"أهلاً وسهلاً بك في مطعم ..." في دبي . هنا، تأكل التبولة والحمص والمشاوي. هنا، لا تكاد تجلس حتى تظهر النارجيلة بين يديك، تماماً كما في لبنان. هنا، أينما تنظر ترتسم أمامك صور فوتوغرافية قديمة تخلّد لحظات حاسمة في حياة أسلافك، رموز هويتك اللبنانية. ها هم، بقامتهم المنتصبة وطرابيشهم ينظرون بفخر إلى حجارة أرضهم وقد رصفوها قلاعاً وأعمدة وصروحاً. ما إن تدخل هذا المطعم في دبي حتى تصبح في لبنان. وما إن تطأ قدمك خارجه حتى يصفعك جنون الاختلاط، ينتشلك الواقع من أقرب ما يكون إلى وطنك ليرميك في دبي... الاصطناعية المتكلفة، حيث تسكن حالياً أنت وآخرون من جنسيات مختلفة ومواطنون أصليون. تتسابق السيارات عبر شارع الشيخ زايد بسرعة خيالية... أصوات احتكاك الدواليب بالزفت، الضجيج، أضواء الإشارات، الأبراج الشاهقة، تلاوين الجنسيات وروائح مآكلهم... كل هذا يولد فيك انطباعاً بأنك واقف وسط طريق، تدور بك الكرة الأرضية، فپ"تطفئك"ألوانها البراقة وتردك إلى ذاتك مصاباً بعمى الألوان. هذا ليس شعوراً مريحاً لمن ألِف شوارع بيروت التي قد تبهرك فيها أمور أو حالات ? تقارب الجنون بدورها ? ولكنها ليست جرعات ضوء زائدة. ووسط كل هستيريا الأضواء والأشكال هذه، وأمام التناقض الكبير والفارق الصارخ بين"المطعم"وصور الوطن وبين الشارع الذي يختلف عن شارع في بيروت بقدر اختلاف كوكبين، لا تعجب إذا ما انفجرت ضحكاً أو بكاءً... ولا تخف لأن انفعالاتك، مهما كانت، تبقى من دون تأثير، لأن أحداً لن يتعرف عليك في ذلك الشارع الذي أسقط لامبالاته على رواده فباتوا كأقنعة جليدية ساعية. قد يخيل إليك بأن الفنادق والمطاعم والأبراج ناطحة السحاب المتمركزة في شارع الشيخ زايد أشبه بقطع"ليغو"تُركَّب وتُفكّ لتركّب من جديد وتفكّ ومن ثم... تُرمى. قطع صمّاء، تشفع فيها ألوانها ربّما، يلصق بعضها ببعض من دون تفاعل، وتحجب عن قاطنيها وروادها أي هامش من العفوية. هذه هي دبي التي نادراً ما ترى فيها أبناءها. وقليلة جداً هي الفرص السانحة للتعرّف عليهم، إلا إذا كنت تعمل معهم. ويخيّل إليك أن أبناء دبي يعلمون أن شعوب العالم الأخرى تتوافد إليهم لاقتناص فرص العمل في بلدهم، فقرروا أخذ إجازة والتواري للمراقبة من بُعد. وربما لهذا السبب تشكل الإمارة المزدهرة"زبدة"أحلام الشاب اللبناني الذي عُلّقت أحلامه في وطنه. فهناك الحاجة إلى الطاقات المبتكرة ماسة، والمادة وفيرة. وحصّة اللبنانيين في الوظائف كبيرة. لا تستغرب كيف يحيا الناس في بيئة ألوانها لا تتمازج، مفضّلين عدم التجانس على الحياة الطبيعية المتآلفة مع عناصرها في بلدانهم. الإنكليز، الروس، الهنود، اللبنانيون، الفلسطينيون، الباكستانيون، الفرنسيون... كلهم يقطنون في مناطق مشتركة ولكل منهم خصوصياته ونمط عيشه. ولكن لا اختلاط بينهم خارج إطار العمل. ولعلّ العمل هو الفضاء الذي يعتمل فيه نوع من التجانس، تجاه"مصلحة مشتركة". ولكنّه لا يلبث أن يتبدّد خارج هذا الفضاء، تماماً كما يصفعك الفارق بين"المطعم"من داخله"التمثيلي للبنان"، وخارجه حيث تنحلّ لافتته في بحر من لافتات تمثّل العالم. كأنك تقف عند دفّة قاموس، حيث ترصف أعلام البلدان بالترتيب الأبجدي.