية التي انشغلت بها. ولعل أول ما يلحظ المؤلف على هذه الرواية، هو انها بدأت إصلاحية وانتهت كاشفة ومتقاطعة مع الواقع. ويوضح أن الرواية التي بدأت إصلاحية، كانت فنياتها متواضعة، وبالتالي أقل حضوراً، على عكس الرواية التي شغلها البحث عن فهم تركيبة المجتمع، والتركيز على أزمة الفرد وقلقه في مجتمع محافظ، وهي اتسمت بالتطور في جمالياتها ورؤاها الفنية. في إحدى الدراسات، يتوقف الناقد عند بعض السمات التي يمكن المهتم ملاحظتها في الرواية السعودية، ومنها: "الرواية وأبناء القرى"، حيث يتأمل مقولة لوكاتش عن الرواية بصفتها ابنة المدينة، ومدى انطباقها على المنجز المحلي، وهل ثقافة المكان شرط في إنتاج الرواية؟ ويخلص من ذلك، الى ان هناك مفارقة صارخة، يلحظها من يتأمل المشهد الروائي المحلي وهي أن معظم الذين يكتبون الرواية هم من أبناء القرى، والذين يعيشون بوجدان قروي في المدينة، ويرى فيهم سدنة لقراهم أو "روائيين برسم قروي". ويطرح أن السبب في ذلك، يعود إلى أن سنوات الطفرة عجلت بنمو مناطق حضرية من حيث الشكل المادي فقط، فيما بقي السكان على عاداتهم وتقاليدهم القروية. ومما يلاحظه أيضاً من سمات، هو "غياب المجايلة"، إذ ان الصلة تكاد تكون منعدمة بين الأجيال، فالجيل التسعيني مثلاً، لا يعرف شيئاً عن الأجيال التي سبقته، وأن تجربة هذا الجيل تأخذ بأسباب التقنية الحديثة سواء في مستواها العربي أو العالمي. فليس من العسير أن تجد ظلال الواقعية السحرية لدى عبده خال، وليس مستبعداً أن تجد القلق الوجودي في روايات التعزي وتراوري وليلى الجهني. أي أن الحركة الروائية السعودية، منفتحة على عالم مرجعيته ليست الرواية التي كتبتها الأجيال السابقة. وحين ينادي الناقد بحق هؤلاء الروائيين، في الاستفادة من التجارب الروائية العربية والعالمية، فإنه يقرر ضرورة العودة إلى التجارب السابقة لمعرفة كيف تناولت بعض القضايا. ويتوقف المؤلف أيضاً عند غياب المكان، بصفته أحد ملامح الرواية السعودية الحديثة، فالمكان وعلى رغم كونه مسألة جوهرية في الكتابة السردية، إلا انه غير ملاحظ في الرواية المحلية، كما يذكر الناقد، وأن "المكان في معظم الروايات هو مجرد كولاج يضاف على الرواية في شكل آلي غير مؤثر في مسيرة الأحداث"، بل أن "استبداله بمكان آخر لا يغير من طبيعة الأحداث ولا طبائع الشخوص ومستوى التعبير اللغوي وبخاصة في الجمل الحوارية أو المونولوغ". واحد من شواغل الكتاب النقدية، تلمس خطاب الإقصاء والإحلال في الرواية النسوية. والخطاب المقصود هنا، ليس كيفية تقديم النص السردي، بل "تلك المضامين الفكرية والتقاطعات السياقية بين أكثر من معطى تاريخي أو ثقافي أو اجتماعي أو سياسي، وهي تؤثر في الممارسة الاجتماعية من ناحية، وفي المسلك الفردي من ناحية أخرى". ويجد هذا الخطاب في السرد، وفقاً للدراسة، بيئة ملائمة للاشتغال عبر آلية التخفي خلف المعلن والمصرح به. ومن صفات هذا الخطاب انه لا يشترط الوعي به، وهو ما توحي به الدلالة الكلية للنص السردي. وإنطلاقاً من هذا التعريف للخطاب، يرى أن المرأة في رواياتها تشتغل وفق خطاب مسبق يملي عليها تراكمات من جدل العلاقة بين الرجل والمرأة، والتي يهيمن فيها الرجل في السياسة والمجتمع. ويوضح المؤلف أن قراءة رواية المرأة من منظور الخطاب تتيح فرصة الوقوف عند نقطة استخدام الجمالي لتبرير مواقف مسبقة أو لجعلها الركيزة الأساسية في المقولة السردية النهائية في رواية المرأة "فالمرأة تكتب بحس الإدانة المسبقة للرجل، بحس الرغبة في التجاوز وكسر القيود، فتتحول كتابتها إلى نص مقاوم يفتقد أحياناً مبرر وجوده". "الكتابة السردية بين تنظير الروائي وتطبيقه: دراسة في روايات عبدالعزيز مشري" عنوان إحدى الدراسات المهمة التي ضمها كتاب "رجع البصر"، وفيها يتأمل الناقد الإنجاز الروائي للمشري، في ضوء آرائه وفلسفته التي ضمها كتاب "مكاشفات السيف والورد"، بغية كشف المنطلق النظري الذي يوجه مسار الكتابة السردية لدى الكاتب، وهو المنطلق الذي طبقه بوعي. ويخلص إلى أن المشري يؤكد نزعته الواقعية ويؤكد بإصرار زحزحته للغة عن شرط الجمال، وإحالتها إلى مادة هدفها التبليغ. ويأتي تتبع السمات المشتركة في روايتين لغازي القصيبي، من الشواغل الأساسية للمؤلف، الذي يقوم بدراسة روايتي "العصفورية" و"أبو شلاح البرمائي"، ويرى أنهما تتأسسان على بنية متماثلة، لا يمايز بينهما الا الخطاب، وأن كل عمل يتألف من شخصيتين تتحاوران وتدفعان الحكي باستمرار إلى الأمام. ويشير إلى ان بنية الحكي في العملين، تنطوي على استراتيجية رواية الشعر عبر اختلاف أحداث يمكن من خلالها توظيف الأبيات الشعرية مع رواية سيرة خيالية، لكثير من الشعراء غير ما هو معلوم عنهم. وينتهي المؤلف إلى أن الروايتين تتناصان سردياً مع التراث السردي بوضوح، "لكنه التناص الذي ليس عالة على المنجز التراثي، بل يعد تناصاً خلاقاً فيه خصوصية الاستخدام وتطوير الأدوات بما يتلاءم ومتطلبات السرد الحديث". ويتضمن الكتاب أيضاً قراءات متفرقة لعدد من الروايات، نتوقف عند قراءة في رواية "الطين"، لعبده خال، بصفتها واحدة من الروايات الخارجة على سياق الرواية السعودية، على صعيد التكنيك والفكرة واللغة. على أن طرافة الرواية تكمن وفقاً للناقد، في أن القارئ جزء من تركيبة الرواية، التي تقوم على فرضية وجود عالمين للإنسان، عالم له حضور مادي محسوس بالنسبة الى الآخرين، والآخر مادي محسوس له فقط. تتمثل معضلة البطل في الرواية، في أنه غير قادر على أن يبوح بذلك لأحد، الأمر الذي جعله يلجأ إلى طبيب نفساني ليساعده على فهم ظاهرة إمكان وجوده في مكانين مختلفين في وقت واحد. والرواية بذلك تؤسس لعلاقة تجمع بين عالمين، "نحسب أنهما لا يلتقيان، عالم الخيال وعالم الواقع، لتصبح العلاقة متداخلة إلى الحد الذي لا يمكن أن نفصل بينهما". وعليه فالروائي عبده خال نجح في أن يعبر بالرواية السعودية، من الظل إلى ظهيرة الإبداع، "ولنا أن نضع مع هذه الرواية نقطة، ونبدأ بالتأريخ الروائي الناضج".