ما زلت أذكر تلك المتعة التي أثارها فينا كتاب «الأيام» عندما اكتشفناه للمرّة الأولى، تلامذةً على مقاعد الصفوف الابتدائية. كان هذا الكتاب بمثابة الحدث في حياتنا حينذاك، نحن التلامذة المقبلين على المراهقة، ورحنا نتبادل جزئيه الاثنين اللذين كان يحمل غلافهما رسمة للفتى الأعمى بجلبابه ويده الممدودة الى الأمام، وتحتها كتب اسم «دار المعارف» المصرية. هذه الطبعة التي كانت بلغت الخامسة والأربعين ما زلت أحتفظ بها حرصاً على الذكرى الجميلة التي يمثلها هذا الكتاب في حياة الفتى الذي كنته. كان الكتاب حينذاك من جزئين، ولم يصلني الجزء الثالث إلا بعد بضعة أعوام. وعندما قرأته لم أجد فيه المتعة التي ساورتني حين قراءتي الجزأين الأولين، بل لأقل الجزء الأوّل. فهذا الجزء الثالث بدا كأنه تتمة متأخرة ل «الأيام»، ان لم أخطئ. ولا أنسى البتة مطلع الكتاب الأول، الذي حفظت منه غيباً بضعة مقاطع، ما برحت تهزّني كلّما تذكّرتها او كلما قرأتها في النسخة القديمة نفسها. لا أنسى بتاتاً صورة السياج الذي كان يحول دون خروج الفتى الأعمى الى الناحية الأخرى، هناك حيث كانت الحياة تختلف، بضوئها وضوضائها. كان قصب السياج هذا أشبه بقضبان الزنزانة، وكان الفتى يحسد الأرانب، كما يروي الكاتب عن نفسه، التي كانت تتخطّاه «وثباً من فوقه، أو انسياباً بين قصبه». كان هذا السياج بقصبه وبما يخفي وراءه أول «جدار» رمزي يصطدم به الفتى الذي لم يكتشف الحياة إلا سمعاً أو بالأحرى استراقاً للأصوات على اختلاف منابتها، أصوات الطبيعة وأصوات الناس الذين لم يكن يرى وجوههم. كان كتاب «الأيام» نجمة أيام التلمذة التي عشناها. كان أستاذ العربيّة يجبرنا على اختيار المفردات الفريدة في الكتاب والتراكيب البديعة التي كان يبرع طه حسين في صوغها أو سبكها. وقد عمدت شخصياً الى تدوين كلّ المفردات والتراكيب والجمل التي كانت تستهويني، على دفتر راح يتسع كلما اتسعت دائرة الكتب التي كنت أكبّ على قراءتها بمتعة، اكتشفت لاحقاً أن الناقد الفرنسي رولان بارت كان خير من وصفها في كتابه «متعة النص» أو «لذة النص». وقادتني متعة «الأيام» الى اقتفاء خطى طه حسين، قارئاً مراهقاً يقبل على روايات هذا الكاتب الكبير وقصصه، ومنها ما لا أنساه أيضاً مثل: «دعاء الكروان» و «المعذبون في الأرض» و «الحب الضائع»... كان طه حسين روائياً وقاصاً في حسباننا حينذاك، فالمعلّم لم يشجعنا على قراءة بقية الكتب التي تُدرج عناوينها على الأغلفة الأخيرة وحجته أنها للأكبر سناً. وكان يميل الى «دعاء الكروان» وفي ظنه أنه أجمل ما أبدع طه حسين وأن لغته تبلغ فيها شأوها جمالاً وبلاغة ومتانة... ولم نكن نفهم جيداً ما يقوله عن أنّ كتب طه حسين لا مسوّدات لها، وكان يصفه بالكاتب العبقري الذي يكتب للفور دون أن يسوّد... تذكّرت طه حسين أخيراً عندما أشيع خبر «الأيام» في القاهرة، وقيل ان هذا الكتاب سيُمنع عن تلامذة الصفوف الثانوية في مصر. لكن الخبر «السيِّئ» هذا بدا أقرب الى الإشاعة، والأمل أن يظل هكذا. هل يمكن تصوّر التلامذة المصريين محرومين أو ممنوعين من قراءة «الأيام»؟ ألا تعلم وزارة التربية والتعليم في مصر أن الإقدام على «فعلة» كهذه هو فعل شائن ومعيب لا يمكن تقبّله؟ كتاب «الأيام» الذي نشأت عليه أجيال وأجيال أمسى الآن في موقع الشبهة، وأيّ شبهة؟ لو انهم اختاروا كتباً أخرى لطه حسين، تخيفهم ويخافونها، لكان ممكناً تصديق «فعلتهم»... فهذا الكاتب خطير، وما برح خطيراً، في فكره التنويري والنقدي الجذّري. وما زال المحافظون والتقليديون والسلفيون غير قادرين على قراءته، وعلى الاعتراف به وبريادته. أمّا ان يمنع كتاب «الأيام» فهي لَطَامة كبرى، كما يقول العرب. وأما الذريعة فهي واهية جداً، ولا يمكن أخذها إلا افتئاتاً أو تحاملاً على الأدب وليس على «الأيام» وصاحبها فقط. ولعلّ الداعين الى المنع يعلمون أن طه حسين لم يتعرّض لشيوخ الأزهر بعامة، بل لأساتذته الأزهريين الذين وصفهم بأنهم «لا يقرأون ولا يكتبون ولكنهم كانوا يفتون الناس في أمور دينهم ودنياهم». وكم كان يؤلمه عندما كان يدرس عليهم، أن يسمع بعضهم ينادونه بقسوة وعنت، محقّرين إياه جهاراً قائلين له: «أقبل يا أعمى» أو «انصرف يا أعمى» و «اسكت يا أعمى». الأمل أن تظل اشاعة منع «الأيام» اشاعة، وإلا فسيكون المنع كارثة، بل أبشع كارثة حلّت على مصر... هذا الكتاب الذي دخل حياة القراء المصريين والعرب أصبح ملكهم ولم يعد وقفاً على وزارة أو دولة أو جهة أو ورثة. هذا كتاب لا يمكن أحداً أن يتلاعب به أو يتجرأ عليه. إنه واحد من كنوز اللغة العربية التي يجب الحفاظ عليها وصونها من الأيدي العابثة، وما أكثرها.