تمشي وتمشي في شوارع العاصمة التشيكية براغ وأزقتها من دون تعب، كأنك تتجول في متحف تعود محتوياته الى القرون الوسطى. تُدهشك المدينة بأناقتها وألوانها الزاهية. تَعبر جسر تشارلز حيث تتلاقى عشرات الجنسيات والثقافات، تستمتع بمنظر النهر يخترق المدينة. رسالة قصيرة تصل عبر الهاتف الخليوي"السيد حسن بدو يحكي بعد شوي". نتوجه الى أحد المطاعم اللبنانية القليلة الموجودة هناك، ندخل فتستقبلنا صورة مشتركة للسيد حسن والجنرال عون ووليد جنبلاط وسعد الحريري، تركيبة عبثية خاصة في الظروف الحالية. نستغرب تركيبة الصورة، لكننا ندرك لاحقاً انها وضعت ارضاء لجميع الزبائن. يبدأ بعض الشباب اللبناني الموجود في براغ بالتوافد الى المطعم، يجتمعون عادة مع كل خطاب لأي من الزعماء السياسيين يتحاورون بعده ويتناقشون، يختلفون ويصرخون، يتفقون على عدم الرجوع الى الوطن، يتناولون التبولة ويغادرون. بعد إعلان الأمين العام لپ"حزب الله"نزول المعارضة الى الشارع يهلّل سامر الطالب الذي يدرس الاخراج السينمائي، ويتمنى المشاركة، إلا ان دروسه ومحاضراته تمنعة من السفر. سامر من مناصري"التيار الوطني الحر"المتحالف مع"حزب الله"، ويقول ان"قطار المعارضة انطلق ولن يتوقف الا بإسقاط حكومة السنيورة وتأليف حكومة وحدة وطنية"، ويضيف انه"يجب على المعارضة ان تضغط بكل قواها وتبقى في الشارع ولا تمل حتى تحقيق أهدافها". حسان وهو من أنصار تيار"المستقبل"ويدرس الهندسة المدنية، لا يتفق مع ما يطرحه سامر ويعتبر ان حكومة السنيورة"هي التي حققت الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب في الحرب الأخيرة، وكانت حكومة مقاومة سياسية"، ويتابع ان الحكومة"شرعية وتتصرف بحسب بيانها الوزاري، وما تقوم به المعارضة لا يمت الى الديموقراطية بصلة". إلا ان سارة الوافدة الحديثة الى براغ بعد زواجها من حسن الذي يعمل في المطعم نفسه، ترى ان"لا المعارضة ولا السلطة يبحثان عن مصلحة لبنان، فالطرفان يتصرفان وفق أوامر خارجية وظروف إقليمية اصعب من ان يفهمها الشعب". وتقول سارة انها سعيدة بمغادرتها لبنان، خصوصاً في الظروف الحالية التي يمر بها البلد، فهي تريد"ان تبني اسرة بعيدة من الشحن الطائفي والمذهبي". يرد حسن زوج سارة على حديثها ليقول ان لبنان بلده الابدي ولن يستبدله بآخر، الا ان ظروف المعيشة الصعبة هي التي تجبره على ان يبقى خارجه لفتره وتمنى حسن لو يستطيع"ان يشارك اخوته واخوانه في ساحتي رياض الصلح والشهداء تلبية لنداء السيد". وعلى رغم الاختلاف الكبير في الآراء، فإن الشباب اللبنانيين من رواد المطعم لا يفقدون الضحكة بين الفينة والأخرى والحوار بينهم هادئ من دون تكلف. قد تكون الغربة هي السبب وقد يكون وعيهم أيضاً ونظرتهم للوضع برمته بعين موضوعية ومن بُعد من الأسباب التي تجلعهم أهدأ من أقرانهم في لبنان. سابين شابة لبنانية من ام تشيكية ولدت وترعرعت وكبرت في براغ ولا تعرف عن لبنان إلا الصور التي يحتفظ بها والدها وبعض الأخبار والحكايات التي يرويها لها. تشارك سابين في الحديث بلغتها العربية الركيكة مستعينة بالأصحاب لترجمة الجمل التشيكية، وتقول انها لم تسمع عن موطنها الأصلي إلا أخبار الدمار والحرب والقتل والتظاهرات، ثم تضيف إنها"لن تترك براغ عاصمة الأناقة والتطور والحضارة لترجع الى بلد لا تعرف فيه ان كانت ستنهض من نومها أم لا". وفجأة ينتبه فتحي الى الحديث وكأن ما قالته سابين أيقظه من سباته، فيصرخ قائلاً:"لم أعد أريد ان انتمي الى لبنان ولا أريد ان اعترف لا بحكومة وحدة وطنية ولا بغيرها من الحكومات، أريد ان أحيا وأعيش بسلام كما يفعل نصف سكان الكرة الأرضية، منذ نشأتي وأنا أعيش الحرب والخراب، أمضيت مراهقتي وأنا اختبئ خوفاً من رصاصة طائشة". فتحي شاب لبناني أنهى دراسة السينما منذ سنة في براغ وقرر اعتبارها موطنه الجديد، يعمل في إحدى شركات الانتاج الصغيرة، وهو راض بمعيشته ويرفض العودة الى بيروت"مهما صار". بعد ساعات من الحديث في أمور البلد يطلب رمزي، صاحب المطعم، من الجميع التوقف عن الحديث بالسياسة ويدعوهم الى مائدة عشاء لبنانية بحتة. يجتمع الشباب على الطاولة من كل الانتماءات والمذاهب السياسية، يضحكون، يأكلون بشراهة، يتناسون معضلة بلدهم لفترة، ويقف رمزي رافعاً كأسه ويقول:"بصحة الوحدة اللبنانية في براغ"!