تتداخل عناوين النفط والحرب والعقوبات في الأحاديث الاستراتيجية بين الولاياتالمتحدة والصين وتبرز فيها إيران والسودان واحتمالات المقايضة في التفاهم عليهما. السودان ملف أسهل على رغم تعقيداته المتعددة وقد يكون مكاناً آخر للتعاون الأميركي - الصيني في أعقاب التعاون العملي العسكري والسياسي والاستراتيجي القائم بينهما في مواجهة القرصنة التي صدّرها ويصدرها الصومال. إيران أصعب بسبب التقاطع بين طموحات الجمهورية الإسلامية الإيرانية في العراق ولبنان وفلسطين من جهة، ولأن إسرائيل لاعب يمسك أوراق المفاجأة - أو سيناريو الرعب - ويراقب عن كثب مسيرة الحديث الدولي مع إيران وأصدقائها و «كواكبها». مواقع الدول الخليجية، في أحاديث التعويض عن النفط للصين في حال فرض إجراءات عقوبات قاسية تستفز إيران، مواقع مهمة بالتأكيد إنما الأنظار «الاستراتيجية» منصّبة على العراق لأنه كنز احتياط نفطي وهو ما زال قابلاً «للاقتسام». لبنان مهم في معادلة المخاوف من شرارة حروب تشعل أجزاء من المنطقة لكنه ليس مهماً بقدر العراق، كذلك فلسطين التي هي ذات أهمية في معادلات الحديث عن المنطقة. إنما بقدر محدود ومحصور بعنوان اللا استقرار وليس بعناوين استراتيجية كبرى كما العراق. هذا لا ينفي العلاقة بين خياري الحرب والعقوبات في تناول الدول الكبرى لملف إيران وبين احتياجات إطلاق شرارة الحرب لدى كل من إيران وإسرائيل في فلسطين ولبنان لغايات تخدم أياً منهما وتورط الآخرين. لكل هذه الأسباب، بدأت العملية التفاوضية، السياسية والنفطية والاستراتيجية، على صعيد الثنائي الأميركي - الصيني وكذلك بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. واضح أن التنسيق الصيني - الروسي مستمر، وأن واشنطن ولندن تتفاهمان. ما ليس واضحاً هو الدور الفرنسي الذي يشبه كثيراً كلاً من الرئيس نيكولا ساركوزي ووزير خارجيته برنار كوشنير في المطاطية والتوتر والتقلب والاهتزاز بين لبنان وفلسطين وسورية والعراق على الأوتار الإيرانية والإسرائيلية. لجم إسرائيل عن توجيه ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية بات قراراً دولياً يلاقي إجماع الدول الكبرى، بل وإصرارها عليه، أما تكلفة «اللجم» فإنها قيد المساومات الممتدة من الخليج الى الشرق الأوسط. الأسرة الدولية تدرك أن إسرائيل غير قادرة عسكرياً على عملية انفرادية ضد إيران على نسق نسفها المفاعل النووي في العراق او عمليتها الغامضة في سورية ضد مواقع زعمت انها ذات علاقة ببرامج نووية. على رغم ذلك، ان الأسرة الدولية في صدد تلبية أولويات إسرائيلية آنية مثل منع المس بها أثناء مؤتمر مراجعة معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في الأممالمتحدة الشهر المقبل، مع العلم أن إسرائيل ترفض توقيع المعاهدة أو الخضوع لأي نظام دولي نووي يؤدي الى فتح أبواب التحقيق في برامجها ومنشآتها ومفاعلاتها النووية العسكرية. ضمن أهم ما حدث في «قمة الأمن النووي» التي عُقدت هذا الأسبوع في واشنطن هو تركيزها على أولوية مكافحة «الإرهاب النووي» وإبراز المخاوف من وصوله الى أيدي الجماعات الإرهابية في العالم، وفي طليعتها المجموعات الإرهابية الإسلامية على نسق «القاعدة». صحيح أن رسائل ضمنية عدة خلال القمة وعلى هامشها أثارت المخاوف من إيران وكوريا الشمالية وضرورة عزلهما ومنعهما من تطوير الأسلحة النووية. إنما الرسالة الأقوى والأوضح أتت في تحويل الأنظار عن امتلاك الدول للقدرات النووية وبين وقوع هذه القدرات بين أيدي الجماعات الإرهابية، وكأحد عوارض إعادة خلط أوراق التركيز، حدث شبه إعفاء للدول التي تملك السلاح النووي وترفض الانتماء الى «معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية» من التدقيق والمحاسبة. وهذا بدوره سينعكس في مؤتمر مراجعة المعاهدة في نيويورك وسيتداخل مع المفاوضات الجارية على مشروع قرار تعزيز العقوبات على إيران بسبب الشكوك في برامجها النووية. هذه المفاوضات دخلت عتبة جديدة في أعقاب اللقاء المهم بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الصيني هو جينتاو لأن الرئيسين تحدثا معاً اللغة الاستراتيجية وفي مقدمها الناحية النفطية. فواشنطن تتفهم احتياجات بكين في قطاع النفط وترى أن هناك حاجة لطمأنة الصين وتوفير البديل النفطي عما توفره لها إيران إذا اقتضت الحاجة، ولذلك تتوجه الإدارة الأميركية الى الدول العربية النفطية لتوفير البدائل الجاهزة فيما تتحدث بلغة المصالح المتبادلة مع الصين في مكانين آخرين مهمين نفطياً هما السودان والعراق. الصين مهتمة فائق الاهتمام بالسودان لأسباب نفطية أولاً وكانت دوماً في صدارة معارضة معاقبة النظام في الخرطوم عبر إجراءات دولية مهما حدث في دارفور أو في الجنوب. هذه الأيام، تجد الإدارة الأميركية نفسها أكثر اهتماماً بتطور العلاقة بين الجنوب والشمال في السودان مما هي بالتطورات في دارفور، وتجد نفسها أقرب الى مواقف الصين القلقة من إفرازات وعواقب احتمال انفصال الجنوب عن السودان والذي جاء نتيجة اتفاقية رعتها الإدارة السابقة. وعليه، هناك أفكار تدور في فلك المطلعين على هذا الملف تصب في خانة التشجيع على حديث أميركي - صيني يقايض التساهل الأميركي في موضوع السودان وعدم الإصرار على مسيرة الانفصال مقابل التشدد الصيني مع إيران لإبلاغ الملالي أن الخيارات المتاحة أمامهم هي: إما الموافقة على المفاوضات التي تعرضها الدول الخمس زائد ألمانيا وتنطوي كأمر واقع على تلبية أولوية للإيرانيين هي الاعتراف بنظام الحكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بازدراء للمعارضة وقطع الطريق عليها عملياً. أو مواجهة العقوبات الجدية المؤذية لنظام «الحرس الثوري» والتي تهدف الى تقويض السعي وراء امتلاكه السلاح النووي. أو إعادة التفكير مجدداً في الحسابات التي استنتجت أن الولاياتالمتحدة غير قادرة وغير مستعدة لاستخدام الضربة العسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، لأن تلك الحسابات خاطئة، لا سيما إذا أُخِذَت في إطار التحديات السياسية المحلية والانتخابية للحزب الديموقراطي وللرئيس باراك أوباما. والذين يتحدثون بهذه اللغة يتهكمون على الداعين الى القبول بإيران نووية والخضوع لأمر واقع يفرضها كدولة نووية، وفي رأيهم أن ذلك قطعاً غير وارد وأن كل ما يحتاجه الرأي العام الأميركي ليبدل معارضته لعملية عسكرية أميركية على إيران هو إبراز أخطار امتلاك ملالي طهران قنابل نووية قابلة للتصدير الى جماعات إسلامية متطرفة وإرهابية. وبحسب مصادر مطلعة فقد ابلغت الولاياتالمتحدة الصين أن استخدام الخيار العسكري قد يكون حتمياً ولا مفر منه إذا استمر التعنت الإيراني في رفض «جزرة» المفاوضات والاعتراف والتأهيل والعودة عن أنماط العزل والعداء للإدارة الأميركية السابقة. وعليه، تشجع واشنطن الديبلوماسية الصينية على القبول بعقوبات جدية وصارمة وذات أنياب على إيران لأن العقوبات تؤخر - إن لم تعطل مرحلياً - اللجوء الى خيار استخدام القوة العسكرية. ولأن هذه المعادلة غير كافية بمفردها في اللغة الاستراتيجية، فالحديث حول العراق هو أحد أعمق الأحاديث غموضاً وسرية. بل ليس واضحاً بعد أن كانت عناوين ذلك الحديث قد خرجت عن حفنة من صناع القرار. فالعراق ثروة نفطية ضخمة ستغيّر المعايير بعدما يتم استكمال تجهيز البنية التحتية النفطية العراقية في غضون أربع أو خمس سنوات. إدارة جورج دبليو بوش أرادت الاستفراد بالثروة النفطية العراقية عندما اتخذت قرار غزو واحتلال العراق ورفضت مبدأ تقاسم تلك الثروة مع الدول الأخرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن. لكن إدارة باراك أوباما تتحدث بلغة مصالح أميركية مختلفة جذرياً عن لغة المصالح الأميركية التي تحدثت بها إدارة بوش. إدارة أوباما تتحدث عن «الشراكة» وعن «التقاسم» في المسؤولية وفي المردود. إنها تلجأ الى الترغيب بتقاسم للثروات كما بصفقات ثنائية فتكسب دولاً مثل البرازيل التي زايدت وسابقت وتعالت ثم انطوت في لواء تعزيز العقوبات على إيران. وبالتالي، وإذا كانت إدارة باراك أوباما مستعدة حقاً للتحدث مع أمثال الصين وروسيا بلغة تقاسم ثروة العراق النفطية بدلاً من الاستفراد بها، وإذا كانت الصين حقاً تستمع باهتمام، فإن طهران عندئذ في غاية التأهب والقلق. هذا التأهب لا يعني أن طهران قادرة على إملاء ما تريده في العراق، لا سيما لجهة من هو رئيس الحكومة المقبلة بعد الانتخابات. فطهران تدرك أن الإفراط في تدخلها ودفعها بكتل ائتلافات الولاء لها الى الصدارة - على رغم ما أسفرت عنه الانتخابات - سيؤدي الى فوضى عارمة إن لم يكن الى حرب أهلية في العراق. وطهران غير قادرة على تحمل حرب أهلية أو اندلاع الفوضى العارمة واللا استقرار في الجيرة العراقية لأن ذلك يعرّض النظام الإيراني للخطر ويطوّقه من حدوده ومن داخله معاً ويكبل يديه وطموحاته النووية والإقليمية. إنه يشبه انتحاراً سياسياً لا تستسيغه العقلية الإيرانية التي تفضل الصبر والرهان على الوقت والتسويف. أما على صعيد سورية ولبنان، فتزداد المخاوف من احتكاك عسكري غير مباشر بين إسرائيل وإيران عبر «حزب الله»، ويزداد الإنذار الأميركي والإسرائيلي الى سورية بعدم عبور «الخط الأحمر» من خلال تزويدها «حزب الله» بأسلحة نوعية متفوقة تعبر إليه عبر سورية من إيران. المواقف الأميركية التي عبر عنها نائب المندوبة الدائمة السفير اليخاندرو وولف في مجلس الأمن هذا الأسبوع ليست مجرد طمأنة لإسرائيل لردعها في موضوع إيران، وإنما هي رسائل جدية الى دمشق والى طهران. أما تصريحات الرئيس الروسي وسفيره لدى الأممالمتحدة فيتالي تشوركين التي حذرت من عواقب «شرارة» اندلاع حرب إقليمية عبر لبنان فإنها تحذر إسرائيل عبرها وتبلغها أن ذلك مرفوض في الوقت الذي تصر موسكو على إبلاغ طهران أن المخاطر عليها جدية وحان الوقت لها للاستدراك.