تراجع أسعار النفط إلى 73.62 دولارًا للبرميل    "الأرصاد"استمرار هطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    محافظ الزلفي يلتقي مدير إدارة كهرباء منطقة الرياض    أبها تستضيف منافسات المجموعة الرابعة لتصفيات كأس آسيا تحت 20 عاماً    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    قراءة في الخطاب الملكي    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    التزامات المقاولين    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    الاستثمار الإنساني    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    هيئة الأفلام تطلق النسخة الثانية من "منتدى الأفلام السعودي" أكتوبر المقبل    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    محافظ الأحساء: الخطاب الملكي يحمل حرصا شديدا على حماية هويتنا وقيمنا    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    الكويت ترحب بتبني الأمم المتحدة قرارًا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    فريق بحثي سعودي يطور تكنولوجيا تكشف الأمراض بمستشعرات دقيقة    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    إلى جنَّات الخلود أيُّها الوالد العطوف الحنون    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    المهندس الغامدي مديرا للصيانة في "الصحة"    سلامة المرضى    كلام للبيع    كسر الخواطر    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاسلاميون العرب والمسألة الديموقراطية . الاختلاف على الديموقراطية انتهى الى انقطاع بين الاخوان والجماعات 2 من 3
نشر في الحياة يوم 12 - 11 - 1999

أهم تطور حصل في التيارات الاسلامية هو انتقال الخلاف من الخصومات العقائدية في نهاية السبعينات الى المواجهات السياسية والاشتباكات بين الطرفين، خصوصاً بين الجماعة الاسلامية وحركة الاخوان.
ازدادت الصدامات عندما بدأت الحكومة المصرية تفرج عن قيادات الجماعة الاسلامية في العام 1984 وأخذت الاخيرة تنشط وتعيد تنظيم نفسها فاندلعت المواجهات وانتقل الخلاف الى الجامعات والمؤسسات والمحافظات ووصل احياناً الى الاشتباك واستخدام السكاكين والخناجر والجنازير وأسياخ الحديد كما حصل في اسيوط في 1987 و1988. وانتهت المواجهات الى اصدار كل طرف بيانات يتهم فيها الطرف الآخر بالاعتداء. وتطورت حرب المناشير الى صدور بيانات توثق الخلافات وتقوم على تأصيله عقائدياً وسياسياً.
وبصدور البيانات العقائدية تأسست خطوط ايديولوجية متناقضة تختلف على معظم المسائل والمحاور. وبقراءة تلك المنشورات يتبين ان الصراع ليس بسيطاً، بل يتركب من عناصر متعددة تبدأ بالموقف من الدولة الحكومة والبرلمان وتنتهي الى أبسط المسائل المتعلقة بالناس والتعامل مع المجتمع. وأبرز وثيقة اصدرتها الجماعة الاسلامية كانت تلك التي تحمل عنوان "نحن والاخوان" شرحت فيها بالتفصيل خلافاتها معها ورفضها لمواقفها السياسية وخلطها المفاهيم الاسلامية بالشوائب العلمانية وتساهلها مع النظام المصري ومشاركة الاخوان في البرلمان هشام مبارك، الارهابيون قادمون، ص 222.
شكل الهجوم الذي شنته الجماعة الاسلامية على الاخوان بداية قطع ليس مع قيادة الاخوان آنذاك بل مع تاريخ الحركة، وتحديداً مؤسسها حسن البنا. ففكرة دخول البرلمان والمشاركة في الحياة النيابية ليست جديدة وليست بدعة اخترعها قادة الاخوان في دورة 1984 التحالف مع حزب الوفد ولا في دورة 1987 التحالف مع حزبي العمل والاحرار حتى يستنكرها قادة الجماعة.
فكرة المشاركة في الدورات الانتخابية قديمة ويُعتبر حسن البنا اول من أسسها ودعا اليها، بل قرر ترشيح نفسه في انتخابات عام 1942 في ظل حكومة كان يرأسها آنذاك حزب الوفد، وبلغ وقتها "عدد مرشحي جماعة الاخوان سبعة عشر مرشحاً وعلى رأسهم المرشد العام حسن البنا نفسه في دائرة الاسماعيلية. وركز دعايته على تطبيق الشريعة الاسلامية. وفي تلك الآونة وقع صدام بين الوفد والاخوان عندما رفض النحاس باشا زعيم الوفد ترشيح حسن البنا في الانتخابات على اساس ان الاخوان جماعة دينية ولا تعمل بالسياسة … وفي محاولة اخرى وبعد اقالة وزارة النحاس باشا في تشرين الاول اكتوبر 1944 وحل مجلس النواب الوفدي، رشح حسن البنا نفسه مرة اخرى في انتخابات كانون الثاني يناير 1945، وفي دائرة الاسماعيلية ايضاً، ووقتها أفتى الاخوان بأن الدين يبيح دخول الانتخابات ما دام ذلك يؤدي الى نشر الاسلام" الاخوان في البرلمان، محمد الطويل، صفحة 45 - 46.
تؤكد الخلافات بين حركة الاخوان وحركات الجهاد والجماعات الاسلامية على ان وجهات النظر لم تتناقض بسبب آراء قادة الحركة وقبولهم بالمساومة والتسوية، بل بسبب حصول تطور في التناقض انتهى الى القطع مع ماضي الحركة ومؤسسها، الامر الذي يثير الى وجود تيارين ينقسمان ايديولوجياً ويختلفان في الرأي والاجتهاد والممارسة. وتحتل مسائل الموقف من العنف والأسلوب السلمي نقاط تماس تعيد انتاج التوتر بين الطرفين في كل فترة زمنية. يمرحل الباحث مبارك تطور الفكرة الديموقراطية عند جماعة الاخوان ويرى انها كانت، قبل العام 1952، تدعو الى حل الاحزاب جميعها بدعوى "انها تؤدي الى تمزيق وتشتيت وحدة الأمة" ص339. الا ان حركة الاخوان أعادت النظر بموقفها السابق بعد تعرضها الى الحل والملاحقة والاضطهاد في فترة الحكم الناصري الذي امتد الى العام 1970. وبعد المصالحة المشروطة مع النظام بدأت الحركة باصدار مجلة "الدعوة" وأخذت منذ العام 1971 تتحدث عن الديموقراطية ورفض الفتنة واحترام الدستور.
وعلى رغم الاتفاق على مضمون الفكرة، استمر النقاش على الأساليب وأشكال تحقيق الأهداف سلمياً. ويستعرض مبارك آراء قيادات الحركة بالفكرة الديموقراطية ويسجل تصريحات عبدالقادر عودة الذي يرى ان الاسلام سبق التشريعات المدنية في مسألة الديموقراطية حين "أسس نظرية الشورى لتكميل الشريعة ورفع الجماعة ودفع افرادها على التفكير في المسائل العامة والاهتمام بها والاشتراك في الحكم بطريق غير مباشر والسيطرة على الحكام ومراقبتهم". ويرى ان نظام الحكم في الاسلام ليس دينياً ولا ديموقراطياً لأنه "يقيد الحاكمين والمحكومين بما انزل الله" ص 340 - 341. ويخالف مأمون الهضيبي رأي زميله ويرى ان حركة الاخوان اختارت الديموقراطية "باقتناع وايمان" ويؤكد على انها الأساس الاول "للبناء الاقتصادي والاجتماعي وهي ارض الاقوياء الذين يلتزمون بالدستور ويقيمون التوازن بين الحقوق والواجبات ويسعون بين الرأي والرأي الآخر لتحقيق مصالح المجتمع" ص 341. ويتجه عصام العريان وسيف الاسلام حسن البنا الاتجاه نفسه ويطالبان بالمزيد من الديموقراطية وبالغاء "جميع القوانين المقيدة للحرية"، خصوصاً تكوين الاحزاب والجمعيات والاتحادات والنقابات والهيئات والأندية.
ويعلق مبارك على انه لم تظهر حتى الآن عند جماعة الاخوان اي مواقف متعارضة مع الديموقراطية، لكنه يلاحظ انه "يمكننا ان نرصد تشوشاً وخلطاً بين الديموقراطية والشورى" ص 341. ويستنتج انه مع تغير الظروف السياسية والاجتماعية في مصر "اصبح للاخوان المسلمين رؤية تكاد تكون متناقضة تماماً مع ما كان يدعو اليه حسن البنا من قبل" ص 342. ويفسر مصطفى مشهور مرشد الاخوان في مصر الخلاف بين التصورين لأنه "نحن في الأصل جماعة ولسنا حزباً وقد ظهرت فكرة مطالبتنا بحزب لكي نستطيع ممارسة نشاطنا بشكل شرعي" ص 342.
ويخلص مبارك الى "ان قادة الاخوان يرون امكانية للتوفيق بين الديموقراطية والشورى ويتقبلون التعددية الحزبية بشرط عدم تعارضها مع المبادئ الدينية" بينما، والرأي له، لا "تكتفي حركة الجهاد الاسلامي برفض الديموقراطية ولكنها توجه انتقادات حادة للاخوان المسلمين لتبنيهم لها" ص 343.
تهاجم وثيقة "معالم العمل الثوري" قبول حركة الاخوان فكرة الديموقراطية وتدعو بدلاً عنها الى وحدة فصائل الحركة الاسلامية وحشدها "لمواجهة الجاهلية". وترفض مجلة "الفتح" الناطقة باسم حركة الجهاد الديموقراطية لأنها "فكرة غربية تمخضت من الخبرة التاريخية للمجتمعات الاوروبية"، وتؤكد على انها لا تلتزم "الا بالشرع الالهي، والتشريع مصادره معروفة وهي الكتاب والسنّة والاجماع والقياس" لأن الناس في الاسلام "ليس لهم اي حق تشريعي حتى لو وافق كل الشعب على قضية ما". وتطالب بعدم اهدار "الطاقات المؤمنة في هذا الطريق المسدود". وتميز حركة الجهاد بين الشورى والديموقراطية وتراهما مختلفتين ثم تميز بين المعارضة في النظام الديموقراطي والأخذ بالرأي الآخر في النظام الاسلامي وتجد ان الاولى تعني تعدد الاحزاب، وتعني الثانية تعدد الآراء. وتنتهي الجهاد الى رفض النظام الحزبي وترى ان الشورى واجبة لكنها غير ملزمة. فالحرية برأيها ليست سائبة بل مضبوطة.
وتتجه الجماعة الاسلامية الى تبني المنهج نفسه الذي تعتمده حركة الجهاد من مسائل الديموقراطية والتعددية والأكثرية والانتخاب والائتلاف والتفاوض مع السلطة، وترى ان "الديموقراطية تخالف الاسلام" وترفض التعددية لأن "تعدد الاحزاب لا ينشأ الا عن تعدد الايديولوجيات". وهذا برأي الجماعة الاسلامية ممنوع في الدولة المسلمة. وترى الجماعة ان الديموقراطية "هي الابن المدلل للعلمانية"، وتساوي بين الكفر والايمان و"تقر حكم الأغلبية"، بينما "ليست الأغلبية على الحق بالضرورة". وترفض الجماعة محاولات الاخوان ربط الديموقراطية بالشورى وتنتقد موقف "الجبهة الاسلامية للانقاذ" في الجزائر لموقفها من الديموقراطية وقبولها خوض المعركة البرلمانية وموافقتها على الشروط الدستورية لمشروع الانتخابات ص 344 - 348.
وتكرر "الجماعة الاسلامية" وحركات الجهاد الموقف نفسه من الانتخابات والمشاركة في البرلمان وتعيب على المشاركين في اللعبة من حركات الاخوان والتنظيمات الاسلامية الاخرى لأنها تقع "في المحاذير الشرعية اثناء الدعاية الانتخابية من الوعود الكاذبة والتدليس مما يكون له اثره السيء على الدعوة والدعاة" ص 356.
يلاحظ من البيانات والوثائق والتصريحات الصادرة او المنسوبة لقادة الجماعات والجهاد طغيان المواقف والافكار الطهرانية التطهرية في محاولتهم الابتعاد عن التلوث السياسي الذي قد يصيبهم في حال اتباعهم الاسلوب المرن والبراغماتي الذي تنتهجه حركة الاخوان في مصر او الذي انتهجته "الجبهة الاسلامية للانقاذ" في الجزائر. ومن الواضح ان قادة الجماعات وحركات الجهاد يرفضون التكيف مع اي حال من الحالات. فالنصوص عندهم مطلقة ولا يجوز تفسيرها او اعادة تفسيرها حسب الأصول ووفق قواعد القياس والسنّة والشروط التي وضعها او اتبعها سابقاً، وفي حالات اخرى او متشابهة، عشرات الأئمة ومئات الفقهاء. فهم يعتبرون ان الحكم الاسلامي حكم الهي وليس بشرياً ولا يميزون بين الحكم والحكام الذين هم في النهاية من البشر ويجب اختيارهم لا فرضهم بالقوة على الناس. وبسبب عدم تمييزهم بين حكم الشرع وحكم البشر فانهم يخلطون بين احكام الله والحكم الذي يمارسه وينفذه البشر وليس الله. ويفسر عدم وضوح ذاك التعارض المذكور بين المسألتين اقدامهم على احتقار الناس واستنكار فكرة الغالبية والأكثرية، في وقت تدعو منشوراتهم هؤلاء الناس الى الحشد والالتحاق بهم للاطاحة بالحكومات الجاهلية وغير الشرعية. ويمكن القول ان مثل هذه الافكار متأثرة بالفكر الاوروبي الذي ساد القارة في القرون الوسطى وقبل عصر التنوير اكثر بكثير من الفكر الاسلامي وتجارب الدولة الاسلامية وتراثها السياسي الغني بالعبر والدروس. وهو تراث لا يشير الى الحكم الالهي بل الى الحكم الشرعي والعادل. ربما يوضح الفارق المذكور بين المفهومين ان مصادر تفكير الجماعات الاسلامية وحركات الجهاد اقرب بكثير من التجارب الاوروبية ومناهجها من التجارب الاسلامية ومناهجها، كما يدل الفارق على مسألة مهمة وهي ان معظم قادة التيارات الاسلامية المعاصرة درس الاسلام في المعاهد والجامعات الحديثة او السجون وربما تعلمه بجهده الخاص ولم يتعلمه كقواعد وأصول كما تذهب مناهج الأزهر وتطبيقاته التدريبية والتعليمية.
الاخوان والدولة والشورى
لعب اختلاف الجذور الاجتماعية والايديولوجية ومنابت التربية السياسية دوره في تحديد انتماءات العناصر الحزبية وافتراق توجهها في قراءة التحولات الدولية والتعاطي مع الازمات الاقليمية والمحلية. الى ذلك يضاف موضوع الخبرة التي تعمق التجربة وتزيدها نضجاً وهي مسائل مشتركة لا تتوافر عند الجماعات الاسلامية الحديثة العهد في حين انها موجودة في تكوين حركة الاخوان وان تفاوتت بين فرع وآخر.
لا يكفي التفسير المذكور لفهم الخلاف بين الاخوان والجماعات لكنه يساعد على وعي الاختلاف بين الطرفين وعلاقته بالجذور الاجتماعية والايديولوجية والتربوية لكل فريق. وبسبب ذاك الاختلاف اختار كل طرف طريقه الخاص والمستقل، فاتجهت الجماعات نحو العنف والمواجهة المسلحة انطلاقاً من تحليلها الذي لا يسمح بالمساومة مع حكومات جاهلية لا تأتمر بالشرع بينما اتجهت حركة الاخوان نحو الحلول السلمية ورفض العنف والتأكيد على الطابع القانوني لعملها السياسي والنقابي انطلاقاً من تحليلها الذي لا يتعارض مع المساومة والتسوية لأنها اصلاً لا تعتبر الحكومات جاهلية وترى ان مهمتها تقتصر على النصيحة والدعوة ولا علاقة لها باصدار الاحكام المطلقة ضد الناس من دول وشعوب وطوائف ومذاهب.
ونتجت عن اختلاف التحليل في ادراك الواقع المعقد وفهم المشاكل المعاصرة سلسلة سياسات متناقضة. فالذي يرفض التعاطي مع الحكومات العربية بذريعة انها جاهلية يقاتل الاقباط مثلاً بحجة انهم كفرة، والذي يفسر الازمة الاجتماعية لأسباب تتعلق بالمسلك الفردي للمسؤولين يلجأ الى الاسلوب الارادي للاقتصاص المباشر من عناصر الحكومة والشرطة والسياح، بينما الذي يطالب الحكومة بالحوار وتعزيز الديموقراطية وفتح الباب للنقاش تظهر عنده بوادر التعايش مع مختلف الجماعات الدينية التي يتكون منها المجتمع كذلك يلجأ الى تحليل الازمة المعيشية بطريقة موضوعية لا تقتصر مسؤوليتها على الافراد وعناصر الحكومة والشرطة والسياح. لذلك تميّز فكر الاخوان وخصوصاً منذ مطلع التسعينات بالحكمة والموعظة ورفض العنف في مختلف اشكاله. ففي مقابلة نشرتها "الحياة" مع المرشد العام السابق لجماعة الاخوان المسلمين في مصر المرحوم محمد حامد ابو النصر 4 ايلول/سبتمبر 1995 يربط العنف بقلة الحرية وبالعوامل الاجتماعية ويشير الى حل شامل "لأسباب العنف" وبرأيه ان معالجة الاسباب تبدأ باطلاق "الحريات واحترام حقوق الانسان وكرامته، واجراء اصلاحات اجتماعية واقتصادية ومحاربة الفساد المادي والمعنوي". ويعرب عن اسفه لاصرار "السلطة على الاكتفاء بالمواجهة الأمنية حتى تمادت وقابلت العنف بالعنف وتكرر القتل الرسمي بمجرد الاشتباه، فتعقدت المشكلة وزادت خطورتها". وعن علاقة الاخوان بالاقباط اجاب ابو النصر "علاقتنا بالاقباط كانت وما زالت طيبة. وعلى مدى السنوات السبعين الماضية، منذ نشأت الجماعة، لم يقع اي حادث يعكر صفوها، وكان للامام حسن البنا مستشارون من الاقباط، وكان عدد من الاقباط يحرص على حضور محافل الجماعة، وحين ابعد الامام البنا الى قنا كتب القساوسة هناك مذكرات الى الحكومة تنصفه".
لا شك في ان سنوات التسعينات العقد العاشر من القرن العشرين كانت حاسمة في كسر امكانات اللقاء بين حركة الاخوان وتنظيمات الجماعة. ففي حين اتجهت الاخيرة نحو تصعيد العنف والمواجهة المسلحة مع السلطات المصرية اتجه الاخوان نحو تنضيج فكرهم السياسي وتطوير خطابهم الايديولوجي وتحديثه ليتناسب مع ظروف مرحلة الانتقال التي تمر بها المجتمعات العربية والاسلامية، فأصدروا ثلاث وثائق تعتبر الاهم والأخطر في تاريخهم السياسي منذ عودتهم للنشاط الاعلامي في منتصف السبعينات.
يمكن اعتبار الوثائق الثلاث "التأسيس الثاني" لحركة الاخوان لأنها حسمت بشكل واضح الاجابة عن ثلاثة اسئلة. الاول، مفهوم المواطن والمساواة بين المجموعات الدينية والمذهبية. الثاني، مفهوم المرأة ومساواتها بالرجل وحقها في الممارسة السياسية وتولي المسؤوليات العامة والرسمية. الثالث، وهو الأهم، حدد ان الأمة هي مصدر السلطات وقطع الطريق على المفهوم المضاد الذي يتمسك بالشرع والشريعة فقط كمصدر للسلطات.
ونظراً لأهمية الوثائق الثلاث التي تم جمعها في كتيب صدر بتاريخ تشرين الاول اكتوبر 1995 لا بد من قراءة نصوصها التي تحسم توجه الاخوان القديم وتعيد بلورته وانضاجه في ضوء اسئلة المرحلة المعاصرة.
تتناول وثيقة "بيان للناس" صدرت في القاهرة في 30 نيسان ابريل 1995 الموقف العام من المسلمين وغير المسلمين وعلاقة الدين بالسياسة والعمل السلمي ورفض العنف واستنكار الارهاب والتأكيد على حقوق الانسان فتذكر عن المسيحيين "لهم ما لنا وعليهم ما علينا وهم شركاء في الوطن، واخوة في الكفاح الوطني الطويل، لهم كل حقوق المواطن، المادي منها والمعنوي، المدني منها والسياسي، والبرّ بهم والتعاون معهم على الخير فرائض اسلامية لا يملك مسلم ان يستخف بها او يتهاون في اخذ نفسها بأحكامها، ومن قال غير ذلك او فعل غير ذلك فنحن براء منه ومما يقول ويفعل". وتؤكد ان "التعددية في منطق الاسلام تقتضي الاعتراف بالآخر، كما تقتضي الاستعداد النفسي والعقلي للأخذ عن هذا الآخر فيما يجري على يديه من حق وخير ومصلحة" ص 6. وتميز الوثيقة بين الشريعة والحاكم في مجال علاقة الدين بالسياسة. فاقامة شرائع الاسلام فريضة من فرائضه "لكن الحكام - في نظر الاسلام - بشر من البشر، ليست لهم على الناس سلطة دينية بمقتضى حق إلهي… وانما ترجع شرعية الحكم في مجتمع المسلمين الى قيامه على رضا الناس واختيارهم" ص 7. وترفض الوثيقة العنف وكل اساليب القسر وجميع "صور العمل الانقلابي الذي يمزق وحدة الامة، والذي قد يتيح لأصحابه فرصة القفز على الحقائق السياسية والمجتمعية، ولكنه لا يتيح لهم ابداً فرصة التوافق مع الارادة الحرة لجماهير الأمة". وتعلن الوثيقة البراءة من شتى اشكال العنف ومصادره وتستنكر شتى اشكال ومصادر الارهاب لأن "الذين يسفكون الدم الحرام او يعينون على سفكه شركاء في الاثم واقعون في المعصية" ص 8.
واخيراً تؤكد على احترامها والتزامها حقوق الانسان وتطالب بممارسة الحرية "في اطار النظم الاخلاقية والقانونية ايماناً بأن حرية الانسان هي سبيله الى كل خير، والى كل نهضة وكل ابداع" ص 10. وتذهب وثيقة "المرأة المسلمة في المجتمع المسلم" التي صدرت في القاهرة بتاريخ آذار مارس 1994 في الاتجاه نفسه اذ تؤكد على حقها في العمل عموماً ومشاركتها في الانتخابات وترشيحها واختيارها في المجالس المنتخبة وتولي الوظائف العامة والحكومية. وتأتي وثيقة "الشورى في الاسلام وتعدد الاحزاب" لتحسم اي لبس في موضوع خيار حركة الاخوان السلمي وقبولها بالتسوية السياسية والمساومة مع المختلف معها ايديولوجياً.
واستندت الوثيقة الثالثة على الاولى في توضيح موقفها، اذ كان "بيان للناس" قد اوضح ان "للشورى معناها الخاص في نظر الاسلام، فانها تلتقي في الجوهر مع النظام الديموقراطي الذي يضع زمام الامور في يد اغلبية الناس دون ان يحيف بحق الأقليات على اختلافها في ان يكون لها رأي وموقف آخران، وان يكون لها حق مشروع في الدفاع عن هذا الرأي والدعوة الى ذلك الموقف" ص 7. وتعتبر المسألة المذكورة اهم انجاز سياسي حققته حركة الاخوان في تطوير فكرة الديموقراطية اذ انها لا تعتبر الديموقراطية هي مجرد حكم الاكثرية الغالبية السكانية او الانتخابية بل ايضاً حكم الأقلية ومشاركتها في القرار او الاعتراض عليه. ثم تعيد التذكير بأن الاخوان شاركوا في بعض المجالس النيابية والانتخابية والتشريعية و"استبعدوا خلال بعضها الآخر عن تلك المشاركة، ولكنهم ظلوا على الدوام ملتزمين بأحكام الدستور والقانون حريصين على ان تظل الكلمة الحرة الصادقة سلاحهم الذي لا سلاح غيره…" ص 8 و9.
انطلاقاً من تلك القناعات صاغ الاخوان فكرتهم الجديدة التي تعتبر خطوة حاسمة في تحديد مفهومهم للشورى ومصدر السلطات وهي الفكرة التي تم ايضاحها في الوثيقة الثالثة.
يؤكد بيان "الشورى في الاسلام وتعدد الاحزاب" على "ان الأمة هي مصدر السلطات، فهي التي تولي من تثق في دينه وأمانته وخبرته وعلمه ومواهبه وكفاءته ما تحدده له من امورها ليقوم عليها بالعدل والاحسان والانصاف" ص 24. وتوجز تاريخ الشورى في الاسلام وتوضح فكرة تعدد الاحزاب في المجتمع المسلم وتؤكد على ان الخليفتين ابو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يدّع اي منهما "عصمة او ارتفاعاً عن احتمال الخطأ، بل قال كل منهما على الملأ انه بشر كسائر البشر، يصيب ويخطئ وان من حق افراد الأمة ان يصوبوه اذا اخطأ" ص 25.
تنطلق الوثيقة من فكرة فقهية وهي "الدين هو الاساس، والسلطان حارس" لذلك فان "الأمة هي مصدر السلطان … وان الشعب هو الذي له الحق ان يولي باختياره الصحيح من يرتضي دينه وامانته وعلمه وكفاءته، ليقوم على ما يحدده له من امور الدولة". وتطالب الوثيقة بتوازن مؤسسات الدولة وجعل الحكم "شورى استمداداً من سلطة الامة ويحدد مسؤولية الحكام امام الشعب، وكيفية محاسبتهم وتصويبهم". وحتى تكتمل الصورة تؤكد على "وجود مجلس نيابي له سلطات تشريعية ورقابية ذات فعالية تتمثل فيه الارادة الشعبية الحقيقية نتيجة انتخابات حرة ونزيهة وتكون قراراته ملزمة" ص 26.
بعدها تنتقل الوثيقة الى نقطة لا تقل خطورة وهي صلاحيات السلطات التنفيذية والرئاسية فتذكر ان رئيس الدولة "ما هو الا وكيل عن الشعب" وتطالب "ان تكون رئاسة الدولة لمدة محددة، ولا يجوز تجديدها الا لأمد محدد، وذلك ضماناً لعدم الطغيان" ص 27. وتنتهي الى اعادة التأكيد على حق الاختلاف وتنظيم المباح وتعدد الآراء والتسامح وسعة الأفق والبعد عن التعصب وضيق النظرة. وتختم حركة الاخوان وثيقتها بقبول فكرة تعدد الاحزاب و"قبول تداول السلطة بين الجماعات والاحزاب السياسية وذلك عن طريق انتخابات دورية" ص27.
السؤال كيف تعاطت السلطات آنذاك مع هذا التطور الحاسم في فكر الاخوان؟
شنّت حملة اعتقالات واسعة واعلنت عن احالة 45 من قيادات الاخوان الى القضاء العسكري كانت اعتقلتهم في 22 كانون الثاني يناير 1995 مجموعة امين مساعد نقابة الاطباء الدكتور عصام العريان ومجموعة رئيس نادي اعضاء هيئة التدريس في جامعة اسيوط الدكتور محمد السيد حبيب اعتقلت في 18 تموز - يوليو 1995 وتم حبسهم جميعاً على ذمة القضية رقم 136 لسنة 1995. ثم طورت هجومها على الاخوان فأقدمت على اقفال مكتبهم الاعلامي في القاهرة بذريعة ان الحركة محظورة بموجب قرار صدر في العام 1954. وتعزز هجوم السلطة بشن حملات ضد معسكرات الشباب الكشفي المرخص من قبل وزارة الداخلية في منطقة العامرية في الاسكندرية واعتقلت 200 شاب. كذلك اخذت بمحاربة الاخوان ومنعهم من المشاركة او تحمل مسؤوليات نقابية ومهنية بتعطيل المؤسسات المدنية ومنع كل انشطة الهيئات الأهلية وخصوصاً في الاحياء الشعبية. وأدى موقف السلطة الى استنكار واسع من القوى السياسية والنقابية التي طالبت بالغاء قرار تحويل الاخوان الى محاكم عسكرية. كذلك استنكرت صحيفة حزب التجمع المنافس لحركة الاخوان واعتبرت الخطوة "ظاهرة خطيرة، تدعو الى القلق الشديد، ومؤشر غير مريح على نوع الأساليب التي تنوي الحكومة استخدامها ضد المعارضين في الانتخابات التشريعية القادمة" الاهالي، امينة النقاش، 20 ايلول/ سبتمبر 1995.
من الواضح ان تعاطي الجهات الأمنية بهذا الاسلوب ضد مبادرات الاخوان يعزز خط التطرف الذي تقوده تنظيمات الجماعات الاسلامية ويؤكد في الآن نفسه على ان مسألة الديموقراطية لا يكفي ان تحسم جهات المعارضة موقفها منها بل على الدولة نفسها ان تحسم خيارها ايضاً من المسألة. فالانغلاق على المعارضة والانقلاب على المجتمع ومحاولة السيطرة عليه وسد كل المنافذ امام الناس للتعبير عن مواقفهم وطموحاتهم يغلق باب التطور نحو تأسيس حياة سياسية ويكرس استبداد النخبة وتحكمها في الحياة العامة المدنية والأهلية التي هي من ابسط حقوق المواطن. وتتحول الدولة من قوة دافعة تقود التحولات الى قوة معرقلة تعطل امكانات التوصل الى صيغة تسوية تاريخية تنقذ المجتمع من التفكك والانهيار الشامل. ولا شك في ان تيار الاستئصال العلماني في بعض المؤسسات يلعب دوره الخفي لتوريط الدولة في مشاكل امنية داخلية لا نهاية لها في وقت هي بأمس الحاجة الى توسيع قاعدتها الاجتماعية - السياسية لمواجهة المخاطر المتأتية من تصلب المشروع الصهيوني وتهديداته المستمرة للمنطقة عموماً وموقع مصر ودورها القيادي خصوصاً.
* كاتب من أسرة "الحياة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.