قد يقيم المسافر الى لندن في فندق لا يعجبه كثيراً، وقد يجد ان مزارات المدينة التي يزورها ليست على هواه، وقد يخدعه الطقس فتمطر صيفاً، وتسطع الشمس شتاء، لكن المؤكد انه سيجد ضالته المنشودة في المطاعم، لا سيما اذا كان رجلاً او امرأة يقدر تنوع المذاقات واختلاف الانواع. واذا كان عدد الدول الاعضاء في هيئة الاممالمتحدة يتجاوز 150 دولة، فأغلب الظن ان الغالبية العظمى من تلك الدول ممثلة في العاصمة البريطانية، ليس بسفاراتها بالضرورة، لكن بمطابخها واطباقها الوطنية. ليس هذا فقط، بل من السهل ان تجد مطاعم تقدم اطباقاً تمثل مقاطعات او ثقافات بعينها في داخل الدولة الواحدة. هندي، صيني، ياباني، افغاني، ايراني، اثيوبي، برتغالي، سلوفاكي، بولندي، سوداني، روسي، عربي. ولحسن حظ السائح العربي في لندن ان الاخير يقدم تنويعة واسعة، سواء من حيث الاصول، او التوزيع الجغرافي، او الكلفة. وسواء طالبتك معدتك بصحن من الملوخية المصرية، او طبق كسكس بالخضروات مغربي، او اكلة بمية ويكة سودانية، او تشكيلة مازات لبنانية ستجد مأربك بسهولة ومن دون تعقيدات لا سيما في ما يختص بالاكلات اللبنانية، بعدما انتشرت المطاعم اللبنانية في ارجاء لندن وليس فقط في وسط المدينة. وتخاطب المطاعم اللبنانية كافة اذواق ومتطلبات وموازنات الزوار فاذا رغبت في ساندوتش شاورمة او سجق سريع مع كوب عصير رمان، فلديك عشرات محلات ال"تيك اواي" الصغيرة، ولو فضلت الاستمتاع بوجبة غداء او عشاء كاملة بالشوربة والمازات الباردة والساخنة، واطباق المشاوي المشكلة، والبقلاوة والفواكه، فقائمة المطاعم طويلة. ولو كنت تسعى الى ما هو اكثر من ارضاء حاسة الجوع، فأمامك كذلك سهرات المغنى والرقص مع وجبات العشاء الشهية. ولكل من يعشق الطعام اللبناني فان المكان الأمثل حيث تتنوع الاختيارات هو ما يطلق عليه الانكليز LITTLE ARABIA او "منطقة العرب الصغيرة" وهي شارع ادجوار EDGWARE ROAD الذي يبدأ من منطقة "ماربيل آرش" MARBLE ARCH في وسط لندن. ويقدم هذا الشارع عربي النكهة، والمنظر، والرائحة، والطابع كل ما يود الزائر العربي ان يحصل عليه من منتجات عربية، او حتى مجرد الاستئناس بوجوه عربية مألوفة. ويعتبر اسما "مروش" و"الدار" من الاسماء المعروفة بين ابناء الجالية العربية في لندن، وزوارها من العرب، بالاضافة الى الانكليز انفسهم. وتمثل سلسلة مطاعم "مروش" في هذا الشارع رمزاً اصيلاً لوجود المطبخ اللبناني في العاصمة البريطانية. فصاحبها السيد معروف ابو زكي فتح الحلقة الاولى في سلسلة مطاعمه "رنوش" في اواخر الثمانينات. وكان قبلها يعمل طاهياً في احد المطاعم اللبنانية في لندن ايضاً. وكان "رنوش" وقتها كما هو حالياً يقدم العصائر الطازجة والساندوتشات. وحقق "رنوش" نجاحاً مذهلاً وهو ما شجع ابو زكي على افتتاح "مروش" بعد عامين الذي يقدم العروض الحيّة مع العشاء. وانطلقت المسيرة لتصبح سلسلة مطاعم يتركز اغلبها في "ادجوار رود" بالاضافة الى مناطق "سانت جونزوود" و"هاي ستريت كنزنغتون" و"برومتون رود". وعلى بعد امتار من "مروش" يقع جاره "الدار" الذي فتح صاحبه السيد محمد عيد اول فرع في نيسان ابريل عام 1995 وحقق نجاحاً دفعه الى الحاق اربعة مطعام اخرى به، كان احدثها في عام 2001 ويحمل اسم "موال". ويتساءل كثيرون عن سر شيوع وانتشار المطبخ اللبناني في لندن واقبال العرب والاجانب عليه على حد سواء. والحقيقة انه ليس مجرد ساندوتش او وجبة طعام يتناولها الفرد لتشبع جوعه، لكنه عملية كاملة متكاملة من الاستمتاع بكل صغيرة وكبيرة بما في ذلك تقديم الطعام نفسه. ويحاول السيد محمد عيد فك جزء من لغز الشعبية اللبنانية في العاصمة البريطانية. يقول: "لا يوجد دخل معقول في لبنان من صناعة او زراعة، لكن الاقتصاد برمته يرتكز على قطاع الخدمات، وأحد أفرعه هو الطعام. لذلك تفنن اللبنانيون على مدى العقود في اختراع الاطعمة وتنويعها بدءاً من المازات، ومروراً بالطبق الرئيسي، وانتهاء بالحلو والعصائر". من جهة اخرى يوضح المدير العام لسلسلة مطاعم "مروش" ان الطعام اللبناني طعام صحي، وتتطابق مكوناته ومواصفاته ومقاييس ما يعرف ب"HEALTH FOOD" وهو ما تحرص عليه اعداد متزايد من الناس لا سيما في الغرب. فالمكونات الاساسية للطعام اللبناني هي الخضروات، والحبوب واللحوم الحمراء والبيضاء. والقائمة طويلة من تبولة، وحمص، وبابا غنوج، وورق عنب، وارضي شوكي، والفول المدمس، والدجاج المسحب، وبالخضروات، وبالبطاطا، والمشاوي، والكفتة، والشاورما، ومئات الانواع الاخرى التي يسيل لها اللعاب. ويركز عيد على "الجندي المجهول" في الطعام اللبناني وهو "زيت الزيتون" الذي يجب ان يكون على اعلى درجة من الجودة والنقاء. ولا تأتي هذه الجودة من دون ثمن، وربما هذا ما يفسّر سبب ارتفاع ثمن الاكلات وحتى الساندوتشات اللبنانية مقارنة بالاطعمة الاخرى المنتشرة في لندن من هندية وصينية وتركية وغيرها. ويؤكد عيد على ان "التبولة التي تقدمها مطاعم "الدار" مثلاً تعتمد على الخس والبصل الاخضر من مصر. ولا يحلو ورق العنب كذلك من دون الرز المصري متميز المذاق. وتساهم هولندا بالباذنجان. وقائمة الدول التي نجلب منها مكونات الوجبات التي نقدمها في مطاعمنا طويلة، وهي عملية ضرورية، وان كانت مكلفة، لو اردنا ان نقدم طعاماً مميزاً يعود اليه الزبون مراراً وتكراراً". من جهته يشير خليل الى انتقاء قطع اللحوم والدجاج، وعدم التهاون في النوعية. ففي حين تصنع الشاورما في المطاعم التركية واليونانية المنتشرة في لندن من بقايا اللحوم والدجاج، لا يستخدم الطهاة في "مروش" سوى افضل القطع. ومن العوامل المحددة لنجاح او فشل اي مطعم مستوى وكفاءة فريق العاملين من طهاة ونادلين، اذ يقع على استقبال الزبائن جانب كبير من تقويم الزبون للمكان، واتخاذ قراره بالعودة مرة اخرى الى المطعم نفسه، او البحث عن مطعم آخر اكثر ترحيباً. يقول عيد ان النادل يستقبل الزبائن بوجه بشوش على الباب، وبعد جلوسه، يأتيه بقائمة الطعام ليختار منها ما يريد. ويكون النادل مستعداً لشرح مكونات اي وجبة يختارها الزبون، مع التأكيد مثلاً على احتواء بعضها على مواد قد تكون ضارة لمن يعانون انواعاً معينة من الحساسية، مثل الثوم والبيض وغيرهما. ويؤكد عيد على اهمية الوجود الفعلي لرب العمل في المطاعم، والتأكد من كفاءة ونظافة كل صغيرة وكبيرة. وفي الوقت الذي يفخر عيد بأن العاملين في مطاعم "الدار" اشبه بجامعة عربية مصغّرة، فلديه عاملون من لبنان وفلسطين والجزائر ومصر وغيرها، يؤكد خليل ان غالبية النادلين يأتون خصيصاً للعمل في "مروش" من لبنان بتصاريح عمل رسمية. واولئك يحملون معهم خبرات وشهادات علمية في مجال الفندقة. وسواء هذا او ذاك، فإن المطعام اللبنانية الناجحة في لندن تساهم بشكل غير مباشر في تنشيط حركة السياحة الى لبنان، وذلك من خلال الديكور العربي اللبناني، وحسن الاستقبال، وكرم الضيافة، وجودة الطعام المقدم. ولغرابة القدر، فإن الطعام اللبناني نفسه كان سبباً من اسباب اقبال العرب على لبنان قبل اندلاع الحرب الاهلية. يقول السيد محمد عيد: "قبل بدء الحرب الاهلية كان الطعام اللبناني مقتصراً على لبنان فقط، وكان السياح العرب يعتبرونه من عوامل الجذب السياحي لهم هناك. ومع الحرب، خرج عدد من اللبنانيين من لبنان حاملين معهم اسرار وتقنيات المطبخ اللبناني. ومن هنا انتشرت الاكلات اللبنانية في اوروبا والبلدان العربية". ومن عوامل الجذب الاخرى في المطاعم اللبنانية الشيشة او النارجيلة، والعروض الحية من طرب ورقص شرقي، وعلى رغم انها من جوانب الثقافة العربية الا انها اضحت تجذب الانكليز والسياح الاوروبيين والاميركيين الباحثين عن نوافذ يطلون منها على ثقافات اخرى. لكن الرياح تأتي احياناً بما لا تشتهيه السفن، وهذه المرة هبت الرياح عاتية ومدمرة من بلاد العام سام، وتحديداً في 11 ايلول سبتمبر 2001. فأحداث هذا اليوم الدامي القت بظلالها على العرب في كل مكان، ولم يستثن من ذلك عرب لندن ومطاعمهم. ويحكي السيد محمد عيد نقلاً عن احد زبائنه الانكليز انه استقل سيارة اجرة وطلب من السائق التوجه الى "ادجوار رود" حيث تكتل المطاعم العربية فما كان من السائق الا ان رفض. وكان هذا في اعقاب احداث ايلول. ويتذكر نعمة خليل فترة احتفالات اعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية في اعقاب تلك الاحداث. يقول: "عادة ما تكون مطاعمنا محجوزة بالكامل في هذا الوقت من كل عام. لكن الوضع كان مأسوياً في هذا العام 2001". لكن لحسن الحظ ان الاوضاع بدأت تسترد عافيتها. فبدأت اعداد السياح العرب لا سيما القادمين من الخليج، والزبائن الانكليز في العودة الى معدلاتها الطبيعية. واذا كانت مشكلة الارهاب الى زوال فإن المشاكل التي يعانيها اصحاب المطاعم العربية في "ادجوار رود" مع المجالس البلدية ولدت لتبقى. فهناك محاولات مستمرة من تلك المجالس البلدية الحكومية لوضع قيود على مواعيد اغلاق المطاعم التي تبقى غالبيتها فاتحة ابوابها حتى ساعات مبكرة من الفجر، وذلك بناء على الشكاوى التي يحرص على تقديمها عدد محدود من سكان المنطقة من "اعداء النجاح" كما يطلق عليهم اصحاب المطاعم. لكن "حبال" الحكومة طويلة، وهي بطول بال اصحاب المطاعم، واصرارهم على استمرار اعمالهم حسب قوانين العرب في "آرابيا الصغيرة".