تأتي هذه القراءة في ختام جلسات ملتقى جماعة حوار بنادي جدة الادبي الثقافي, ضمن محور خطاب السرد المحلي في رواية المرأة, حيث تمت قراءة خمس عشرة رواية, مثلت مراحل زمنية مختلفة بدءا من الكتابات الاولى لسميرة خاشقجي, وهدى الرشيد وهند باغفار, مرورا بكتابات رجاء عالم ونورة الغامدي وانتهاء بكتابات مها الفيصل ونداء ابو علي على سبيل المثال. وكما تباينت هذه الروايات في ازمنة صدورها, فقد تباينت في مستوياتها السردية من حيث مواكبتها لتقنيات السرد الحديثة. فتواضع روايات سميرة خاشقجي يبرره ضعف البدايات, وهو المبرر نفسه بالنسبة لروايات عبدالقدوس الانصاري والسباعي, والمغربي في الثلاثينيات الميلادية لقد تزامن اول ظهور لرواية المرأة مع بداية مرحلة النضج النسبي في الرواية السعودية على يد حامد دمنهوري خاصة في رواية ثمن التضحية الصادرة عام 1959م وروايات ابراهيم الناصر غير انه ثلاثين عاما يفرق بين اول صدور لرواية الرجل وبين رواية المرأة لم تنقذ المرأة من الوقوع في انكسارات البدايات, من حيث ضعف الاساليب وجفاف التقنيات. وقد كانت الروايات المنشورة منذ اوائل الستينات تسير في افق بعيد عن التطورات السردية في الرواية العربية الا استثناءات قليلة. ان الروايات الاخرى لم تكن كلها في درجة واحدة فقد تفاوتت بدورها. فهل غايات الكتابة لدى المرأة لم تكن روائية اصلا؟ بمعنى هل كانت الكتابة مجرد منبر تطرح من خلاله الكاتبات افكارهن دون الوقوع في مأزق مواجهة سلطة المجتمع؟ فالرواية تبدو في نظر المجتمعات المحافظة مجرد تسلية لايحفل بها احد ولا يؤخذ ما فيها مأخذ الجد. ام هل الكتابة سعي من المرأة لاستخدامها اداة لفضح خطاب الرجل المهيمن بثقافة الكتابة؟ ام هل الكتابة قيد اخر قيدت المرأة الكاتبة نفسها به عندما لم تستطع ان تستشرف قضايا خارج علاقتها بالرجل؟ هذه مدارات واسئلة جديرة بان يعاد النظر فيها من خلال ربطها بمفهوم الخطاب, حيث لا ينبغي عزل الكتابة النسائية عن واقع الثقافة التي تقع تحت هيمنة الرجل. I- ما الخطاب؟ الخطاب في علم السرديات هوكيفية تقديم النص السردي في مقابل الحكاية التي تعني بالمتن الموضوعي فهو هنا مفهوم اجرائي له علاقة بالجمالي وبالعلاقات الزمنية والفضاء الدلالي داخل السياق السردي. غير ان هناك مفهوما اخر تطور على يد ميشيل فوكو, وهو المفهوم الذي ينظر له على انه الحمولات الفكرية والتقاطعات السياقية بين اكثر من معطى تاريخي او ثقافي او اجتماعي او سياسي, حيث تؤثر هذه الحقول في الممارسة الاجتماعية من ناحية, وفي المسالك الفردي من ناحية اخرى. اضافة الى ذلك, يعني الخطاب بوصفه نظاما بتفكيك آلية اشتغال السلطة في مستواها الاجتماعي, مثل الابوية, مفترضا دائما ان الايديولوجية جزء من تركيبة الخطاب. فالخطاب لي محايدا, بل انه مؤطر باشكالات وتصورات متباينة, حيث يسعى الى تأكيد حضور نفوذه بوصفه خطابا منتجا للاختلاف رغبة في الهيمنة. ومن هنا يتأكد حضور الخطاب وفقا لآلية التخفي والاشتغال على ما يوحي بنقيض رغبته. ويجد الخطاب في السرد بيئة ملائمة للاشتغال عبر آلية التخفي خلف المعلن والمصرح به. كما ان الخطاب لا يشترط الوعي به. فمنطوقه ليس لغويا, بل هو عكس ما يظهر من التعبير الخارجي, انه ما توحي به الدلالة الكلية للنص السردي. ذلك ان الكتابة السردية قادرة على الايحاء بتعدد الاحتمالات واعطاء الانطباع بالظنية وعدم اليقين. فالسرد في نهاية المطاف اعادة تمثيل رمزي للواقع وليس انعكاسا للواقع, او تأسيس واقع مواز, بحيث يصبح حقلا خصبا لانتاج خطابات تتقاطع معه في اكثر من نقطة تماس. ان السرد بهذا المفهوم اقدر البيئات على منح الخطاب القدرة على فضح خطابات الواقع وتأسيس سلطة موازية تناهض سلطة الواقع. واذا كان الخطاب نظاما له اليات اشتغال متخفية, فانه يختلف عن هيكلية النص المتمثلة في الشكل والمضمون. فلا يتأسس بوصفه نقيضا للجمالي او مبغضا له, كما انه ليس مرادفا للمضمون الذي يعد معنى ظاهراوسطحيا. ان الخطاب بهذا المعنى صوت اقرب للحالة الميتافيزيقية التي تؤثر في وجودنا دون ان نشهد حضورها. وعليه لا يشترط الخطاب من اجل ان يعمل ان يكون هناك نص سردي عالي الجودة واخر ضعيف المستوى. انه نظام يحضر في اي نص سردي سواء كان مميزا او ضعيفا. غير ان ذائقتنا تعجز عن مقاربة الخطاب في النصوص الضعيفة كالنصوص التي قرأناها في هذا الملتقى, مع انها من اخطر النصوص من حيث خصوبة اشتغال الخطاب. فبقدر اهمية الجانب الجمالي بالنسبة لمتذوقي السرد, فان النص الضعيف بالنسبة للخطاب لا يقل اهمية عن النص الجيد. ومن هنا فان المرأة في رواياتها تشتغل وفق خطاب مسبق يملي عليها تراكمات من جدل العلاقة بين الرجل والمرأة. فالرجل هو المهيمن في السياسة والمجتمع, حتى بلغ الامر في بعض الخصوصيات الثقافية الى اقصاء هوية المرأة. فلا تدعى باسمها, بل تنسب الى ابنها لا الى ابنتها مثل نسبة الرجل الى ابنه دون ابنته. كما ان المرأة لا تتحدد ولاتعرف الا بالرجل, فهي زوجة فلان, وليس فلان زوجها. بل ان خطاب الثقافة الرسمي لا يفرق بين الزوج والزوجة. فالزوج لفظ موحد خال من التجنيس الانثوي, منحاز للتجنيس الذكوري. ان المرأة وهي تكتب روايتها تقف امام اهرامات من انحياز الثقافة للرجل. فهل بامكانها ان تنعتق من خصومتها مع الرجل؟ ستركز هذه الورقة على مفهوم الاقصاء والاحلال من زاويتين: الاولى, دلالة المكان, حضورا وغيابا, في رواية المرأة, والثانية, اقصاء الرجل وتنصيب المرأة. ونعتقد ان هاتين النقطتين, رغم وجود قضايا اخرى يمكن تناولها, تبدو اكثر الحاحا بالنسبة لتفكيك الخطاب الذي تتكئ عليه رواية المرأة. II. المكان: اقصاء المتن.. وتثبيت الهامش ازمة المرأة من المكان تبدأ من الواقع وتمتد الى المتخيل السردي. فهي تبدو محكومة بالمكان المغلق في اشتراطات ثقافية واجتماعية كبرت القناعات حولها حتى بدت هي القاعدة وما عداها الاستثناء. ان المكان المغلق حالة خاصة تتشكل وفقا لمواضعات اجتماعية, حيث تجد المرأة نفسها ملزمة بمراعاة شروط وجوده. ان عدم التصريح بالمكان او التصريح به على نحو يوحي بانتفاء النقائص عنه يحيله الى دلالة خطاب مناهض للسائد والمألوف والمتعارف عليه. فسلطة المكان المغلق تتجاوز الصيغة الى الخطاب الذي يسعى الى فتح قوسين للمرأة وكأنها زائدة نصية تخرج من حضور المتن الى هامش النص الاجتماعي. وهو ما يوحي بثنائية ضدية بين المرأة والمكان المغلق. فالمكان المغلق صنيعة ذكورية تتأكد بها الفواصل القاطعة بين عالمي الرجل والمرأة. لقد مررت هذه القناعات تجاه المكان المغلق تحت معايير مخادعة مثل معيار الخصوصية الاجتماعية للمرأة. وبهذا التحرز المفرط تم تكريس الاقصاء بالفصل بين عالمين, احدهما يحمل سمات التذكير, والاخر يتسم بالتأنيث. وتكرس هذا الاقصاء حتى غدا وجوبا لاتجوز فيه, بل وتقدس حتى غدا التفكير بخلافه تدنيسا للعرف الاجتماعي في التمسك بقناعة الخصوصية. وعليه, فان المكان المغلق في تأثيره ابعد من صيغته المادية, بحيث يشكل حالة ثقافية تضع المرأة في ظل الضوء لا في وهجه. ولذلك, فان احساس المرأة بالمكان يختلف عن الرجل. ففي حين يعيش الرجل في فضاء مفتوح, تعيش المرأة مأسورة باشتراطات المكان المغلق ثقافيا واجتماعيا. ومن هنا تأتي كتاباتها السردية لتنقلها من ظل المكان الى ارض تتخلص فيها من نفيها واقصائها. فهي تسعى من خلال كتابتها الى اقصاء التصور الواقعي للمكان, واحلال تصورها السردي المتخيل. فمن حيث الخطاب, لا يؤخذ غياب المكان عن رواية ما على انه نقيصة سردية جمالية, بل خطاب متخف غير واع يتجسد في تغييب المكان. فهل حققت لها كتابتها السردية قدرة على اختراق حجب المكان المغلق التي ظلت تطاردها حتى وهي تكتب خطابها وتفصح عن ازمتها؟ ان المرأة التي كتبت هذه الروايات هي سليلة واقع من الاقصاء بمفهومه الثقافي والاجتماعي. السؤال الآن, كيف كان تعاملها مع المكان سرديا؟ من اجل وضوح مقاربة المكانة هنا ينبغي التنبيه الى اننا نقصد بالمكان في صيغته الاجتماعية التي تنتسب اليه الكاتبة. ومن هنا يتحدد معيار الغياب والحضور من منظور الخطاب بعيدا عن القيمة الجمالية, بحيث يمكن تأويل الحضور والغياب على اساس من الدلالات المكتسبة. فيمكن ان نعد غياب المكان نقيصة سردية, لكننا في الغالب لانسال السؤال المضاد, وهو لماذا غاب المكان؟ ان سؤالا كهذا من شأنه ان يولد دلالة تكشف المستور وراء الخطاب. لقد ظهرت رواية المرأة حذرة في تسمية المكان حينا, ومتحفظة في احيان اخرى, ومغيبة له في حالات اخرى, بل وجريئة في احيان قليلة. لقد تجسد المكان في بعض الروايات من خلال ما يمكن ان نسميه (المكان البديل) الذي ياتي بوصفه بيئة سردية تعكس بيئة مناقضة للمرجعية الاجتماعية المتوقعة وفقا لانتماء الكاتبات. السؤال, لماذا يحضر المكان البديل؟ انه هنا من اجل ان يشتغل الخطاب بعيدا عن مفهوم المكان المغلق بصفته الاجتماعية التي تنتمي اليه الكاتبة, حيث تعالج رواية هدى الرشيد (غدا سيكون الخميس) احداثها خارج وطن الكاتبة, فهذه مشكلة المرأة في علاقتها بالرجل في مجتمع بدا انه لبنان, غير ان احالات المعالجة تتجه الى وطن الكاتبة. فلماذا لم يحضر المكان بصفته الاجتماعية؟ لقد حضر المكان بوصفه اداة وخلفية وحاضنا للاحداث, اكثر منه منتجا للاحداث. لا شك ان مفهوم عدم اقتراب الكاتبة من تعيين المكان وتسميته يبدو امرا منسجما مع ظروف الاقصاء والهيمنة التي تعاني منها المرأة في السياق الاجتماعي. غير ان هناك مفارقة لابد من التوقف عندها. ففي الوقت الذي تقيم فيه الكاتبة هدى الرشيد حوادث روايتها خارج وطنها, فانها في الوقت نفسه تستجيب لرغبتها الجموح في تحقيق ذاتها عندما تضع اسمها الرباعي على كامل الرواية. وهي بذلك تكسر التقاليد الادبية التي تكتفي في الغالب بالاشارة الى الاسم الاول واسم العائلة. وكأنها بذلك تؤكد صلات نسبها ومنطلقات جذورها, لتقول ان حوادث الرواية هي المكان نفسه الذي تنتمي اليه الكاتبة دون تصريح. اذا هو المكان البديل الملائم لتقديم خطابها في كيفية تقديم بيئة سردية تسمح بحرية العلاقات بين الرجل والمرأة التي تعتبر غير ممكنة في المكان المغلق. وهنا يحدث خطاب الاقصاء والاحلال بدرجة يجعلنا ننصرف الى التعبير عن هفوة فنية قد تكون حقيقية, غير انها وقعت بسبب الخطاب المتخفي الذي لاتشعر به الكاتبة فضلا عن انها تريد ان تقول فكرتها بأية طريقة. في رواية هند باغفار (البراءة المفقودة) يحضر المكان البديل بقوة ووضوح. ويصبح حضوره منتجا للاحداث فنفيه او استبداله بالمكان المغلق يلغي الرواية بكاملها. لان حوادث الرواية قامت على اساس المكان المفتوح الذي لايحد المرأة بحد. فاحداث الرواية تجري صراحة في محافظات مصر من خلال الهروب الدائم المرأة/غربة من جريمة قتل لم تقترفها, بل اقترفها رجل تحرش بامرأة اخرى. رغم ان الرواية في ظاهرها تعالج قصة عامة بحبكة بوليسية قوامها المطاردة والتخفي, فانه يمكن تأويلها الى ابعد من ذلك اذا نظر اليها ضمن آليات الخطاب في المكان البديل. ولعل ضرورة المكان البديل هنا ليس في مناقشة مدى علاقته بخصوصية مجتمع الكاتبة, بل انه يحضر رغبة في اتاحة حرية التنقل والحركة للمرأة الهاربة من قدرها/ غربة. ان الهروب هنا لايؤخذ في شكله البوليسي, بل في بعده الاجتماعي, فهو هروب من هيمنة الرجل/ الضابط المعني بتعقبها والاب الذي لم يتوقف عند امكانية السؤال عن براءة ابنته مطلقا. وحتى عندما وصلت الى براءتها لم تصل اليها بنفسها, بل بارادة جبارة من الرجل بصرف النظر عن اختلاف الدوافع من رجل الى آخر. فغربة واقعة بين ارادتين ذكوريتين, ارادة شريرة واخرى خيرة. فمصيرها يقرره الرجل سواء رضى عنها ام سخط. ونلاحظ ان الرجل هنا منتم للمكان المغلق حيث هو قاس واناني وجبار, وهي ذات الصفات التي نجدها على سبيل المثال في رواية ليلى الجهني (الفردوس اليباب) او رواية بهية بوسبيت (امرأة فوق فوهة بركان), على الرغم من ان هاتين الروايتين قد صرحتا بالمكان المغلق. وهو ما يوضح ان البيئة السردية في البراءة المفقودة مكان خطاب, وليس مجرد مكان جرت فيه حوادث سردية. ان اهم ما في هروب غربة انها استطاعت ان ترعى نفسها في احلك الظروف حراجة. ففي مجتمع الكاتبة تبدو محاولة الهروب وركوب القطارات والعمل في الفنادق والمستشفيات وممرضة في المنازل امورا فاقدة لاي مبرر فني. من هنا جاء الاستدلال على اقصاء المكان المغلق بصفته الاجتماعية التي تحد من حركة المرأة في ظروف كهذه, لتقول الخطاب المتخفي ان ازمة مثل ازمة غربة كانت ستكون مضاعفة لو حصلت في مكان محافظ لايتيح لها حرية التنقل بحثا عن دليل براءتها. فهي لم تستطع ان تعثر على دليل براءتها الا من اجل وجودها في المكان البديل الذي يتيح لها حرية الحركة, على عكس المكان المغلق الذي ربما يقودها الى حتفها. ان جدل الخطاب هنا واضح. فلكي تنقذ المرأة حياتها, بالمعنى المعنوي على الاقل, تحتاج الى مكان بديل. وبالتالي يمكن تأويل حوادث الرواية كلها الى اشكالية مكان ليس الا؟! واذا كان اقصاء المكان او عدم تبرير حضوره سرديا في هذه الروايات يبدو خاضعا لاسباب اجتماعية او لاخفاقات فنية, فان رجاء عالم في رواية (مسري يا رقيب) تشغل نفسها بالمكان الميتافيزيقي. فهي تهرب من واقعها الى واقع ما روائي, حيث تبدأ رحلة الخروج من شرطها الاجتماعي بتأسيس كتابة لا منتمية. قد لا تكون الاسباب نفسها هي التي حدت بالكاتبات الاخريات في التخفي خلف المكان البديل, او تسطيح حضوره الى اقصى مدى, هي الاسباب التي املت على رجاء عالم اختيارها. لقد كتبت رجاء لقارئ لايعيش مشكلا اجتماعيا, كتبت لقارئ يحتاج الى ان يعيش العوالم الميتافيزيقية اكثر من رغبته في التعايش مع الفن الذي يسائل الواقع ويستنبت منه جدوى الحياة. ان كتابتها من حيث قراءتها ضمن آليات خطاب الاقصاء, هي ايضاهروب آخر الى المكان البديل. فهي ليست في نهاية المطاف بعيدة عن مستوى الخطاب في الكتابات النسوية الاخرى. فالكاتبات اللاتي استخدمن تقنية المكان البديل لتمرير قناعاتهن بضرورة التغبير هن اكثر التحاما بالخطاب في مستواه الاجتماعي والثقافي. ولعل رواية (توبة وسلي) لمها الفيصل تنهج النهج نفسه فيمايتعلق بالاستغراق في المكان البديل, حيث تؤسس لمكان خارج الواقع, حدوده ذاكرة مثقلة بالرغبة في الخلاص من ضيق المكان الى رحابة الحياة. فاحداث الرواية تدور في فضاء مطلق لايختزل اي احالات اجتماعية مباشرة, رغبة في تأكيد كونية الفعل, متخذة من فكرة التطهر من اجتراح السيئات مدخلا للبحث عن الخلاص من القهر وفقدان الامل. ولتأكيد كونية التطهر يغيب المكان بمضمونه الواقعي المعاصر, ليحضر المكان المفرغ من اي دلالة واقعية ليصبح الخطاب كما توحي به الرواية غير احتجاجي, وغير تصادمي, منسجما مع التكوين الكلي للرواية. وتقدم رواية سلوى دمنهوري (اللعنة) ورواية حنان كتوعة (عندما ينطق الصمت) المكان دون تعيين واضح لهويته الاجتماعية. وامعانا في المفارقة فان المكان هنا ينتهك المكان المغلق عبر تقديم حوادث لاتنسجم مع مفهومه في تقييد الحركة, مثل انفتاح العلاقة بين الرجل والمرأة في العمل او في سياق العلاقات الاجتماعية, حيث تبدو حركة المرأة مفتوحة. فسمراء واسيل في رواية (عندما ينطلق الصمت) وغيرهن يعملن مع الرجل بشكل مباشر في مكتب للمحاماة. فهل هذه هفوة فنية من كاتبة مبتدئة؟ لاشك ان هذا تفسير منطقي وقريب الى التصور. غير ان الذهاب بعيدا باتجاه قراءة مضمون المكان يكشف ان الخطاب المتخفي نحو البحث عن المرأة التي لاتحدها قيود هو ذاته في كثير من الروايات النسائية. فقضية الخطاب لاتعترف دائما بالجمالي الذي هو مجرد قناع من الاقنعة التي تخفي حمولات الخطاب. كما ان طبيعة المهنة التي قدمتها الرواية تختزل قدرامن المفارقة في رواية لاتقدم ما يشفع لها جماليا. اذا لماذا كتابة روائية, فقيرة جماليا, لكنها خادعة في خطابها. ان ضعفها الجمالي هو تمرير لخطاب متخف يأخذ من الرواية ذريعة للبوح بالمسكوت عنه. فلا يظهر في رواية (عندما ينطق الصمت) اي تصريح بالمكان الا في سياق هامشي, عندما كانت تشير سمراء الى والدها في متابعته لفريق (العميد). وهي اشارة قد تنفي فكرة المكان البديل, غير انها تعزز فرضية الخطاب المتخفي. فاذا كانت هذه الاشارة دليلا على التصريح بالمكان, فان الرواية قد قدمت فضاء آخر خارج مفهوم المكان المغلق من حيث حرية الحركة التي تبدو منسجمة مع المكان البديل كما اوضحنا سابقا. كما ان شامل في رواية (اللعنة) يأتي بالمكان البديل الى بلده, حيث يصبح الاخر مركز الخطاب في الرواية. فشامل الذي نشأ وتعلم في امريكا وجعلت منه طبيبا مرهف الحس, يأتي الى بلده, الذي لم يكن معينا في الرواية بدقة, باحثا عن ماضيه. لكنه في نهاية الرواية وقد وجد المكان مهشما يقرر العودة الى امريكا حيث يجد الرجل الذي رباه وقد اسلم وهو يلفظ انفاسه الاخيرة. ما الذي يمكن ان نقرأه في ذلك؟ رواية المكان الذي حضرت فيه احداث الرواية مكان ملئ بالاوجاع, مكان يعيش افراده في ازمات اجتماعية ونفسية. فهذا عميد الاسرة الماحي المشلول, وهذه شروق المجروحة المكابرة, وهذا شامل بجروحة وقلقه يعجز عن التواؤم مع المكان. وعلى العكس فان ذاكرة المكان الاخر, وتربية الاخر بدت اكثر حيوية بالنسبة لشامل, وهو ما تنهي به الرواية منطوقها, انه الخطاب الذي يرى في شامل صنيعه الاخر منذ طفولته بعد وفاة واسرته في حادث سير. فهو يسير بعيدا نحو المكان البديل مرة في طفولته وهو غير واع, ومرة بعد ان عرف حقيقة المكان الذي كان البديل. وهي النتيجة نفسها التي تنتهي اليها رواية (مزامير من ورق) لنداء ابو علي, حيث يقرر مشاري العودة الى بريطانيا, مؤكدا عدم قدرته على التواؤم مع مجتمعه. اما رواية ليلى الجهني (الفردوس اليباب) فقدمت تجربتها بتسمية المكان (جدة), لكن الاهم ليس التسمية, بل ربط المكان بعمق ازمة المرأة في مقابل تسلط الرجل. فالمرأة ضحية خيانة الرجل الذي تركها بعد ان خدش احشاءها بجنين لم تجد بدا من البحث عن اجهاضه لتكشف المستور من ثقافة المكان الموسوم بالقداسة. وهنا تتجسد فرضية المكان البديل سرديا. فالمكان البديل هنا هو التصريح بالاسم مع كشف زيفه, فيتحقق مكان اخر تماما, مكان يمليه الخطاب اكثر من الضرورة الجمالية. فذات الفكرة القائمة على انتهاك حقوق المرأة يمكن ان تحقق في اي مدينة اخرى. ولذلك جدة ليست مقصودة لذاتها, بل بصفتها السردية. فجدة التي نعرفها, هي عكس المدينة التي قدمتها الرواية. فالاولى مدينة واقعية, والاخرى مدينة سردية جاءت بديلا للاولى وفقا لمقتضيات الخطاب وآليات اشتغاله. وهو الخطاب نفسه في رواية (مزامير من ورق) لنداء ابو علي, حيث تتجلى جدة سرديا في مواجهة مع علاقات صاخبة بين الجنسين في مكان ينكر خطابه الواقعي هذه الممارسة, لكن خطاب السرد يستبيح المكان المغلق عبر ترويج فكرة يرفض وقوعها المجتمع المحافظ. وهنا ياتي الخطاب ليقول قولته في نفي القداسة المزعومة بطريقة غير مباشرة.