أياً تكن الحوافز التي دفعت مديرية التعليم المصرية إلى منع كتاب "الأيام" في المدارس الثانوية في مصر، فهي تظل غير مبرّرة لا سيّما بعد مضيّ أكثر من خمس وسبعين سنة على صدوره. هذا الكتاب الذي شاءه طه حسين بمثابة سيرة ذاتية، نشأت عليه أجيال تلو أجيال، وعليه تعلم الكثيرون أصول الأدب وفن النثر الإبداعي. وكم يبدو منعه مجحفاً لا بحق عميد الأدب العربي فقط وإنما بحق الأجيال الآتية التي لن يتسنى لها اكتشاف هذا الكتاب الفريد على مقاعد الدراسة، والتعلم منه لغوياً وأدبياً وإنسانياً... لم يفت طبعاً مديرية التعليم أن الأزهر الذي كتب عنه طه حسين في الجزء الثاني من كتابه هو غير الأزهر اليوم، بل أزهر مطلع القرن المنصرم قبل أن يسيطر عليه النظام الصارم وتدخله المناهج الرصينة. حينذاك كان الفتى الأعمى يتنقل بحرية بين حلقة اللغة وحلقة الفقه والشعر والنثر. وكان يعتبر أن رحاب الأزهر هي المكان الوحيد الذي يجيد التنقل فيه وحده. لكن نقده الذي وجهه إلى إدارة الأزهر في"الأيام"الذي كتبه غداة"العاصفة"التي أحدثها كتابه الآخر"في الشعر الجاهلي"، كان ناجماً عن تبرّمه من انغلاق الأزهر على القديم وعدم انفتاحه على أي جديد أو حديث. وكان يخوض سجالاً مع شيوخ الأزهر عبر مقالات جريئة ينشرها في الصحف، منحازاً إلى الجامعة المصرية. هذه قضية كان يظن الجميع أنها أضحت من الماضي بعدما كُرِّس كتاب"الأيام"أدبياً واعتبر أول سيرة ذاتية يشهدها الأدب العربي، وبعدما استتبّ أيضاً"عصر طه حسين"بحسب عبارة الشاعر صلاح عبدالصبور، على رغم كل التهم التي كيلت له. ويبدو منع"الأيام"الذي جاء متأخراً جداً، ضرباً من العبث الذي بات يهيمن على الثقافة العربية المعاصرة. مثل هذا الكتاب يحتاجه التلامذة مثلما يحتاجه الأدباء أنفسهم والقرّاء عموماً."الأيام"إحدى ذرى الأدب العربي المعاصر ويمكن العرب أن يتباهوا به عالمياً، نظراً إلى فرادته وإلى الثورة التي أحدثها في تاريخ الأدب العربي وإلى البعد الإنساني العميق الذي تحلّى به من خلال مسألة العماء والتجليات التي تبدّت من خلالها. من لم يتتلمذ على"أيام"طه حسين؟ هذا الكتاب لا يُقرأ مرّة واحدة بل مرات ومرات وفي أعمار مختلفة. سيرة ذاتية تتوارى خلفها هذه"الأنا"التي تروي، بصراحة تامة، وقائع حياة لا تشبه الحياة، وحكاية ألمٍ طويل وصراع مرير مع العالم الذي يمكن وصفه ب"المجهول". لغة بديعة وأسلوب فيه الكثير من القوة والجمال، وعالم باهر ببراءته وغرابته وإلفته..."بطل"ليس كالأبطال يسرد تفاصيل حياته في بيئة فقيرة أو متوسطة لم يتواصل معها إلا بالسمع والشم واللمس. وعبر هذه الحواس والذاكرة استطاع هذا الفتى أن يلتقط صورة العالم. وما أجمل تلك الصفحات التي يتحدث فيها عن الكتّاب والبيت الصعيدي والسياج الذي كان يأسره والمزرعة والقناة... يصف الراوي ذلك العالم وكأنه يبصره، بل هو يغدو في أحيان أبرع من المبصرين في"تخيّل"ذلك العالم وتجسيده سردياً. هكذا كان لهذا الفتى أن يحفظ القرآن الكريم في التاسعة من عمره وأن يعكف لاحقاً على"ألفية"ابن مالك الحافلة بالصعاب، ناهيك ب"المتون"وقصص الغزوات والفتوح وأخبار عنترة والظاهر بيبرس... كلّ هذا قبل أن يقوده أشقاؤه إلى الأزهر. تبدو"الأنا"التي تروي وتسرد وتتذكر على قدْر كبير من الانسحاق. الكتابة الإملائية هنا تخلو من أي تبجح، أنها كتابة صادقة تمام الصدق وصريحة كل الصراحة. كتابة عارية إلا من الفتنة والبراعة والفن اللغوي. اعترافات جريئة طالعة من عمق التجربة الأليمة التي خاضها هذا الكاتب الكبير. فنّ طه حسين لا يضاهيه فن آخر وأدبه نسيج وحده، نسيج الذاكرة والمخيّلة محفوفتين بالأصوات والروائح والتلمسات والأفكار، الأفكار التي تطوف في ليل الوجدان. وصف طه حسين كتابه في المقدمة بأنه"حديث"أملاه في بعض أوقات الفراغ"، ويعترف أنه لم يكن يريد أن يصدره"في كتاب يقرأه الناس". ويقول:"إنما أمليته لأتخلّص من بعض الهموم الثقال والخواطر المحزنة التي كثيراً ما تعتري الناس بين حين وحين...". كتب طه حسين هذا الكتاب في حال من القلق. لم يكن يدرك سرّ عودته إلى ذكريات الصبا مستعيداً إياها في نصّ بهيّ، لم يكتبه لأحد، نصّ كتبه كي يتحدث إلى نفسه وينسى، كما يقول. ولم يفته أن المكفوفين الذين سيقرأون هذا"الحديث"بحسب تعبيره"سيرون فيه حياة صديق لهم في أيام الصبا". قال: سيرون، لم يقل: سيسمعون أو سيدركون. إنه هاجس البصر الذي انقلب هاجس بصيرة لدى هذا الكاتب الكبير، المتمرّد والثائر، الأصيل والحديث. فرادة كتاب"الأيام"لا تكمن في كونه يمثل أول سيرة ذاتية في الأدب العربي فقط، بل في كونه أيضاً من أجمل ما يمكن أن يُكتب في هذا الميدان. وقد زاد عماء طه حسين من بهاء هذه السيرة ومن جمال لغتها. كاتب في السابعة والثلاثين يواجه الطفل الأعمى الذي كانه، وعبر عماء هذا الطفل يواجه العالم ويحفر في اللغة صورة له، حزينة وقاسية، جميلة ولطيفة في آن واحد. لكن الكاتب الذي لم يبصر بعينيه أبصر جيداً ببصيرته، وعلى ضوئها تخيل الحروف والكلمات والجمل وكتب كما لو أنّه تحت شلال من النور. كتاب"الأيام"سيظل كتاب الأجيال المقبلة التي سيشتدّ هاجسها في البحث عن الضوء، وهل أجمل من الضوء الذي صاغ به طه حسين هذه"الأيام"المشرقة من أعماق القلب والذاكرة.