كان طه حسين - رحمه الله - وهو الأعمى بصرا؛ لا بصيرة، محاصرا ببحر من الظلمات، ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمات تراكمت عبر قرون وقرون من الانحطاط العربي الإسلامي، الذي أنتجته ثقافة التقليد الأعمى، وتقديس الموروث، ووأد محاولات الإبداع في مهدها، بدعوى أنها محاولات ابتداع. كان قدره الذي صنعه بنفسه، أن يخوض هذا البحر الحالك الظلمة، مزودا ببصيرة مستنيرة، لم يتمتع بمثلها المبصرون، بصيرة تؤمن أيما إيمان، بقدرتها على تحويل هذه الظلمات - بقوة وفاعلية ثقافة الاستنارة - إلى عالم من الأنوار، تزول به الغمة عن هذه الأمة؛ كما يقول التقليديون !. كان طه حسين، كأبيه الروحي: أبي العلاء المعري، ضريرا. والمعري رأى هذا العمى الحضاري من قبل فقال ساخرا: وبصير الأقوام مثلي أعمى فهلمُّوا في حندس نتصادم كلاهما لم يولد بهذه الآفة؛ كما يسميها طه حسين، وإنما جاءت بعد سنوات معدودة من الإبصار. المعري فقد بصره نتيجة إصابته بالجدري في الرابعة من عمره. وكذا طه حسين فقد جوهرتيه المضيئتين وهو لم يتم السادسة. لقد فقدهما؛ بعد أن مرض في عينيه، وأهمله أهله أياما؛ بفعل ثقافة الإهمال التي لا تنفك عن ثقافة التناسل الفئراني، الذي جعله واحدا من بين ثلاثة عشر ولدا؛ من بنين وبنات. انتبه أهله له بعد إهمال، ولكن كيف ؟. لقد قاموا باستدعاء ( الطبيب ! ) العام، الطبيب الذي تخرج في ( جامعة ! ) القرون الوسطى الإسلامية / بحر الظلمات، حيث قام هذا ( الطبيب = حلاّق القرية ) بعلاجهما من مرض بسيط، فتسبب في إطفائهما إلى الأبد. السبب الذي أحال الضياء في عيني الصبي: طه حسين إلى ظلام، هو السبب نفسه الذي أحال الأمة إلى أن تقبع - راضية مغتبطة - في بحر الظلمات. وهذا ما أدركه طه حسين بعمق. لقد وعى - على أكثر من مستوى - أن ظلمات الجهل والفقر والتخلف التي أفقدته بصره، هي ذاتها التي أفقدت الأمة بصيرتها؛ فتاهت في غياهب التخلف والانحطاط. لولا غياب ثقافة العقل، ورواج ثقافة الخرافة، وما أشبه الخرافة؛ لكانت الأمة ذات بصيرة؛ تعصمها من التخبط والحيرة، ولما فقد طه حسين بصره أيضا، فأصبحت مأساته متجسدة في بعدين: خاص وعام. ما العلاقة بين ( بصر ) طه حسين و( بصيرة ) الأمة ؟. كان طه حسين واعيا بأبعاد مأساته، أو آفته كما يقول. تأثير العمى عليه كان عميقا، كما هو الحال لدى شيخ معرة النعمان، وإن اختلفت ردود الأفعال. طه حسين تألم لمصيبته في بصره أيما تألم، وإن كان بصمت في معظم الأحوال. والمعري اعتبر العمى أحد السجون الثلاثة، ولا تسأل عن الخبر النبيث !. طه حسين والمعري، كلاهما لم يكن العمى الذي أصابهما قدرا محتوما، وُلدا به، وإنما كان نتيجة عارض صحي ما. أي أنهما يحسان في أعماقهما، أنهما كان من المفترض أن يكونا مبصرين؛ لأنهما خلقا مبصرين، ولكنهما - الآن - ليسا كذلك . كيف يستعيد طه حسين بصره الذي اختطفه بحر الظلمات؛ كما اختطف أرواح ملايين البشر ؟. لقد أدرك طه حسين أن عودة بصره مستحيلة، ولكنه - وهنا الفارق الجوهري بينه وبين غيره من العميان - أدرك أنه قادر على خلق بصيرته بيديه. ولأن العمى الخاص، كان هو المعادل الموضوعي لعمى الأمة، وغرقها في مستنقع التقليد والخرافة ومعاداة العقل، فسيصبح التأسيس المعرفي لثقافة الاستنارة في الأمة - شعر طه حسين بذلك على مستوى الوعي، أم لم يشعر - هو المعادل الموضوعي لاسترداده بصره المفقود / بصيرة الأمة . هكذا تحولت المأساة الخاصة: العمى، إلى أداة للوعي الحاد بالمأساة العامة: عمى الأمة / انحطاطها. سيستعيد طه حسين بصره، بإرادته الفولاذية، عن طريق استعادة الأمة بصيرتها بفعل استنبات الخطاب التنويري في واقعها. ومن هنا، سيصبح كل مقال تنويري، وكل كتاب عقلاني، وكل مشروع ثقافي، مساحة من الضوء، تنفذ إلى بصر الضرير: طه حسين. سيبصر طه حسين، ولكن ليس عن طريق عينيه المطفأتين الشاهدتين على جريمة حلاّق القرية (= وعي الأمة )، وإنما سيبصر عن طريق ملايين العقول المضيئة التي سيصنعها بقوة العقل، والتي ستتكفل بمحاولة شبه مستحيلة، ولكنها ممكنة، تتعمد خلق قوة الإبصار / الاستبصار، في العقول، لا في العيون . إنها النفس الإنسانية العظيمة، التي كانت تنطوي عليها جوانح هذا العصامي الضرير البصير. نفس تتسع للإنسانية جمعاء، نفس تتجاوز مشاعر الحسد، إلى مراتب التضحية والإيثار. بعض العميان، تنقلب مأساته الخاصة إلى حسد شامل للمبصرين، فيعمد - جراء هذا الحسد - إلى التأسيس لثقافة متخلفة متعصبة، تنشر العمى العام، وتفسح المجال لمحاولات إطفاء خيوط النور التي تتسلل إلى عقول الأمة الواعدة؛ من أجل أن يشاركه الجميع عمى البصيرة، بعد أن عجز عن جعلهم يشاركونه عمى الإبصار . إذن، طه حسين الأعمى، ليس إلا نتيجة مادية - ومعنوية أيضا - لانتشار ثقافة عمياء، هيمنت على وعي أمة بأكملها، وامتدت لقرون، حتى أصبحت وكأنها القدر الذي لا فكاك منه. طه حسين سيتحدى هذه الثقافة المهيمنة، رغم أنه ولد بمقومات اجتماعية واقتصادية، لا تساعده على خوض هذا التحدي. الكثرة تغلب الشجاعة. هذا مثل عربي قديم راسخ، وقد يكون صحيحا. لكنه سيصبح - بقوة طه حسين العقلية وشجاعته وتضحياته - مثلا غير صحيح. الجهل، والتخلف، والفقر، والمرض، وثقافة التقليد، وسياقات الاستبداد، جبهات واسعة، سيحارب طه حسين عليها جميعا؛ لأنه كان في يوم من الأيام ضحيتها الظلام المتسلل منها. وهذا ما سيجعله أكثر وعي بها من غيره، أي من أولئك الذين لم يكتووا بنارها التي لا تبقي ولا تذر. لم يخرج هذا الرجل من قصر من قصور القاهرة، بل ولا من منزل من منازلها المتواضعة، وإنما خرج من أدغال الصعيد، من محافظة: المنيا، حيث تمور ثقافة التقليد والجهل والتعصب فيها مورا. هذا الرجل الرائد، الذي لم تصل طاقتنا التنويرية اليوم، ونحن في القرن الواحد والعشرين إلى تخوم بحره الزاخر، ولد في أواخر القرن التاسع عشر، وبالتحديد عام 1989م. ولك أن تتخيل الصعيد قبل مئة وعشرين عاما من الآن، ولك أن تتخيل صبيا في أسرة فقيرة من ثلاثة عشر ولدا، يخرج كالمارد من قمقمه، متجاوزا كل هذه العقبات، ويعبرها إلى الشاطئ الآخر، إلى مهد الأنوار، إلى باريس، إلى: السوربون . السياق الطبيعي لطه حسين كان لا يتجاوز به أن يكون معلم كتاتيب في قريته، بعد أن يعود من جامعه العتيد. لقد كان والده موظفا صغيرا في شركة السكر. وربما كانت هذه الوظيفة قادرة على إعالة أسرة من فردين أو ثلاثة بالكاد !. لكن، ولأن ثقافة التقليد والجهل هي التي تتحكم في سلوكيات الناس، فقد تزوج هذا الأب بزوجتين، وأنجب ثلاثة عشر ولدا، من بنين وبنات. هذا الأب الأحمق، الذي لم يكن حمقه نتيجة حالة عقلية خاصة، وإنما كان فردا من مجموع، يمثل تمظهرا متعينا لثقافة جاهلية حمقاء. هذا الأب الفقير، ينجب هذا العدد، مع أنه يعي أنه محدود الدخل بحدود مرتب الوظيفة المتواضع. وتكون النتيجة / المأساة، مزيدا من الإهمال، يتناسب طرديا مع زيادة عدد الأبناء . وعى طه حسن هذه المأساة، وأدرك عمق الكارثة. ولهذا لم ينجب إلا ولدا واحدا، رغم أنه كان أوسع مالا وجاها ومجالا من أبيه؛ بمراحل لا تقاس. الفقر المدقع، والقرية الجاهلة، والأب الأحمق، والأسرة المتشظية، كلها كانت بمثابة حصار اجتماعي على طه حسين. لكنه رفض الاستسلام. بل وجابه هذا الحصار بالتحدي الذي سيزعزع - فيما بعد - بنية هذا النظام التقليدي البائس . بعثه والده إلى كتاتيب القرية، التي لا تختلف كثيرا عن النظام التعليمي في عالمنا العربي اليوم، إلا في نوعية الأبنية والأثاث؛ لأن الثقافة التي تحكمها، هي هي ثقافة التقليد ذاتها، ولا تزال. حفظ القرآن الكريم، قبل أن يكمل عامه التاسع. وكان هذا ممهدا له؛ ليكون مشروع شيخ أزهري واعد. وهذا ما كان، أو ما كان في البداية، تلك البداية التي تمرد عليها الشيخ: طه حسين . عام 1902م التحق بالأزهر، بصحبة أخيه الأكبر. ودرس على شيوخ الأزهر لسنوات، في المكان الذي أفنى القرون جداره؛ كما يقول أحمد شوقي. درس النحو والبلاغة والفقه، ومن ثم الأدب. وبدأ عقله يجول في عالم تقليدي، متخم بكتب الأوائل، وبالشروح، وبشروح الشروح، وبالتعليقات، وبالنكت على التعليقات. كانت ثقافة الأزهر التقليدية التلقينية، تعني الصمت، والإنصات، وعدم الاعتراض على الشيوخ، فضلا عن انتقادهم. كانوا كما قال المعري منتقدا: تلوا باطلا وجلوا صارما وقالوا صدقنا فقلتم نعم أفيقوا فإن أحاديثهم ضعاف القواعد والمدّعم زخارف ما ثبتت في العقو ل عمىّ عليكم بهنّ المُعم هذه الزخارف التي لم تثبت في العقول؛ لم تكن شخصية طه حسين لتقبلها. فكان دائما الاعتراض والسؤال والانتقاد. إثارة الأسئلة، وابتكار الاعتراضات، وإحراج سدنة التقليد، وعدم تقديس الأوائل، كلها كانت سلوكيات، ممهدة لغضب الأزهر عليه، ومن ثم، غضبه الدائم الذي لم يهدأ على الأزهر. وجراء هذه السلوكيات؛ طرده الشيخ الأكبر للأزهر: حسونة النواوي، ولم يعد، إلا بعد أن توسط له لطفي السيد، الرجل الذي سيقف معه بعد ذلك في كثير من المواجهات . في هذه الأثناء، وبينما كان طه حسين متنقلا في أروقة الأزهر من شيخ إلى شيخ، ومن حلقة للعلم التقليدي إلى حلقة، كان يتسلل - بعقله - إلى خارج الأزهر، ويبحث عن شيء مختلف. وقد وجد في الجرائد ثقافة أخرى، غير ثقافة الأزهر. وكان الأزهريون يحتقرون الجرائد وأهل الجرائد، ويعدونهم - كما ينقل طه حسين - من المشتغلين بالقشور، بينما هم - أي الأزهريون - لا يهمهم إلا اللباب ! . كانت الجرائد في مصر آنذاك، تتمتع بمستوى من الحرية لا تحلم به بلدان العالم العربي، ولم تتمتع به إلى الآن. كانت مصر تحت الانتداب البريطاني، وكانت الحريات ضمن حدود هذا السقف. ولهذا كانت تعج بمختلف الرؤى والأفكار، سواء التي تكتب بأقلام كتابها ابتداء، أو تلك التي ينقلها المترجمون عن ثقافة ما وراء البحار. وكان طه حسين يقرأ كل ذلك، ويقارنه بما يتلقاه في أروقة الأزهر. ولم تزده هذه المقارنة إلا ازدراء عميقا، واحتقارا شاملا للأزهر والأزهريين. وكلما زاد اطلاعه، زاد نفوره من الأزهر، ووعيه بخطورة ثقافة التقليد . بقي طه حسين متأرجحا بين عالمين مختلفين: عالم الأزهر، وعالم الثقافة المعاصرة خارج الأزهر، حيث قرأ كتابات قاسم أمين - رحمه الله، ومترجمات فتحي زغلول. كان آنذاك يدعى ب: الشيخ طه، وكان معمما، كبقية الأزهريين. ولكن الانحراف عن الأزهر بدا واضحا، فيما يكتبه من مقالات في الجرائد، شجعه على ذلك عبد العزيز جاويش، و لطفي السيد، رئيس تحرير جريدة: (الجريدة) . لكن، بينما كان طه حسين يشاغب شيوخه في الأزهر، ويكتب المقالات التي تعد انقلابا عليهم، حدث حادث كبير في سياقه، إذ يعد هذا الحدث تطورا نوعيا في الثقافة المصرية. كان هذا الحدث يتمثل في افتتاح الجامعة المصرية، جامعة القاهرة، التي كانت تسمى جامعة: فؤاد. كان افتتاحها عام 1908م ذا تأثير عميق على مسيرة الثقافة والتعليم في مصر، ولكنه كان أشد تأثيرا، وأعمق أثرا على الشيخ: طه حسين، مع أنه لم يكن في البداية من أبنائها، وإنما كان من أبناء المنافس التقليدي: الأزهر . عندما افتتحت الجامعة، كان يدرس فيها كبار المستشرقين، من المهتمين بلغات وثقافات الشرق عموما، وباللغة العربية وثقافتها خصوصا. وقد أريد للجامعة التي بدأت أهلية، أن تكون مركز إشعاع تنويري، تلتقي فيه أطياف الثقافات، وتتجاور فيه آداب الأمم جميعا. أريد للجامعة أن تكون ثقافة نوع، وليس ثقافة كم، أريد لها أن تكون شيئا آخر مختلفا، وألا تكون مجرد إعادة إنتاج لثقافة التقليد، تلك الثقافة التي ترك للأزهر امتياز إنتاجها . بدأ طه حسين الأزهري يتسلل إلى الجامعة، ويسمع فيها لثقافة مختلفة، ثقافة المطربشين، لا المعممين. حضر دروسا في الحضارة الإسلامية، والحضارة المصرية القديمة: الفرعونية، ودروسا في الأدب، والتاريخ، والجغرافيا، واللغات السامية، والأدب الغربي، وتاريخ الفلسفة الإسلامية، وتاريخ الشرق القديم. وكل هذا على يد كبار العلماء في هذه الفنون. وبهذا سمع طه حسين - كما يقول - بما لم يتوقع أنه موجود. وانبهر بهذا العالم الزاخر بالعلوم الحية، وبدرجة العقلنة التي تتسم بها مناهج البحث في كل ذلك