يتطلب تنفيذ السياسات والإصلاحات التي تضمنها البرنامج الإصلاحي للحكومة اللبنانية التي قدمته إلى "مؤتمر باريس 3" موافقة الأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس النيابي اللبناني عليها. إلا ان ذلك لن يكفل نجاح البرنامج، خصوصاً الجانب المتعلق بالتخصيص نظراً إلى ان نجاح عملية التخصيص يتطلب استقرار البيئة التشريعية، بمعنى ألا تكون القوانين ذات العلاقة التي شرعها المجلس النيابي عرضة للنقض في المستقبل من قبل المجلس نفسه أو المجالس الذي تليه. وإن كان ليس ما يضمن ذلك بالمطلق، إلا ان موافقة الأكثرية العظمى من أعضاء المجلس النيابي على عمليات التخصيص قد تعزز الاستقرار وتبعد هذا الاحتمال. من جهة أخرى، وفي ضوء السياق التاريخي والسمات المحددة للمشهد السياسي اللبناني، فإن مجيء أكثرية عظمى سياسية موضوعية إلى المجلس النيابي يعتبر أمراً بعيد الاحتمال حالياً وفي الأمد المنظور. وبالتالي فإن توفر أكثرية عظمى داعمة للبرنامج الإصلاحي بشكل عام ولعملية التخصيص بشكل خاص يعتبر أمراً بعيد المنال ما لم يتم بناء تحالفات اقتصادية تخترق التحالفات السياسية تؤمن الأكثرية المطلوبة للبرنامج الاقتصادي. إلا ان في استعراض أهم الملاحظات والتحفظات على البرنامج الإصلاحي للحكومة من جهة، ولردود المسؤولين في الحكومة والمؤيدين للبرنامج على تلك التحفظات من جهة أخرى، يمكننا اعتبار أن إمكانية توفير التوافق المطلوب ليس أمراً مستحيلا، لا بل ممكن، في حال توفرت الإرادة عند الجميع بوضع المصلحة العامة فوق المصالح السياسية، خصوصاً ان الاصطفاف السياسي الراهن بين الموالاة والمعارضة لا يتماثل بالضرورة مع مواقع مكوناتهما في ما يتعلق بالشأن الاقتصادي، حيث يعتقد ان هناك تباين بين بعض المواقف المعلنة والمواقف الفعلية لبعض الأفرقاء في كلتا الجهتين حول الجوانب المختلفة من البرنامج الاقتصادي نتيجة طغيان الاعتبارات السياسية حالياً على أي اعتبارات أخرى اقتصادية أو اجتماعية ذات صلة بعيش المواطن ورفاهيته. تتمحور الملاحظات على البرنامج الإصلاحي حول التحفظات الرئيسة التالية: - ان برنامج التخصيص سيؤدي إلى خسارة الوظائف في الأنشطة المنوي تخصيصها في وقت يعاني الاقتصاد اللبناني من ارتفاع معدل البطالة. - ان تخصيص قطاع الاتصالات المربح سيؤدي إلى انخفاض في موارد الميزانية العامة للدولة في حين ان هذه الميزانية تعاني من عجز كبير، بينما أحد الأهداف الأساسية المعلنة للبرنامج الإصلاحي هو تخفيض هذا العجز. - ان الزيادة في الضرائب التي يقترحها البرنامج، خصوصاً في ضريبة القيمة المضافة، ستؤثر سلباً على الطبقة العاملة من ذوي الدخل المحدود. أما المدافعون عن البرنامج الإصلاحي فيشيرون إلى ما تضمنته وثيقة البرنامج المقدمة إلى"مؤتمر باريس 3"في ما يتعلق بموضوع هذه الملاحظات. وهو ان التخصيص سيؤدي إلى توفير فرص عمل جديدة في الاقتصاد حتى في الأنشطة التي سيتم تخصيصها، كما سيتم إدراج هذه الأنشطة المخصصة في سوق الأسهم المالية ما سيمكن المواطنين من الاستثمار فيها والاستفادة من عائداتها. أي ان ما ستخسره الدولة من واردات مباشرة ستعوضه جزئياً الفوائد التي ستعود على المواطن المستثمر. أما بالنسبة للزيادات المقترحة على ضريبة القيمة المضافة فإن تأثيرها على ذوي الدخل المحدود والمنخفض سيكون محدوداً، كما ان تلك الزيادة لن يتم تطبيقها قبل عام 2008. إن التحفظات على البرنامج الإصلاحي من جهة وردود المؤيدين لهذا البرنامج عليها من جهة أخرى، تتأثر ببعض الانتقائية الناتجة عن التجاذب السياسي الحاد الذي تعيشه البلاد ما يضعف من موضوعيتها، كما يفتقر بعضها الآخر إلى الحد المطلوب من الوضوح والشفافية. إن الادعاء بأن عملية التخصيص ستؤدي إلى زيادة الفرص الوظيفية في الأنشطة المخصصة يفتقر إلى الدقة في حال افترضنا نجاح عملية التخصيص في تحقيق أهدافها الأساسية وهي تحسين إنتاجية الأنشطة وتعزيز كفاءتها ما يحسن بيئة الأعمال ويجذب الاستثمار إلى الاقتصاد الوطني. حيث ان تحسين الإنتاجية يؤدي الى التخلص من العمالة الفائضة. لذلك تضمنت برامج التخصيص الناجحة حول العالم إعادة تأهيل العمالة الفائضة وتوظيفها في القطاعات الاقتصادية الأخرى أو التعويض عليها. علماً ان نجاح عملية التخصيص يتوقع ان يسهم في تحسين الإنتاجية الكلية للاقتصاد الوطني ويدعم النمو المستمر، الأمر الذي سيؤدي إلى خلق فرص عمل جديدة في المستقبل سواء في الأنشطة المخصصة أو في قطاعات الاقتصاد الأخرى. ويُشار في هذا السياق إلى ان تحقيق هذه الأهداف الأساسية المرجوة من التخصيص، وهو مبررها الفعلي الوحيد، يشترط بالضرورة توفير التنافس السليم في الأنشطة المخصصة. لذلك فإن من المهم ان يتم إصدار رخصة إضافية أو أكثر للهاتف الجوال، وأكثر من رخصة إضافية للهاتف الثابت. والأمر نفسه ينطبق على نشاط توليد الطاقة الكهربائية وخدمات المياه ، وغيرها. أما المعترضون على تخصيص الأنشطة المربحة بحجة أنها تؤدي إلى خسارة الدولة لإيراداتها، فإنهم يهملون جانب إنتاجية وكفاءة تلك الأنشطة المتمثلة في العائد على الاستثمار وهو الأهم. كذلك يهملون ارتفاع أسعار هذه الخدمات وتدني نوعيتها. فالعائد على الاستثمار لا شك أنه أقل بكثير من العائد الممكن، كما ان الأسعار هي الأعلى في المنطقة وتشكل عبئاً اقتصادياً على كافة الشرائح من المواطنين، خصوصاً ذوي الدخل المحدود، علاوة على تأثيرها السلبي على بيئة الأعمال والقدرة التنافسية للاقتصاد الوطني. بينما نوعية بعض هذه الخدمات كالكهرباء والمياه، على سبيل المثال، فحدث ولا حرج. من جهة أخرى، ان إدراج الأنشطة المخصصة في سوق الأسهم وبالتالي إتاحة الفرصة للمواطنين للمشاركة في أرباح هذه الأنشطة، لا تمثل حجة مقنعة، خصوصاً لشرائح واسعة من المواطنين من ذوي الدخل المحدود والمنخفض، نظراً لأن إمكاناتهم المادية لا تسمح لهم بالاستثمار في السوق المالية، بخلاف الشرائح القادرة والغنية. إلا ان خسارة الدولة لجزء ملحوظ من إيراداتها الآتية من هذه الأنشطة نتيجة تخصيصها ليس نتيجة تلقائية لعملية التخصيص، بل تعود بقدر كبير إلى ضريبة الدخل المطبقة حالياً على الشركات، وهي ضريبة مسطحة ومثبتة على مستوى منخفض نسبياً قدره 15 في المئة من الدخل. كذلك فإن هذه الضريبة في هيكلها الحالي لا تسهم في تصحيح عدم التوازن الناشئ عن الأعباء النسبية الكبيرة على الاستهلاك مقارنة بالدخل، وذلك باعتراف العديد من المراقبين. من جهة أخرى، فإن الضريبة المسطحة، مقارنة بالضريبة التصاعدية على الدخل، تعتبر ضعيفة الجدوى في تشجيع الاستثمار في ضوء الظروف الحالية والمتوقعة في لبنان للأمد المنظور ولا توفر الحد المطلوب من التكافل الاجتماعي المنسجم مع هذه الظروف. بينما يمكن حفز الاستثمار باعتماد وسائل أكثر كفاءة من خلال اعتماد نظام ذكي للحوافز يوجهها نحو الاستثمارات التي تنسجم مع أولويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مثل تشجيع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة العالية وتلك ذات المحتوى التقني المرتفع، ودعم الصادرات وغيرها من المجالات التي تسهم في تنويع الاقتصاد ودعم نموه نحو توفير فرص العمل الملائمة للقوى العاملة التي تواجه حالياً إما البطالة أو الهجرة. إن اعتماد ضريبة تصاعدية متماثلة مع أفضل الممارسات الدولية سيسهم في تعزيز الإيرادات الحكومية ويعوض ما ستفقده جراء عملية التخصيص، لا بل قد تفوقها بسبب الزيادة المتوقعة في الإيرادات من الأنشطة الاقتصادية الأخرى. وبالتالي يمكن عندها الاستغناء كلياً عن الزيادات المقترحة على ضريبة القيمة المضافة التي، وإن كان تأثيرها على ذوي الدخل المنخفض محدود نسبيا، إلا أنها أشد تأثيراً على الطبقة الوسطى أو ما تبقى منها، خصوصاً ان المحافظة على هذه الطبقة وتنميتها تحقق وتعزز الاستقرار السياسي والاجتماعي. ويتوقع ان تسهم الضريبة التصاعدية في تخفيض عجز الميزانية إلى حدود قد تكون أقل من تلك المتوقعة في برنامج الحكومة، الأمر الذي سيساعد على إزالة التحفظات الموضوعية عليه ويوفر الإجماع المستقر حوله ويعزز فرص تحقيق الأهداف المرجوة منه. * مستشار لبناني في شؤون التنمية