كان طه حسين في السابعة والثلاثين عندما كتب سيرته الذاتية في "الأيام". في هذه السنّ نادراً ما يكتب الأدباء سيرهم، إذ يفترض هذا النوع من الكتابة أن يكون الأديب بلغ من العمر شأواً. لكن طه حسين الذي كان خارجاً لتوّه من معركة كتابه "في الشعر الجاهلي" لا منتصراً ولا مهزوماً، شاء أن يكتب الجزء الأول من سيرته "البائسة" من خلال الضمير الغائب لا المتكلّم. جعل من الفتى الذي كانه شخصية روائية اختصرها في "الهو" الذي يسمّيه "صاحبنا" في أحيان. لكنه أدرك أنّه لا يكتب رواية بل نصّاً يشبه الرواية والسيرة الذاتية في الحين عينه. وكان هذا الكتاب فاتحة لأدب جديد ليس من حيث النوع وانما من حيث الأسلوب والجوهر، جوهر التجربة التي عاشها طه حسين وسط ليله الطويل. أكثر ما يربك في أدب طه حسين كونه أدباً مملّياً وليس مكتوباً. إنه أدب بلا مسوّدة، أدب ملفوظ بالفم وليس مكتوباً بالقلم. هذا قدر الأدباء العميان على مرّ التاريخ. لكنّ أدب طه حسين يبدو في معظمه كأنّه مصوغ بالقلم مرّة تلو مرة، بل وكأنه طالع من أكثر من مسوّدة أعمل الكاتب فيها قلمه ببراعة. ربما هنا يكمن سرّ طه حسين الأديب: لغة تتمرّد على ذاكرتها لتخلق نفسها من جديد وأسلوب يتخطى الأرث البلاغي لينساب ويرقّ مرتكزاً على عمق هو عمق التجربة المأسويّة المختمرة في سريرة الكاتب الأعمى. يحار قارئ طه حسين حيال قدرته الفائقة في التصرّف باللغة، في تشذيبها وموسقتها، في بناء جملها المتوازية وتدويرها ووصلها حتى لتصبح مقطعاً طويلاً ولكن خلواً من الركاكة والحشو بل هو يظل ينساب بوقعه اللطيف وجماليته الأنيقة. وان كان طه حسين من أوائل المتمردين على إرث المقلب الأول من عصر النهضة بما وسمه من رطانة واصطناع وإطناب، فهو لم يقع في شرك الإنشاء البلاغي ولا البرناسية الجوفاء والحذلقة. لغته المبتكرة التي استطاعت أن تحافظ على ألقها ونضارتها انما يكمن سرّها في كونها لغة سرية ومكشوفة في آن واحد: انها اللغة التي "تتراسل" فيها الحواس ولا سيّما السمع الذي يحلّ محلّ البصر وكذلك الشمّ واللمس. وقد تغيب الصور عن أدب طه حسين بعض الغياب على غرار الأدب المكفوف، وهذا ما لمسه عميد الأدب العربي في نتاج صديقه أبي العلاء المعرّي، لكنه لن ينثني عن وصف وجهه مثلاً عبر لمسه قائلاً في "الأيام": "لا تظهر على وجهه هذه الظلمة التي تغشى عادة وجوه المكفوفين". هنا يسعى طه حسين الى أن يكون مبصراً، لا بالحواس الأخرى فقط وانما ببصيرته التي كان لها فعل المعجزة. هذا السرّ أدركه أندريه جيد الكاتب الفرنسي، صديق صاحب "الأيام" عندما قال عنه: "انتصار صبور للضوء الروحاني على الظلمات". أغرب ما في طه حسين قدرته على أن يكون كلاسيكياً ومعاصراً، محافظاً وحديثاً، أزهرياً وغربياً أو فرنسياً. هكذا كان منذ بداياته وهكذا ظلّ في النهايات. وقراؤه بالأمس واليوم وغداً سيظلون يحارون إزاء هذه الطبيعة الجدلية لديه. فالفتى الذي حفظ القرآن في التاسعة من عمره لم يغادر ذاكرته الاعجاز القرآني يوماً. والشاب الذي أقبل على آداب الفرنسية بنهم وفضول ظلّ فرنسي الهوى حتى عندما اعتنق "العروبة المصرية" التي كان له فيها نظرة متفردة. يقول جبرا ابراهيم جبرا فيه انه "أول المحدثين في الأدب العربي المعاصر". أما صلاح عبدالصبور الذي يعترف ب"عصر طه حسين" وبأستاذيته فيرى أن "كثيراً من كتب طه حسين لن يقرأه الجيل القادم" وأن "قصصه متخلفة عن العصر". ظلّ طه حسين مثار سجال منذ أن أصدر كتابه "في الشعر الجاهلي" ولا يزال السجال حوله قائماً حتى بعد رحيله. اتهم بالإلحاد والتجديف والمجون والاستهتار. وقال عنه البعض أنه شوّه التاريخ الإسلامي. أما هو فكان يواجه الحملات المغرضة ضدّه بذكاء تام وربما بما يشبه التحايل، يلين تارة ويقسو تارة، يتراجع حيناً ويهاجم حيناً. مهما بدت روايات طه حسين الآن "قديمة" بعد أن تجاوزتها الرواية الحديثة فهي تظلّ من نتاج البدايات في ما تعني البدايات من دأب وجهد وتأسيس. ويعدّ بعض النقاد طه حسين سبّاقاً في تأسيس المرحلة الأولى من عصر الرواية العربية. صحيح أن روايات طه حسين تخلو من البعد التقني الذي قامت عليه الرواية ومن الشروط أو المقاييس التي يفترضها الصنيع الروائي لكنها لم تخلُ أبداً من النسيج الروائي البديع ومن اللغة النثرية الفاتنة التي تكاد تكون من السهل الممتنع، وربما من الصعب الممتنع، كونها سليلة اللغة القرآنية ولغة الجاحظ بامتياز ولكن عبر الانفتاح على الحداثة التي عرفها طه حسين في آداب الفرنسية. ولم تخل روايات مثل "دعاء الكروان" و"الحب الضائع" و"شجرة البؤس" من متعة القراءة التي ما برحت تخالج القارئ كلما أكبّ عليها. وهذه المتعة التي يحفل بها نتاج طه حسين ككل لم تبق متوافرة في الأعمال الروائية المعاصرة التي تخطت فن النثر وسحر الصوغ والنسج وبهاء الأسلوب، منصرفة الى لغة الحياة ببداهتها وعفويتها. تقرأ روايات طه حسين كما لو أنها نتاج البدايات، ولكن البدايات التي يستحيل عليها أن تنتهي مهما تجاوزها الزمن. انها روايات لا بدّ من العودة اليها بحثاً عن متعة نادرة أولاً ثمّ سعياً وراء أسرار اللغة الجميلة التي لم يعد يتقنها إلا قلة قليلة من أهل القلم. ناهيك طبعاً بالمواقف والمشاهد والشخصيات التي تعج بها روايات طه حسين وهي وليدة عالمه الخاص الذي كان يتلقفه بسمعه وبصيرته! مَن يقرأ طه حسين مرة ويكتشف "المتعة" الكامنة في أدبه الروائي يشعر أن هذه المتعة لا تفارقه كلما عاد الى رواياته. هكذا يقرأ اليوم طه حسين مثلما كان يقرأ في المراحل الأولى، مراحل التكون والتمرس. وإن كانت رواياته تنتمي الى الأدب الروائي أو الانشاء الروائي فهي تظلّ أعمالاً كلاسيكية، دافئة وحميمة وفيها الكثير من الشجن والأسى ومن اللطافة والفطرية، ومن المهارة والرقة. ويكفي طه حسين أن يكتب "الأيام" لتكون السيرة الذاتية مدخلاً الى رواية تزاوج بين السرد والبوح العميق وتجعل "الآخر" الذي "هو" أو صاحبنا "أنا" ولكن متوارياً وراء قناع الذات والماضي. ليت طه حسين الذي تخبّط في ليل العالم وليل الروح كتب المزيد من "الأيام" منفتحاً على شمس الحواسّ والأدب واللغة.