تنتابي مشاعر متناقضة حيال المتنبي، إدراك عبقريته الشعرية وغموض مقاصده، وضيقي بما يمكن أن نسميه"تسوله"بالشعر، ووضع عبقريته الشعرية في خدمة أغراض وممدوحين لم يكن يمكن ان يذكرهم التاريخ لولا انهم وردوا في شعره. انسوا سيف الدولة، كافور، أبا العشائر، هؤلاء كبار قياساً بپ"مختاري"قرى ودساكر مر بها المتنبي في رحلته الغامضة وترك لنا أسماءهم في مدونته الشعرية المبكرة. يأخذ السؤال على المتنبي وضع طاقته الشعرية في ما هو"غير شعري". ولكن هذا فهم يحاكم منجز الأمس بمفاهيم اليوم. وذلك لا يجدي نفعاً في فهم ظاهرة المتنبي ولا الشعر العربي القديم. فنحن نملك اليوم مفهوماً للشعر يبدو الشعر العربي القديم، في منظوره، متخلفاً، بعيداً من مقاصد الشعر الكبرى، مجرد مهارات لغوية وبلاغية. لكن العرب لم يفهموا الشعر على هذا النحو. علينا ان نتذكر ان العرب، بعد قيام امبراطوريتهم الممتدة من الهند الى جبال البرانس اقبلوا على نقل علوم السابقين من دون شعور بالنقص، بإحساس حقيقي الى حاجتهم لتلك العلوم والفلسفات ولكنهم، قط، لم ينقلوا شعر غيرهم. كانوا يرون ان الشعر لعبتهم وفنهم. انه، في نظرهم، الابن الطبيعي للغتهم. لغة الشعر. فالعربية، في ذلك الفهم، كانت هي لغة الشعر، والعرب هم أمته. هذا يفسر لنا، ربما، لماذا نقلت فلسفة اليونان ولم ينقل الشعر اليوناني... لذلك كتب الشعر العربي في ذلك الفضاء. انه سابح وحيد في فضاء شاسع. وجود المتنبي على قائمة القراءة والتداول العربيين طوال هذا الوقت ليس بلا وجاهة، وليس بلا سبب. أحتار، شخصياً، في فهم حضور المتنبي عربياً في كل العصور التي تلت ظهوره كالبرق الخاطف في التراث الشعري العربي: هل هو تلك اللغة المنحوتة، قوة الصوغ، تبلور الشخصية واعتدادها، الغموض الذي يطبع المقاصد"الحقيقية"لشعره ومسعاه، حكمته حيناً، حزنه حيناً آخر، اختراقاته النفسية الساطعة، الفخامة المخيفة لبلاغته؟ قد تكون كل تلك العناصر مجتمعة. قد تكون، أيضاً، وقع شعره على واقع حال لم يتغير كثيراً. مناسبة بعض شعره لواقع متلقيه في لحظات تخلخل كيانية كبرى. لعله، كذلك، تضارب الروايات حول شخصه. لكن المؤكد ان شاعراً عربياً غيره لم يحظ بهذا الحضور قط. ولا يمكن ان يكون كل هذا الحضور مجرد صيت أجوف. المؤسف ان الدراسات العربية التي تأخذ بالمناهج النقدية والمعرفية الحديثة قليلة عن المتنبي. شخصياً لم أجد وقد أكون مخطئاً وغافلاً دراسة عربية تتجاوز ما جاء به الفرنسي بلاشير. من الممكن ان تكون مثل هذه الدراسة موجودة ولكنها لم تستطع ان تكون، في فضاء التلقي العام، صورة أخرى عن المتنبي. * شاعر أردني