يتحمل الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش مسؤولية سياسية وأخلاقية نحو بلد صغير اسمه لبنان، لأنه بادر إلى اطلاق تصريح تلو الآخر، متعهداً دعم مسيرة هذا البلد نحو الاستقلال والديموقراطية والوقوف في وجه التطرف والتصدي لتحويله قاعدة لسورية أو لإيران، ثم خذله بصمت رهيب وبإبلاغ الذين راهنوا على تعهداته أنه غير قادر أن يفعل شيئاً. كذلك الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي تعهد الحب والولاء للولايات المتحدة وحصل على تفويض من بوش ليدير الملف اللبناني، وعليه الآن واجب تفسير ما فعله هو وطاقمه عندما قرر إعادة النفوذ السوري إلى لبنان ببهلوانية فرنسية مذهلة في جهلها وغطرستها معاً. بالطبع، ان الإدارة الأميركية والحكومة الفرنسية ليستا مسؤولتين مباشرة عن كل اغتيال سياسي جديد لمسؤول حكومي أو لصحافي أو لضابط مرموق في الجيش اللبناني، لكنهما ليستا معفيتين من بعض المسؤولية في تركهما الانطباع بأن الافلات من العقاب على الاغتيالات السياسية بات وارداً الآن، وأن الصفقات مفتوحة على كل احتمال. صحيح أن لبنان سيكون الثمن المباشر للقرار الأميركي السياسي بالتخلي عنه لأسباب تبدو ذات علاقة بإيران ودورها في العراق، وبسورية وعلاقتها بإسرائيل. لكن لبنان لن يدفع وحده هذا الثمن، بل ان أميركا ستدفع هي أيضاً ثمناً غالياً لاطلاقها هيمنة النظام الايراني على العراقولبنان ولخضوعها أمام قوى التخويف والتهديد والاغتيالات السياسية والتخريب. أوروبا أيضاً ستكون ساحة مكشوفة على افرازات وعواقب سياسات الخضوع والارضاء التي كلف الاتحاد الأوروبي فرنسا بها، فتلهفت في عهد ساركوزي على سياسات تمليها المصالح المالية بالبلايين كتلك التي تتحكم بعلاقة فرنسابقطر، التي تقيم علاقة وثيقة بالنظام السوري. فالذي ينتصر في المعركة على لبنان أو يخسر المعركة ليس اللبنانيون وحدهم، وإنما الذين وثقوا بالولاياتالمتحدةوفرنسا والأسرة الدولية المتمثلة بمجلس الأمن والأمانة العامة للأمم المتحدة، وهم يمثلون قاعدة شعبية ونخبة مهمة في منطقة الشرق الأوسط وجزء من العالم الإسلامي. هؤلاء يطالبون مجلس الأمن أن يدافع عن قراراته بقدر ما دافعت القوى الموالية للحكومة اللبنانية عن مركزية هذه القرارات وضرورة تنفيذها، فيما عملت قوى المعارضة وحلفاؤها في دمشقوطهران على التقويض المنهجي للقرارات الدولية. هؤلاء يطالبون الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أن يكف عن ديبلوماسية التقاط الصور وهو يجول العالم بزيارات مبرمجة وأخرى مفاجئة، وأن يتعمق حقاً في معنى خسارة معركة القرارات الدولية في لبنان وآثارها على المنطقة وعلى الأممالمتحدة. واضح أن الصين لا تولي ملف لبنان أي قدر من الأهمية وتتركه، في مجلس الأمن، لروسيا - حليفة دمشقوطهران. كذلك بريطانيا بدورها تترفع عن دور قيادي في ملف لبنان، وتترك القيادة لفرنسا. سفيرا فرنساوبريطانيا جديدان على الأممالمتحدة، وهما يخلفان سفيرين مخضرمين كانت لهما أدوار مباشرة وفاعلة في ملفي لبنانوإيران. السفير الأميركي زلماي خليل زاد أيضاً جديد، إلى حد ما، وهو غير مهتم بالملف اللبنانيوالإيراني، كما كان سلفه جون بولتون. كل ما يريده هو أن يعيد دوراً للأمم المتحدة في العراق ليعين الولاياتالمتحدة هناك. ومما لم يساعد ابداً لبنان أن الممثل العربي الوحيد في السنتين الماضيتين هو قطر التي تنتهي عضويتها آخر هذه السنة والتي"انجزت"تشكيل ما يسمى ب"الزمرة الخماسية"، في إشارة إلى المجموعة التي تحاول تكراراً اجهاض القرارات التي لا تعجب سورية وإيران وتضم جنوب افريقيا واندونيسيا وقطروالصينوروسيا. وبعدما كان الرئيس الأميركي أبلغ قبل أقل من شهرين القوى اللبنانية التي راهنت على دعمه للمسيرة نحو الديموقراطية والاستقلال أنه سيوجه تهديداً ذا صدقية لسورية لتكف عن لبنان، عاد وبعث اليها رسائل واضحة أن الولاياتالمتحدة غير قادرة أن تفعل شيئاً من هذا القبيل. قالت إدارته إن الأجواء لا تسمح بتوجيه"تهديد ذي صدقية"إلى دمشق يبين جدياً أن أميركا ملتزمة بوعودها للبنان ولن تسمح للنظام السوري أن يستعيد نفوذه وهيمنته على البلاد، وأن يفلت من العقاب. هناك رأيان أساسيان، من بين آراء متضاربة ومتطابقة عدة، في شأن ما حدث ويحدث في السياسة الأميركية نحو إيران وسورية مروراً بلبنان وفلسطين والعراق. رأي يقول إن الموضوع الرئيسي للولايات المتحدة هو العراق وليس لبنان، وإن إيران وسورية تتعاونان الآن في مسألة العراق - كل بطرقها الخاصة - بعدما كانتا استخدمتا العراق لابلاغ الولاياتالمتحدة أكثر من رسالة عبر اساليب تضمنت تسهيل هجرة المتطوعين إلى العراق وتضمنت أيضاً ضربات مباشرة للقوات الأميركية في العراق. أصحاب هذا الرأي يقولون إن الأميركيين ليسوا الطرف الذي بادر إلى اصلاح العلاقة وطلب المساعدة، إنما الإيرانيون هم الذين أخذوا المبادرة بعدما تمكنت الولاياتالمتحدة من تحقيق انجازات أمنية مهمة في العراق. أي بعدما تبيّن لإيران أن جورج دبليو بوش لن يهرول هرباً من العراق. عرضت ايران عليه المساعدة وأثبتت له أن لديها معلومات استخباراتية من صميم العراق تساعد الولاياتالمتحدة. الرئيس الأميركي، الذي يتوق للنجاح في العراق، وجد مصلحة استراتيجية له وللولايات المتحدة في تلبية النداء الإيراني. وهكذا حدث التغيير الجذري في العلاق مع ونحو إيران. إيران، من جهتها، أرادت الاعتراف بها لاعباً رئيسياً لا غنى عنه في الموازين الاستراتيجية الأميركية في منطقة الخليج والشرق الأوسط ابتداء من العراق. أولوياتها الفورية واضحة: بقاء النظام في السلطة، وعدم خسارة العراق الذي لها فيه سيطرة ونفوذ بفضل الغزو الأميركي للعراق. القائمون على صنع السياسة الأميركية توصلوا إلى اقتناع بأن لا مانع من اعطاء إيران أسهم شراكة في العراق إذا استعدت طهران أن تضمن مساهمة ايجابية تسهّل - بدلاً من عرقلة - إعادة ترتيب العلاقات الأميركية الثنائية مع الحكومة العراقية. هذه العلاقة الجديدة ستتوج جهود اخراج القوات الأميركية من المدن، كي لا تبقى رهينة التطورات الأمنية فيما يُعاد نشر القوات، بدلاً من الانسحاب الأميركي من العراق. وبحسب أصحاب الرأي القائل بالتوصل إلى توافق أميركي - إيراني ساحته العراق، ان الصراع حُسم بين دعاة تقسيم العراق ومعارضي التقسيم بأي شكل"فجّاً"كان أو"ناعماً". يقول هؤلاء إن القرار النهائي لإدارة جورج دبليو بوش هو الابقاء على عراق موحد. أما اذا جاء الديموقراطيون إلى الحكم، فإن الوضع قد يتغير، لا سيما أن أمثال جو بايدن ولزلي غلب وريتشارد هولبروك، يدعون الى تقسيم العراق لإنقاذه، حسب تصورهم. وأخيراً، يرى اصحاب هذا الرأي أن الناحية النووية في العلاقة الأميركية - الإيرانية تم حسمها بدورها من خلال تقرير الاستخبارات الأميركية التي قالت إن طهران توقفت عن برنامجها السري عام 2003. ويضيف هؤلاء ان النظام في إيران لم يسعَ وراء امتلاك القنبلة النووية بقدر ما سعى وراء"اختلاق النقاش"حول"حق"إيران بامتلاك القدرات النووية. ذلك"النقاش"حول ذلك"الحق"هو الذي ساهم في حشد الدعم الشعبي وراء النظام الايراني، لأنه حرّك المشاعر القومية والشعور بالعنفوان استناداً الى"الحق"بالقنبلة النووية الشيعية في وجه امتلاك باكستان القنبلة النووية السنيّة، وإسرائيل القنبلة النووية اليهودية والهند القنبلة النووية البوذية. وعليه، يرى اصحاب هذا الرأي أن البراغماتية والحكمة الإيرانيتين أسفرتا عن تقويم بسيط هو: أن الانجازات الأميركية في العراق، ومقاومة شيعة العراق لوسائل الاملاء الإيرانية، وتعاون العشائر العراقية مع الولاياتالمتحدة، تضع إيران أمام انتهاز فرصة اصلاح أوضاعها مع أميركا ومع العراق، أو خسارة الفرصة المتاحة ودفع ثمنها. فاتخذت طهران القرار بالتوجه الى التعاون والاتفاق في شراكة صامتة مع الولاياتالمتحدة. هذه الشراكة، حسب هذا الرأي، لا تترجم نفسها سلباً على الساحة اللبنانية، بل قد يكون العكس هو الصحيح. يقول هؤلاء - وهم منخرطون بصورة مباشرة في علاقة لبنان بالاستراتيجيات الأميركية والإيرانية نحو بعضهما البعض ونحو العراق - ان طهران تريد التخلص من عبء"حزب الله"في لبنان بصورة تنقذ ماء الوجه وبضمانات أميركية لا إحراج فيها لحليفها ووكيلها في لبنان. ف"حزب الله"مشروع يكلف مالياً مئات ملايين الدولارات سنوياً لطهران، الى جانب كلفته السياسية. وايران قد تضع علاقتها بهذا الحزب في موازين مختلفة إذا كان سيسبب عرقلة في علاقاتها الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة. تلك العلاقة سيكون اساسها الاعتراف بالنظام والكف من محاولات زعزعته وتهديده وعزله والإقرار بوزنه الاقليمي. وهذا مردود كبير يستحق اعادة النظر إذا كان الخيار البديل هو التمسك ب"حزب الله"والتضحية بفرصة تأهيل النظام الايراني. السؤال الذي يفرض نفسه الآن على جورج بوش وإدارته هو: هل سيؤدي التعاون الأميركي - الايراني في العراق الى صون نموذج التعددية الذي وعدت به هذه الإدارة عندما غزت واحتلت العراق؟ او أن الشراكة مع رجال الحكم في طهران الذين يفرضون نموذجهم الرافض للتعددية ستحبط وتعرّي كل مزاعم الرغبة الأميركية بالتعددية والديموقراطية؟ السؤال ليس عشوائياً ولا هامشياً سيما وانه يتزامن مع بوادر تخلي جورج بوش عن تعهداته بدعم التعددية في لبنان، بل عن خيانة للعملية الديموقراطية وللاستقلالية والتصدي لهيمنة سورية، اعتمدت الاغتيالات السياسية للشخصيات اللبنانية نمطاً وسياسة. وهذا يؤدي الى الرأي الثاني لمعنى الأحداث في لبنان والتي كان آخرها عملية اغتيال ارهابية أخرى قبل يومين قتلت مدير العمليات في الجيش اللبناني، العميد الركن فرنسوا الحاج، أبرز المرشحين لخلافة قائد الجيش العماد ميشال سليمان - بعد ان يتم انتخاب الأخير رئيساً للجمهورية - وأحد أكفأ العسكريين الذي قاد العمليات ضد الارهابيين من"فتح"الاسلام"وغيرهم. يقول اصحاب هذا الرأي ان هذا الاغتيال تزامن مع الشعور العام في لبنان بأن الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي، الممثل بمجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة، تخلى عن لبنان، وان أجواء التخلي عززت ثقة مرتكبي هذه الجرائم ومن وراءهم بإفلاتهم من المحاسبة. فكل ما يفعله مجلس الأمن والأمين العام في الأشهر القليلة الماضية هو اصدار بيانات تطالب سورية وايران بوقف استخدام لبنان ورقة لهما في المقايضات والصفقات، من خلال تعطيل منهجي للمؤسسات الديموقراطية، من البرلمان الى الجيش. روسيا هي ايضاً وراء المماطلة وتقويض المواقف السابقة لمجلس الأمن وهي المسؤول الرئيسي عن تراجع الأسرة الدولية عن دعم القرارات التي أصدرتها وعن دعم حكومة لبنان وجيشه. لكن التراجع في المواقف الاميركية والفرنسية ساهم جذرياً في تقوية المطالبة الروسية بالتقويض المنهجي للقرارات وللبنان. بان كي - مون ايضاً ساهم في التقويض إذ انه تردد تكراراً في مطالبة سورية بتنفيذ ما طالبتها به قرارات مجلس الأمن من تعاون في التحقيق الى ترسيم حدودها مع لبنان الى اعتراف باستقلاله من خلال اقامة علاقات ديبلوماسية معه، الى الكف عن التدخل في شؤونه الداخلية، الى تنفيذ أوامر مجلس الأمن بعدم تسريب السلاح والرجال والارهابيين عبر الحدود السورية الى لبنان. صمت بان كي مون وصمت مجلس الأمن على التجاوزات هو مباركة لسورية ودورها التخريبي في لبنان وهو ايضاً مباركة لإيران وتمويلها وتسليحها ل"حزب الله". صمت مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة حتى بعدما ابلغهما الاسبوع الماضي رئيس التحقيق الدولي في الاغتيالات السياسية المكلف بقرارات في مجلس الأمن سيرج براميرتز ان"القدرات التشغيلية جاهزة في لبنان لاغتيالات سياسية اضافية"، انما هو صمت مخجل. وقد جاء اغتيال العماد الركن فرانسوا الحاج وصمة عار على جبين الأسرة الدولية التي تتصرف باعتذار كلما كان عليها ان تطالب بأصوات حازمة وبتهديد يتمتع بالصدقية يفيد بأن على الذين يرتكبون هذه الفظائع ان يرتجفوا خوفاً. بدلاً من ذلك، ها هي حكومة نيكولا ساركوزي تتباهى بأنها، على عكس حكومة جاك شيراك السابقة، لن تتعمد عزل سورية. انها، بكل وقاحة، تتباهى باعتزامها تأهيل الحكومة السورية التي ضربت بعرض الحائط جميع القرارات الدولية. والأنكى ان ساركوزي كلف رجلاً له تاريخ في عدم الجدية ملف وزارة الخارجية، فأخذ برنار كوشنير على عاتقه مهمات اعادة سورية من النافذة الساركوزية الى لبنان بعدما كانت فرنسا شيراك أخرجتها من لبنان ركلاً من الباب المفتوح وحشدت وراءها الدعم الدولي. لقد نسي ساركوزي وفريقه ان البوابة اللبنانية هي التي أعادت العلاقة الفرنسية - الأميركية الى الشراكة والصداقة في أعقاب القطيعة بسبب العراق. وها هو ساركوزي اليوم يتوسل الولاياتالمتحدة ان تقبل به شريكاً ليحل مكان ما كان يعرف ب"البودل"poodle البريطاني توني بلير. وهو يفعل ذلك في خيانة واضحة للباب اللبناني الذي فتح المصالحة الأميركية - الفرنسية ويفعل ذلك عبر فتح النافذة للتسلل السوري للتحكم مجدداً بلبنان. خطاب نائب الرئيس السوري، فاروق الشرع قبل أيام هو خطاب انتصار نموذج العنف والاستهتار بالقرارات الدولية وبالدعوات الى الديموقراطية واحترام استقلال لبنان. ما ساهم في تمكينه من إلقاء هذا الخطاب هو السياسة الفرنسية، المدعومة أميركياً، وليس فقط تحالف سورية مع ايران. خطب"الانتصار"الآتية من القيادتين في طهرانودمشق ليست خيالية. انه الانتصار على الأسرة الدولية وعلى القرارات التي أصدرتها وطالبت كلاً منهما بالامتثال لها وإلا... فالتراجع الاميركي والفرنسي عن"وإلا"تمثل الآن في خيانة للبنان، لكن ثمن التضليل والتراجع والخذل لن يدفعه اللبنانيون فقط. انه ثمن آتٍ على الأميركيين والفرنسيين والأوروبيين الذين سيدفعون استحقاقات قرارات عقد الصفقات مع أنظمة الاغتيالات السياسية والسيارات المفخخة واستخدام الحدود لتسهيل هجرة الارهاب وتمويل الميليشيات وتسليحها في لبنان، وكذلك في العراق لضرب القوات الأميركية. اللبنانيون صمدوا لثلاث سنوات واستولوا على عقل وذهن وتطلعات الملايين من أهل المنطقة العربية والاسلامية. باتوا نموذج الانتخابات الديموقراطية والشرعية الدولية والذكاء السياسي في وجه الاغتيالات والارهاب المستورد. الذي لم يصمد هو ادارة جورج بوش وحكومة نيكولا ساركوزي ومجلس الأمن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة وهم الخاسرون لأنهم انهاروا أمام الابتزاز والتخويف والرشوات وكلفة ما فعلوه ستكون غالية.