باستثناء مجموعة المفكرين الاسلاميين الوسطيين المعتدلين في مصر طارق البشري، محمد سليم العوّا، محمد عمارة، جمال البنّا، توفيق الشاوي... لم تصدر اية ردود على نداء الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي وجهه الى قيادات وكوادر الحركة الاسلامية العالمية يدعوها فيه الى اتخاذ موقف واضح وحاسم من المجازر الطائفية والعرقية التي ارتكبتها جماعة الطالبان في افغانستان. لم يصدر أي بيان أو موقف من جماعات الاخوان المسلمين ومن يمت اليها بصلة الجماعة الاسلامية والتوحيد في لبنان، حماس والجهاد في فلسطين، جبهة العمل الاسلامي في الاردن، الجبهة الاسلامية القومية في السودان، الخ.. وتمّ تجاهل حقيقة ان طالبان حاربت الحركة الاسلامية الافغانية ممثلة بتنظيمات حكمتيار وسيّاف قبل ان تحارب حزب الوحدة الاسلامي الشيعي، وساد انطباع بان هذا الصمت المطبق يستهدف عدم إظهار عيوب المسلمين في عيون الغربيين الاعداء الشياطين!! الا ان دفاع بعض القوى الاسلامية عن طالبان واظهار الاعجاب بها وبانتصاراتها، ومحاولة تصوير الامر وكأنه صراع بين طالبان السنية وايران الشيعية، وضع مصداقية هذه الحركات الاسلامية على المحك خصوصاً تلك التي ادّعت وتدّعي التطور والتحول الى مواقع ديموقراطية تنادي بقبول الاخر وبالاعتراف به وبحقوقه وحرياته، لا بل وتدعو الى ادخال الآخر المختلف في جسم الحركة الاسلامية كما تدعونا اخيراً الجماعة الاسلامية وحزبها الجديد المسمى الاصلاح! فكيف توفق الحركة الاسلامية العربية بين هذه الادعاءات الديموقراطية وبين العجز عن اصدار موقف ديموقراطي انساني يتناول حالة ميليشياوية متخلفة بمستوى حالة طالبان؟ كيف تستطيع الحركة الاسلامية ان تدعو المسيحيين العرب لممارسة حريتهم في التعبير والعمل السياسي داخل اطار من صنعها وقيادتها، فيما هي لا ترى غضاضة في المجازر الهمجية المرتكبة بحق الشيعة والهزارة وغير الباشتون من المسلمين الأفغان؟ كيف تريد الحركة الاسلامية العربية ان تحكم البلدان المتعددة الاعراق والاديان فيما هي ترى في طالبان نموذجاً اسلامياً للحكم؟ صحيح ان هذه المواقف لم تصدر في بيان صريح عن اي طرف اسلامي. ولكن الصمت المشوب بالاعجاب والاشارات والتلميحات الصريحة الى اسلامية وأصولية طالبان، وصولاً الى الاحتفاء والابتهاج بانتصاراتها والى مساواتها بايران وتصوير الوضع وكأنه صراع بين فئتين أو دولتين الاولى سنّية والثانية شيعية، ودعوتهما الى الحوار والصلح، يذكرنا كل ذلك بالموقف الذي اتخذته الحركة الاسلامية العربية من عدوان صدام حسين على الجمهورية الاسلامية في ايران وصمتها عن مجازره في حلبجه وديزفول وعن مجازره داخل العراق ضد الشيعة والاكراد، ثم موقفها الثاني من احتلال صدام حسين للكويت وتوريطه الامة العربية والاسلامية في أكبر مأساة وأفدح نكبة أين منها نكبة فلسطين عام 48 ونكسة حزيران 67 وصولاً الى ما نحن عليه اليوم من عجز وتشرذم، ومن احتراب داخلي. ان هذه الامثلة تدل على أزمة عميقة تضرب نخاع وجسم الحركة الاسلامية العربية وعنفوانها: المذهبية والفئوية، وأساسها: موضوعة السلطة - القوة، الامر الذي جعل من هذه الحركة في تجربتها ونموذجها كما في مشروعها، الوجه الآخر للحركة الشيوعية ابان عزّها وازدهارها. ان نرى في طالبان نموذجاً إسلامياً يعني ان نظرنا كله مجذوب الى مسألة السلطة، والإمساك بها، والاحتفاظ بها، والى الاعجاب بالمنتصر المستبد، أكان صدام حسين أو طالبان أو الجزّارين في الجزائر الدامية. كما ان هذا يعني حنيناً مكبوتاً الى عالمية اسلامية شبيهة بالاممية الشيوعية والى مركز ثوري لها أكان في طهران ايام تصدير الثورة أم في كابول اليوم، أم في الخرطوم حين تنعقد اجتماعات المؤتمر الاسلامي العالمي، أم في الدعوة الى هانوي العرب في الاردنولبنان مطلع السبعينات؟ أليس في الامر ما يدهش لهذا التشابه في الاوهام الايديولوجية؟ ان نقدنا للحركة الاسلامية العربية هو نقد من الداخل، وهو لا يتجاهل الايجابيات والإنجازات، وإنما يهدف الى كشف الاوهام الايديولوجية المرتبطة بتصورات نخبوية غريبة عن الاسلام وعن تاريخه ومجتمعاته. ان النظرة الاممية الاسلامية الاستحواذية والإلغائية تتبع من فهم ايديولوجي متغلغل في صفوف الحركة الاسلامية العربية حول تذويب الخلافات وتوحيد المذاهب والاعراق والقوميات بالقوة وبالحديد والنار وذلك تحت شعار "الفرقة الناجية" من جهة وحديث "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" من جهة اخرى. ومن هنا فان تكفير الاخر المختلف، المسلم وغير المسلم، وصولاً الى تكفير المجتمع مفهوم المفاصلة القطبي ومفاهيم التكفير والهجرة ليست فقط موهومات ايديولوجية لحزب اسلامي مبني على مذهبية وفئوية فاقعة، بل هي ايضاً ركائز لممارسة ارهابية اجرامية ليست مجازر الجزائر وطالبان سوى بعض مآثرها. ان الاوهام الايديولوجية المؤسسة على واقع اجتماعي سياسي عنوانه التعصب المذهبي والفئوي والجهوي - المناطقي والعائلي - العشائري، وعلى مصالح مادية شخصية وسياسات دولية استحواذية، ان ذلك انتج وينتج اشكالاً من الحزبيين الجامدين المنمطين الذين لا يستطيعون العيش في المجتمع الواسع وفي الوطن المتنوع الانتماءات وفي الامة المتعددة الشعوب والاقوام والاعراق، فيؤسسون مجتمعهم جماعة أو حزباً أو طريقة وانظمتهم وقوانينهم وشبكة مصالحهم. وهم في نفس الوقت يطرحون الشعارات الكبيرة مثل الوحدة الاسلامية: أي توحيد العالم الاسلامي في دولة واحدة وبقيادة حكومة اسلامية واحدة أو خليفة أو أمير قائد على غرار الملا عمر في طالبان أو امراء الجماعات في مصر والجزائر وفي غيرها طبعاً. ان هذه التجارب وهي مشاريع نخبوية سلطوية تستهدف الامساك بسلطة الدولة كيفما كان، بالعنف والارهاب، بالاغتيال والمجازر، بالانقلاب المسلح، أو حتى بالتقية والاستضعاف الى حين التمكن والقوة، تعمل في حقيقة الامر على تركيز القوة في رأس الهرم الحزبي السلطوي بدل نشر القوة في المجتمع، وفي ذلك فانها تنسف الاساس الكبير للنظرية الاسلامية في الحكم والسلطة، وتتحول الى عصبية سياسية فئوية مذهبية ممركزة منفصلة عن الجماعة، مفاصلة لها، مكفرة للمجتمع، فكيف لا تؤسس اذن لانفصال الدولة عن المجتمع أو لانهيار الدولة أصلاً. ولعل هذا ما قصده الإمام شمس الدين في ندائه التاريخي المذكور آنفاً حين قال ان حركة مثل طالبان لا يمكن ان تؤسس دولة في أفغانستان او ان توحّد افغانستان، ونفس الامر ينطبق بالطبع على حركة مثل الجماعة المسلحة في الجزائر أو جماعات العنف المسلح في مصر. ان هذه الحركات كما غيرها من الحركات الاسلامية المعاصرة تختزل التجربة الاسلامية والحقيقة الاسلامية الى أحد مكوناتها وهو الدولة فتعيد بذلك انتاج المفهوم الهيغلي للدولة / الفكرة المطلقة المقدس المطلق غاية الغايات ونهاية التاريخ. ان هذه النظرة المجسدة في الوضعية الاوروبية عموماً بعيدة كل البعد عن الاسلام، فالاسلام دين فيه دنيا وآخرة، ودنياه مجتمع ودولة، فيها الصوفي الزاهد والحزبي المجاهد، كما السلفي الأثري، والمقلِّد، والمجتهد، كما المسلم العادي الصائم المصلي. والأمة الاسلامية تقوم على مفهوم الولاية، وليست الدولة الا احدى الولايات، وإن تكن أهمها وأبرزها. ولعل من المفيد للحركة الاسلامية ان تبرز التناقض ما بين مفهوم الولاية نشر القوة في المجتمع ومفهوم الدولة مركزة القوة في أعلى الهرم وذلك لمنع السقوط في مفهوم الدولة المجرد الذي ينتج في الممارسة العملية تفكيكاً للمجتمع وشرذمة وحروباً أهلية. ان الحقيقة المجتمعية الاساس والحقيقة التنظيمية المعيار في الاسلام هي الأمة، والتعبير المباشر عنها هو مفهوم الولاية، وذلك في مقابل الفكرة التي تعتبر الدولة تجريداً عالياً أو تجريداً مقدساً للأمة وللمجتمع بحيث انها تعبّر عن روح الأمة وعن روح المجتمع. ان عدم فهم تلك العلاقة الخاصة التي اقامها الاسلام بين الولاية والدولة، وبين القوة في المجتمع والسلطة في الدولة، قد أدى بالحركة الاسلامية الى محاولة بناء سلطتها هي، ومركزة القوة في ذاتها وفي مشروعها ونموذجها للدولة فوق المجتمع واحياناً في مواجهة المجتمع. وهي هنا تعيد انتاج النموذج الشيوعي للحزب الطليعي القائد والمطبّق لدكتاتورية البروليتاريا مع اختلاف في التعابير والصياغات. الا تتماهى صورة بن لادن مع صورة غيفارا في المخيال الاسلامي الحركي؟ أليس حزب الدعوة الاسلامية نسخة مكررة مشوهة عن الاحزاب التروتسكية؟ أليس خطاب الخلافة لدى حزب التحرير اعادة باهتة لخطاب الاممية في ظل ديكتاتوية البروليتاريا؟ أليست الجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر يعاقبة الثورة الفرنسية؟ وجماعات العنف المسلح في مصر الا تشبه التوبا ماروس والدرب المضيء في أميركا اللاتينية؟ ألا يجمع بعض قادة الحركة الاسلامية بين ستالين وتروتسكي في خطابهم كما في شخصيتهم؟ وهل هناك أدنى فرق بين الحزب الشيوعي والجماعة الاسلامية في آخر هذا القرن؟. * كاتب وجامعي لبناني.