تلقي الجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي بنفسها في غمار الأخذ والرد الدائر عربيا حول مسارات الإصلاح السياسي، متطلعة إلى الاستفادة من أي خطوة تدب على هذا الدرب، لتفتح أمامها فرجة، ولو ضيقة، لاكتساب شرعية سياسية، ومشروعية قانونية، تعول عليها كثيرا في رحلتها للوصول إلى سدة الحكم، أو على الأقل ضمان القدر المناسب من الأمان، النفسي والسياسي، ما يعني توقف ملاحقة أفراد هذه الجماعات ومطاردتهم، باعتبار أن بعضها"محظور"قانونا، والبعض الآخر متهم ب"الإرهاب". وتراوح هذه الجماعات في موقفها من الإصلاح بين"الفتوى"التي تعني لديها التمسك بما تراه"ثوابت دينية"أو"عقدية"لا يمكن التفريط فيها أو التنازل عنها، وبين"الجدوى"التي تتمثل في البحث الدائب عن الوسائل الفاعلة في الواقع المعيش، التي تقود هذه الجماعات إلى التمكن، أو تحصيل السلطة. ويعود الجدل داخل الحركة الإسلامية المصرية حول زمنية الإصلاح، أو الوقت الذي من المفترض أن يستغرقه، إلى نهاية القرن التاسع عشر، حيث اللحظة التي ولدت فيها حركة الإحياء الإسلامي، على كفي جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده. فالأول كان يؤمن بأن الإصلاح يمكن تحصيله في التو، شرط العمل من أجل بلوغه، أما الثاني فرأى أن الإصلاح عملية متدرجة، تتحقق بعد مدة، ولذا هادن الاستعمار الإنكليزي، خارجا على ثورية أستاذه الذي نادى بالكفاح ضد الاحتلال، وخالف عبده الزعيم أحمد عرابي الرأي حول التحول إلى الحكم النيابي الدستوري، محبذا البدء بالتربية والتعليم لتكوين رجال قادرين على القيام بأعباء الحكم النيابي، وتعويد الناس على البحث في المصالح العامة، بما يقود في نهاية المطاف إلى حمل الحكام على العدل والإصلاح. وبلور عبده، بشكل أكثر جلاء، رؤيته المنحازة إلى التدرج في الإصلاح في طلبه من الأفغاني، وهما في باريس عام 1883، بأن يذهبا سويا إلى مكان غير خاضع لسلطان دولة تعرقل مشروعهما الإصلاحي، ليؤسسا مدرسة للزعماء، يختارا تلاميذها من الأقطار الإسلامية، ويقوما بتربيتهم لمدة معينة، يصبحون بعدها مؤهلين لقيادة الإصلاح في بلدانهم. لكن الأفغاني، الذي كان سياسيا واقعيا، رفض هذه الفكرة"الطوبوية"، والتي أعيد إنتاجها، بشكل مختلف، ولمقصد مغاير، داخل الحركة الإسلامية الراديكالية في مصر، خصوصاً لدى تنظيم"جماعة المسلمين"، المعروف إعلاميا باسم التكفير والهجرة، وهي في كل الأحوال تتأسس على تأويل ذاتي لحدث الهجرة النبوية الشريفة، ينزعه من سياقه التاريخي والاجتماعي. وما بين الأفغاني وعبده من اختلاف في تقدير زمنية الإصلاح يعود في نظر العقاد إلى"اختلاف الفطرة والاستعداد بين هذين الإمامين العظيمين، فأحدهما خلق للتعليم والتهذيب، والآخر خلق للدعوة والحركة في مجال العمل السياسي والثورة الأممية"، وربما وزعت الفطرة كلا منهما على مسلك مغاير للآخر، فالأفغاني يعول على الجماعة، وينادي بالثورة، ويمارس السياسة من أوسع أبوابها، ويقطع بعدم التعاون مع المستعمر، أما عبده فيعول على الفرد، ويسعى إلى تأجيج العاطفة الدينية، ويتوخى التربية سبيلا إلى بلوغ الهدف ويكره على التوازي السياسة، فيستعيذ بالله من"ساس ويسوس"، ولا يرفض التعاون مع المستعمر إن كانت المصلحة تقتضي ذلك. وجاءت الجماعات الإسلامية الراهنة، لتراكم على هذين المسلكين، فاختلفت بين نهج"الإخوان المسلمين"الذي يؤمن بالتدرج، ونهج"الجماعة الإسلامية"و"تنظيم الجهاد"، الذي يسعى إلى القفز إلى السلطة مباشرة. لكن الاختلاف حول"التدرج"و"القفز"لا يمثل لدى هذه الجماعات طريقة لدفع السلطة الموجودة إلى تبني الإصلاح، حسبما كان يرمي الأفغاني وعبده، لكنه يعني، ودون مواربة، اختلاف حول طريقة إزاحة هذه السلطة أو الحل محلها. فالأخوان حين يتوسلون بالدعوة أو التربية الأخلاقية، فإنهم يقصدون بذلك تهيئة المجتمع لقبول حكمهم، والجماعات الإسلامية الراديكالية، على ما بينها من أوجه للاتفاق والاختلاف،لم تكن تقصد، حين حملت السلاح ضد النظام السياسي، خصوصاً أواخر الثمانينات وحتى الربع الثالث من العقد الأخير للقرن المنصرم، الضغط على السلطة القائمة كي تصلح الأوضاع المتردية، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، بل على النقيض تماما، فهذا الإصلاح لا يصب في مصلحتها، لأنه يعني تقوية شوكة النظام القائم في مواجهتها، ومن ثم كان مقصدها هو إسقاط النظام واغتنام نفوذه وفرصه ومكانته، لكن ربما تغيرت هذه الاستراتيجية مع انتهاء المواجهة المسلحة لصالح النظام، وتيقن بعض فصائل الحركة الإسلامية من أن طريق العنف لن يجدي كثيرا ضد حكم مدجج بركائز القوة المادية والمعنوية، ومن ثم راح"الإسلاميون"يطالبون بالديموقراطية، اعتمادا على أنها الوسيلة الأقل كلفة والأكثر أمنا، لهم في السعي للوصول إلى السلطة. من ثم لا يرضى"الإسلاميون"، الذين يفضلون العمل السياسي ولا يحبذون عسكرة الحركة الإسلامية، بمنطق النظام الحاكم في مصر الذي يتبنى التدرج في الإصلاح نزولا على الظروف السياسية والاجتماعية، حسب ما يقال، فمثل هذه النهج، في نظرهم، يعني إرجاء الوسيلة"الشرعية"التي ينتظرونها للوصول إلى السلطة، تعويلا على أنهم يتمتعون بجماهيرية كبيرة، ومن ثم فإن صناديق الانتخابات ستتيح لهم تحصيل ما لم يتحقق بالنزال المسلح ضد السلطة، وعركت التجربة"الإخوان المسلمين"، فتيقنوا أن التأسيس البطيء لحكمهم، مسألة صعبة، في ضوء القيود القانونية والسياسية التي تفرض عليهم، وأنه لا بد لهم من أن يزاوجوا، بين التحرك لدى"القاعدة"، والضغط على"القمة". وهنا يطالب"الإخوان المسلمون"، بوصفهم الجماعة الأم والأكثر قدرة على التعبئة السياسية السلمية، بالسماح لهم بتكوين حزب سياسي، وفتح الباب أمام تعددية سياسية حقيقية، وإجراء انتخابات نزيهة وعادلة، بعد إلغاء قانون الطوارئ، اعتمادا على أن إجراءات من هذا القبيل ستتيح لهم فرصة ترجمة وجودهم الاجتماعي إلى نفوذ سياسي مكافئ له، أو على الأقل إنهاء رحلة معاناتهم جراء فقدان المشروعية، والتي تجعل أعضاء الجماعة دوما في مواجهة حزمة من الاتهامات، التي تفضي بهم إلى محاكمة عسكرية، من قبيل العمل على الاستيلاء على الحكم وتغيير الأوضاع القائمة في البلاد بالقوة، والانضمام إلى تنظيم سري محظور، وحيازة مطبوعات تحوي عبارات تحض على كراهية نظام الحكم، وتحريض الجماهير ضده، وفتح قنوات اتصال بعناصر من الجماعات التي تمارس العنف. ربما لا يكون انحياز"الإخوان المسلمين"إلى الديموقراطية أخيرا نابعا من اقتناع فقهي وفكري مكتملين، لكنه إفراز لدرس تاريخي وعوه جيدا، وهو أن العنف سيقابل بعنف مضاد، لن يكون بوسعهم، في ظل تفاوت القدرات بينهم وبين الدولة، أن يتحملوه، بل إنه كفيل، وكما حدث في مرات سابقة، أن يعيد الجماعة خطوات إلى الوراء، ويفقدها حتى الأشكال التحايلية التي تتبعها في التغلغل الاجتماعي ومداراة السلطة أحيانا، ومن ثم فلا مناص من التوسل بالإجراءات التي تتيحها الديموقراطية. علاوة على ذلك لم يكن بوسع"الإخوان"أن يصموا آذانهم طيلة التاريخ عن الطروحات الكثيرةالتي ازدحمت بها الساحة الفكرية في التعامل معهم، والتي تراوحت في تناولها لهذه الجماعة بين النقد المغلف بالنصيحة والجلد الرامي إلى إقصائها بعيدا عن الحياة السياسية والاجتماعية، باعتبارها جماعة تقليدية ستجرفها الحداثة أو ارتدادا سلفيا على المشروع التنويري الذي عرفته مصر في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن المنصرم، ورتب هذا الوضع على"الإخوان"تحديا كبيرا، فكان عليهم أن يطوروا تصوراتهم السياسية، بقدر ما تسمح به البنية الداخلية للجماعة، فكريا ومؤسسيا، وحسب ما يتيحه لهم السياق السياسي- الاجتماعي الذين يحيط بحركتهم. لكن هذا لا يمنع من أن"الإخوان"حاولوا الاستفادة من"الانفتاح السياسي"، فهاهو مؤسس الجماعة ومرشدها الأول الشيخ حسن البنا، يقبل التعددية الحزبية، شريطة ألا يكون التعدد على أساس عقائدي، ويرى أن المعارضة جائزة عند إخلال الحاكم بأحكام الإسلام، أو تقاعسه عن تطبيقها، ويتقبل مبدأ الحكم الدستوري، الذي يعني في رأيه الحفاظ على الحرية الشخصية، وعلى الشورى، واستمداد السلطة من الأمة، وحق الشعب في مساءلة الحكام ومحاسبتهم، وبيان حدود كل سلطة من السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. وإذا كان"الإخوان"في أربعينات القرن الماضي انتقدوا بشدة الأوضاع السياسية، في بعدها المؤسسي المتمثل في الأحزاب، وإطارها العام الذي تشكله القوانين والدستور، فإن احتكاكهم بالواقع السياسي، جعلهم يتخلون عن بعض ما كانوا يقتنعون به، ويبدون مرونة حيال التجربة الحزبية، وآليات الحكم في الدولة المدنية، الأمر الذي أهلهم بعد إطلاق"تعددية سياسية مقيدة"في مصر بإنشاء المنابر ثم قيام الأحزاب، إلى خوض غمار الانتخابات البرلمانية، بالتحالف مع حزب"الوفد"عام 1984، وحزبي"العمل والأحرار"عام 1987، والدخول إلى البرلمان، وتقديم أداء فعال نسبيا، إذا قيس، بأداء ممثلي أحزاب المعارضة، والحزب الحاكم، ثم تكرار التجربة، دون تحالف مع أحد، في انتخابات 1995، و200. وتأسيسا على ذلك حرص الإخوان على تضمين مبادرتهم للإصلاح التي أطلقوها في آذار مارس 2003، جزءا عن"الإصلاح الانتخابي"، نادوا فيه بكف يد السلطة والأمن عن التدخل في أي خطوة من خطوات العملية الانتخابية، وأن يسند أمر الانتخابات وتشرف عليها لجنة أو هيئة قضائية، يختارها المجلس الأعلى للقضاء، مسؤولة عن العملية الانتخابية بداية من جداول الناخبين، وحتى إجراء الانتخابات والفرز، من دون تدخل من وزير العدل، ويكون لها الحق في الفصل في ما يعترض الدعاية الانتخابية، التي يجب أن تكون حقا للمرشحين جميعاً، وهذا الإجراء، إنما يعني في مضمونه وشكله، رفض ما تنادي به السلطة الحاكمة من تدرج في الإصلاح، لا يتم أبدا، كخطوة أولى فيه، إقرار انتخابات نزيهة وعادلة، تتيح للمتنافسين تكافؤ في الفرص والإمكانات، فمثل هذا العمل هو حرق لمراحل الإصلاح، قياسا على الأوضاع الراهنة. ولحرق المراحل، سعى الإسلاميون، بعد تردد، إلى الدخول إلى الحياة السياسية الرسمية من باب الأحزاب، فكوّن شبان منسلخون من جماعة"الإخوان المسلمين""حزب الوسط"، فلما رفضته لجنة الأحزاب، أعادوا المحاولة مرة أخرى، تحت لافتة"حزب الوسط المصري". وحذا حذوهم شبان كانوا في السابق منضوين تحت لواء جماعة"الجهاد"فكونوا حزب"الشريعة"، وعلى منوالهم كون منتمون إلى"الجماعة الإسلامية"حزب"الإصلاح"، ولم تحظ هذه الأحزاب كافة باعتراف قانوني، فبقيت تحمل اسم"أحزاب تحت التأسيس"، يحلم أصحابها بتغير الظروف، لصالح تمكينهم من ممارسة العمل السياسي المشروع، بعد طول حرمان واحتجاب. وتحمل مضامين برامج هذه الأحزاب ما يبين انحيازها إلى الإسراع في الإصلاح، من منطلق أن هذا سيوفر لها الإجراءات التي تمكنها من تحسين وجودها السياسي، أو بمعنى أدق توفير فرصة آمنة لها للصعود إلى سدة الحكم"فحزب الوسط ينادي في برنامجه بعدم احتكار أحد العمل الوطني، ويلبس هذا رداء فقهيا، من خلال وصف محتكر العمل السياسي بأنه"مجرم آثم، لأنه يحرم الوطن كله، حاضره ومستقبله، من جهد أبنائه وعطائهم، ومن جهادهم بالنفس والمال والعقل والفعل في سبيله"، وما يبرهن على أن"حزب الوسط"، لا ترقى له فكرة التدرج في الإصلاح، حسبما تريد السلطة، أنه تجاهل في برنامجه التعليق على أوضاع النظام السياسي الراهن في مصر، من قريب أو بعيد، مستبدلا ذلك بوضع تصور نظري حول النظام السياسي الأمثل، من وجهة نظره، يقوم على التعددية، وجعل الأمة مصدر السلطات، واتباع مبدأ"التوكيل لا التمثيل"في اختيار البرلمانيين، وإطلاق حرية التنظيمات الأهلية والنقابات المهنية والعمالية. واستمرار الإسلاميين في توسل الديموقراطية طريقا للوصول إلى السلطة بعد عقود من اعتماد العمل المسلح لبلوغ هذا المقصد، له ما يبرره في نظر ممدوح إسماعيل أحد مؤسسي حزب"الشريعة"، الذي كونته مجموعة تنتمي إلى تنظيم الجهاد الذي كان يحرم في الماضي العمل الحزبي، إذ يرى أن هذا يمثل"استراتيجية للوصول إلى الجماهير، والخروج من خندق الإرهاب، الذي تحاول الحكومة وضع الجماعات الإسلامية فيه"، ويعترف بعد طول تجريب في الاتجاه المضاد أنه لا بديل أمام الجماعات الإسلامية سوى النشاط الحزبي بعد أن قيدت الحكومة كل قنوات الاتصال بالجماهير، التي كانت متاحة أمام هذه الجماعات، مثل قانون ضم المساجد كافة إلى وزارة الأوقاف، وقانون الجمعيات الأهلية، والقانون 100 لسنة 1993 الخاص بالنقابات المهنية. ولا ينتظر حزب"الشريعة"أي تدرج، في ضوء ربطه العنف الذي قامت به الجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، بالاستبداد القائم في البلاد. ففي نظره فإن هذا العنف مرده"فقدان حرية التعبير عن الرأي، وتجريم الاختلاف السياسي، ما أدى إلى حال من الاحتقان السياسي، انفجر على أثرها العنف"، ولذا يطالب الحزب بفتح قنوات الحوار والتفاهم بين القوى الوطنية فورا، ودعوة الجماعات الإسلامية على اختلافها لإبرام عقد اجتماعي جديد، قائم على احترام حقوق الإنسان وكرامته. ومعنى"العقد الاجتماعي الجديد"أن الحزب يطمح إلى تغيير الأوضاع الراهنة كلية، أي أنه يميل إلى حرق المراحل في اتجاه الإصلاح، حسب الوجهة والمضمون الذي يحويه برنامجه. أما حزب"الإصلاح"، فبدا متوائما مع"التدرج"في الإصلاح من خلال"واقعية سياسية"نسبية اتسمت بها رؤيته، منطلقا من شبه اعتذار عن أعمال العنف التي ارتكبتها الجماعات المتطرفة، ومعتبرا نفسه الجسر الذي يوقف نزيف مقدرات الوطن في المواجهة بين"الإسلاميين"و"النظام"، وينقل الحركة الإسلامية من"الأمن"إلى"السياسة"، عبر اكتساب مظلة قانونية وسياسية، تتيح لها العمل في العلن، والاستفادة القصوى من الجسور التي يتيحها العمل السياسي العام في الالتحام بالجماهير. وتحدث برنامج الحزب عن"انتقال السلطة أو تقاسمها"بطريقة تحقق السلام الاجتماعي،"وفق ما تتيحه المنظومة الدستورية والقانونية من إمكانات للمشاركة السياسية"، ورضى ب"تعددية مقيدة"، باعتبارها أفضل لديه من هيمنة الحزب الواحد. * كاتب وباحث مصري، مدير مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط.