ذات يوم أحد وجدت مع جريدة "الاوبزرفر" اللندنية كتاباً صغيراً عنوانه "العبقرية"، واعتقدت بما أطوي الجوانح عليه من تواضع جم ان الكتاب يتحدث عني، إلا أنني وجدته يتحدث عن كل الناس باستثنائي، وأخذت أجمع معلومات من مصادر أخرى لأكتب عن الموضوع، ثم توقفت وأنا أفكر أنني عربي يكتب لعرب، والغباء عندنا بحر في مقابل بركة ضحلة من الذكاء، وقررت في النهاية أن أكتب عن العبقرية، ثم أكمل بالغباء. أقول صادقاً انني لا أتمنى أن يقال عني انني عبقري، فالعبقري انسان لا يعرف كيف يكسب رزقه، لذلك فحاجته الأولى هي الى أخ غبي يعيله. كذلك لا أتمنى لامرأة أن تكون عبقرية، لأنه كلما زاد ذكاؤها أدركت كم هي مظلومة مع الرجل. كتاب "العبقرية" يتحدث عن ماري كوري التي ربما كانت أذكى نساء التاريخ الحديث. هي ولدت في بولندا، وذهبت الى فرنسا للحصول على دكتوراه في الفيزياء، وهناك تعرفت إلى زوجها بيار كوري الذي حملت اسمه، واكتشف الزوجان عنصرين سميا أحدهما بولونيوم من بولندا بلدها والآخر راديوم، من الاشعاعات المرافقة. ونال الزوجان جائزة نوبل في الفيزياء معاً سنة 1903، ونالت وحدها جائزة نوبل في الكيمياء لتصبح أول من نال جائزتي نوبل، والوحيدة حتى الآن بين الرجال والنساء في الفوز بالجائزة عن علمين مختلفين. الكتاب لم يضم عبقرياً من العرب سوى نجيب محفوظ الذي كتبت عنه نادين غورديمر، الفائزة بجائزة الأدب سنة 1995، انه عبقري بموجب مبدأ ميلان كونديرا، الكاتب التشيكي المشهور الذي يقول ان الروائي لا يعطي أجوبة وانما يوجه أسئلة. وقرأت عن مجلة اسمها علم النفس السياسي، ففي المجلد 27 والعدد الرابع الذي يحمل تاريخ آب أغسطس 2006 هناك دراسة علمية موسعة لمعدل ذكاء الرؤساء الأميركيين. ووجدت أن أغباهم مونرو ثم هاردنغ وبعده بوش الابن في المرتبة الثالثة، ثم تايلور وأندرو جونسون في المرتبتين الرابعة والخامسة، أما أذكى الرؤساء فكانوا جون كوينسي ادامز، ثم جفرسون، وبعدهما كنيدي ثالثاً، وكلينتون رابعاً وولسون خامساً. وكنت قرأت تقارير أخرى عن اختبارات معدل الذكاء جعلت بوش الابن أغبى رئيس وكلينتون أذكى رئيس. ولن أقطع برأي هنا، مع أن رأيي في بوش الابن معروف من دون امتحان آخر يسقط فيه، لأن هناك جدلاً كبيراً حول اختبارات الذكاء، فهي لم تتغير كثيراً منذ وضع أسسها ألفريد بينيه سنة 1904. عدت الى ملف عندي عمره أكثر من سنة وضعته جانباً بعد أن قرأت عن عقاقير تزيد الذكاء، وعن شكوى مرافقة من ان مثل هذه الأدوية سيكون في متناول الأثرياء فقط، ما يعني أن يتقدموا مرة أخرى على حساب الفقراء الذين لا يملكون ثمن الذكاء. والموضوع ليس من نوع الخيال العلمي، فهناك أسماء أدوية تشحذ الذهن، والحكومة البريطانية تعتقد بأن هذه العقاقير ستصبح متوافرة مثل القهوة في المستقبل القريب، وقد طلبت أخيراً من أكاديمية العلوم الطبية أن تدرس أثرها في الناس. هل يأتي يوم أبلع فيه"برشامة"وأصبح في ذكاء اينشتاين؟ هل تقف حكومة أولمرت يوماً موقفاً انسانياً؟ هل يؤوب القارضان. السؤال الأخير من كتب الأدب ويحتاج الى ذكاء كبير لفهمه، والمهم انهما لن يؤوبا، أي يعودا. اذا كان الموضوع يهم القارئ فإنني أنبهه الى ان البروفسور جيم فلين سينشر قريباً كتاباً عنوانه"ما هو الذكاء"، فهو درس امتحانات معدل الذكاء على مدى مئة سنة، ووجد أننا أذكى من أجدادنا، وقد قامت هوة عقلية بيننا وبين الذين سبقونا. الرئيس ليندون جونسون قال يوماً انه قد لا يكون ذكياً، الا انه يعرف الفرق بين سلطة الدجاج وسلح الدجاج، وأقول مثله انني قد لا أكون ذكياً، الا أنني أعرف عن الموضوع، وأول ما أعرف هو أن الذي يأخذ اختباراً لمعدل الذكاء يكتشف أنه لو كان ذكياً لما أخذه... وفضح نفسه. ما أعرف أيضاً هو ان الرجل يغفر للمرأة كل شيء سوى أن تكون أذكى منه، وهي عادة كذلك: وقد لاحظت أن الرجل الصامت الذي لا يحاول أن يثبت ذكاءه للآخرين يكتسب صفة مفكر من دون تفكير. في قاموسي: الرجل مفكر اذا استطاع أن يفكر في شيء غير الجنس. ولا حاجة بالقارئ ان ينكر، لأن التهمة ثابتة على كل رجل، وكل ما عليه الحذر وأن يذكر المثل:"اذا وقعت يا فصيح لا تصيح". يكفي عبقرية وذكاء، فأنا لا أريد أن أنكد على القارئ صباحه بتذكيره بما ليس عنده، وإنما اطمئنه الى ان العبقرية هي الشذوذ على القاعدة، والذكي جداً أينشتاين قال يوماً ان أكثر عنصرين في الطبيعة هما الهيدروجين والغباء. وقد لاحظت دائماً أن الذكاء له حدود، أما الغباء فمن دون حدود. الانسان أحمق قبل أن يكون شريراً، ومن الأسهل والأصوب، تفسير الأمور بالحمق لا الأذى، الا اذا كان الموضوع أحد أعضاء الحكومة الاسرائيلية. واذا كنت تحدثت عن العبقرية اليوم ببعض الجد، مع محاولتي تخفيف الصدمة على القارئ، فإنني أعد بأن يكون تعاملي مع الغباء غداً هاذراً، ليستمتع القراء الأذكياء بالموضوع، وليفهم الآخرون، فقد وجدت ناساً أغبى من نبات، حتى أنني فكرت في أنهم يحتاجون الى السقي الري مرتين في اليوم، واذا كان الجهل راحة كما يقولون، فإنهم لن يتعبوا يوماً في حياتهم.