الخوف والرعب يمتلكان الكثيرين في بقع عربية عدة لأسباب مختلفة جذرياً وبسبب سيناريوهات بعضها حقيقي، وبعضها يدخل حيز الاساطير، وبعضها يستخدم ذخائر في حروب الاعصاب المستعرة في بيروتودمشق وبغداد وفي الصفوف الفلسطينية. الأعصاب في طهران اقل التهاباً لأن الجمهورية الاسلامية واثقة تماماً ان الولاياتالمتحدة لن تتصادم معها عسكرياً، واسرائيل لن تضرب مفاعلها، ولأنها تعتبر نفسها رابحة نتيجة حرب العراق، سواء غادرت القوات الاميركية تقهقراً، أو انسحبت تدريجاً، أو بقيت متورطة في المستنقع. كذلك دمشق، فإنها في اشد درجات الارتياح، ليس لأن المؤشرات الآتية من واشنطن تفيد بإمكانية حاجة الحزبين الجمهوري والديموقراطي لمساعدتها في العراق فحسب، وإنما الأهم لأن اللوبي اليهودي الاميركي واسرائيل أوضحا أنهما يريدان بقاء النظام السوري في السلطة باعتباره أضمن صمام أمان للمصلحة الاسرائيلية في وجه المفاجآت التي قد تأتي بها العملية الديموقراطية. وبالتالي، يمكن استبعاد أي مواجهة عسكرية سورية - اسرائيلية لزمن بعيد. ولكن كل هذا لا يعني أبداً ان الخطر زال عن النظام في دمشق. بل ان حشد دمشق قواها مع حلفائها لاسقاط او لتقييد سلطات وصلاحيات المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات الارهابية في لبنان، انما يؤشر الى قلق عميق داخل القيادات السورية وقيادات لبنانية. لذلك تصعد حروب الاعصاب فيما اعصاب الذين يصعدونها تحترق. الذين يسوقون نظريات واشاعات اتخاذ الادارة الاميركية قرار الاستغناء عن لبنان والتضحية به ثمناً مقابل خدمات سورية لها في العراق، يستعجلون الأمور ويقفزون الى استنتاجات ولربما يضللون عمداً. فليس صحيحاً ان جورج بوش بات جاهزاً لإعادة تأهيل سورية ومستعداً للاطاحة بالمحكمة ذات الطابع الدولي في صفقة تضمن له تعاونها عبر الحدود السورية - العراقية وداخل العراق، حتى لو كان لدى أي من أقطاب الإدارة الاميركية رغبة في التملص من المحكمة من أجل صفقة، فالتحقيق قطع أشواطاً وأصبح شبه مستحيل للولايات المتحدة الآن ان تغامر بتوفير أدوات الانتشال لسورية أو غيرها. مثل هذه الصفقة عرضت في السابق على اساس ان يضحي الرئيس السوري بشار الأسد بأي متورطين سوريين، حكوميين او عسكريين في اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري مقابل حصانة للنظام. هذه الصفقة لم تتم، بل ان اغتيالات أخرى وقعت بعد ذلك، بعضها له ارتباط وثيق وترابط مع اغتيال الحريري ورفاقه مما يجعل هذه الاغتيالات الارهابية منهجية. وصعب جداً ان تتمكن واشنطن أو غيرها من مد حبل الانقاذ الى دمشق قبل شهرين من تقرير مهم للتحقيق الدولي في هذه الأعمال الارهابية والذي يترأسه سيرج براميرتز. المفاوضات بين أعضاء مجلس الأمن ومع الامانة العامة للأمم المتحدة تكشفت هذا الاسبوع في اجتماعات بدأت نهكة المقايضات تتسرب اليها. حتى الآن، تتبنى روسيا المواقف السورية نحو المحكمة، والتي أوضحت معظمها ملاحظات حليف دمشق في قصر بعبدا، رئيس الجمهورية اللبنانية اميل لحود. هذه المطالب السورية تقدمها الديبلوماسية الروسية واحدة تلو الأخرى، بصورة توحي ان روسيا تعمل على تأخير انشاء المحكمة وكذلك على تقليم أظافرها لدرجة ان لا يكون لها صلاحية محاكمة اي مسؤول سوري يثبت التحقيق تورطه في اغتيال الحريري أو في الاغتيالات الأخرى. بكلام آخر، ما ارادته الديبلوماسية الروسية في الأممالمتحدة هو تأمين الحصانة للقيادات السورية وللنظام السوري، من خلال رفض تصنيف الاغتيالات بأنها"جريمة ضد الانسانية"ومن خلال رفضها ترابط الاغتيالات ال14 الأخرى مع اغتيال الحريري ورفاقه. انما حتى بعدما حصلت روسيا على تنازلات وحذفت الإشارة الى تعبير"جرائم ضد الانسانية"وحصرت صلاحية المحكمة بمقاضاة اغتيال الحريري وما يثبت ارتباطه بها من اغتيالات أخرى، عادت سورية الى روسيا لتدفع بها الى مطالبات أخرى، جديدة وقديمة، لتفريغ المحكمة من البُعد الدولي الذي يعطيها صلاحيات تعبر الحدود اللبنانية. أوساط الأممالمتحدة تتحدث عن مواقف لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تتناقض مع تعهدات قطعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للرئيس الفرنسي جاك شيراك، وتقول هذه الأوساط ان التذمر من لافروف جاء من شيراك نفسه. هذا كلام يصعب هضمه لا سيما في التركيبة الروسية، وهو يوحي بأن وعود بوتين لشيراك قد لا تكون قاطعة بالدرجة التي فهمها أو شاء فهمها. صحيح ان هناك تنفيذاً للتعليمات بدرجة مختلفة من الحدة، وان بين الوفد الروسي لدى الأممالمتحدة خبراء في الشأن السوري - اللبناني، يتميز بعضهم بالحدة في تقبل الطروحات السورية كما في طرحها. ولكن المواقف التي يتقدم بها الوفد الروسي لدى الأممالمتحدة هي مواقف الحكومة الروسية وليست مواقف سيرغي لافروف. فالمسألة أكبر من شخصيات لأنها تتعلق بمصير نظام بأكمله في دولة ليست هامشية بحد ذاتها، وأهميتها تزداد نظراً لتحالفها مع ايران، الدولة الاساسية في الحسابات الدولية. ولكن، ومهما شعرت دمشق أنها موقع تجاذب واستقطاب بين روسياوالولاياتالمتحدة لأهميتها الاستراتيجية عراقياً وايرانياً، تدرك دمشق ايضاً ان نقطة ضعفها هي في تاريخ ما صنعته في لبنان وما تفعله الآن، فمهما اثرت معادلات المقايضات بين الدول الكبرى في التجاذبات السياسية والاستراتيجية، فإن جرائم الاغتيالات صنفها مجلس الأمن"ارهابية"وأقر انشاء محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة الضالعين فيها، بدءاً بقتل الحريري ورفاقه. وهذا ما يسرق النوم من عيون كثيرين من المعنيين بهذه الجرائم في لبنان وسورية، ويضرب اعصابهم كدقات الساعة. بالتأكيد، هناك بينهم من يراهن على الاستقواء ودب الرعب والمزايدة والتضليل، ولذلك يبعث الروح في الشائعات التي تزعم ان الادارة الاميركية حسمت أمرها وقررت ان لبنان قابل للتضحية به وتسليمه مجدداً الى سورية باعفاء كامل لها من أي محاكمات أو محاسبات. باختصار، هذا هراء. قد تكون هناك مقايضات في صفقات استراتيجية أو قد يكون هناك رضوخ لأمر واقع يتطلب غض النظر عن تجاوزات وعن طموحات. ولكن، لن يكون في امكان الادارة الاميركية، ولا الحزب الجمهوري الجائع لولاية أخرى، ولا الحزب الديموقراطي الطامح للسلطة، القفز على استنتاجات التحقيق الدولي وعلى محاكمة الضالعين بالاغتيالات. البعض يخالف هذا الرأي ويعتقد أن الولاياتالمتحدة الأميركية عائدة الى زمن وضع"الاستقرار"في المرتبة الأولى والأعلى على أية اعتبارات كانت، بما ينسف"أوهام"الدمقرطة وبما يجعل أي شيء قابلاً للاستغناء عنه أو التغطية عليه. هذا البعض يرى أن لبنان أسهل العقد، وهو أقل الممتلكات الاستراتيجية قيمة سيما على ضوء حالة التهادن بين اسرائيل وسورية وبين ايرانوالولاياتالمتحدة. وحسب هذا الرأي، فالعراق هو الهوس الأميركي الأول والأخير، وطالما أن هناك حاجة الى ايران وسورية في مسألة العراق، بإمكان سورية وايران أن تحصلا على أي شيء يريد احدهما الحصول عليه، بما في ذلك بلد هنا أو هيمنة هناك. القائلون بهذا الرأي يشددون على أن المحرك الوحيد الآن للسياسة الأميركية وللحزبين الجمهوري والديموقراطي هو كيفية الخروج من العراق ومن هي الأطراف التي تسهّل هذا الخروج كي لا يبدو أنه هرب. الرأي الآخر يشير الى جهل بشخصية جورج دبليو بوش والى استباق في غير محله لما سيتقدم به جيمس بيكر، وزير الخارجية الاسبق الذي يرأس"فريق دراسة العراق"من استنتاجات وتوصيات. أصحاب هذا الرأي يحذرون من الوقوع تحت وطأة التضخيم بكل أبعاده وهم يقولون ان ما تسرب عن استنتاجات جيمس بيكر لا علاقة له بما يذاع ويقال عن طبيعة استنتاجاته. الدعوة الى التحاور والحوار مع ايران وسورية ستكون على الأرجح من بديهيات توصيات بيكر، كما هي في طروحات القادة الديموقراطيين وبينهم السناتور هيلاري كلينتون التي جعلت من خطابها أمام"مجلس العلاقات الخارجية"هذا الاسبوع صرخة الى التحاور، لكنها لم تقل حول ماذا ولماذا هذا الحوار الضروري مع ايران وسورية في شأن العراق ولم تقل ما هي معطيات وحدود صفقة الحوار. البعض في الأوساط الأميركية السياسية يعتقد ان ايران تريد من الولاياتالمتحدة مجرد التحاور معها وكأن هذه هي"الهدية"أو"المكافأة"أو"المقابل"في اطار الأخذ والعطاء الاستراتيجي بشأن العراق وما بعده. وهذا بدوره هراء. فايران ليست في حاجة الى اعتراف أميركي بها من خلال التحاور معها. مطالبها أكبر، وعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا والصين أثمن بكثير من مجرد تحاور أميركي معها. سورية قصة مختلفة من ناحية الأهمية، لكن لها بعداً مهماً في الأخذ والعطاء بسبب افرازات الأهمية الايرانية عليها. كلاهما مهم بقدر عطائهما في العراق حسب المؤشرات على السياسة الاميركية التي يتم إعدادها من قبل ادارة بوش والحزبين الجمهوري والديموقراطي. انما هناك اختلافات في التقويم وهناك عوامل شخصية، وفي المرحلة الراهنة فشخصية جورج بوش ما زالت مؤثرة جداً في العلاقة مع العراقوايران وسورية. عناد جورج بوش عنصر مهم يجب أخذه في الحسبان، اذ ان الرئيس الأميركي ينظر الى ايران وسورية كدولتين جارتين للعراق استخدمتا حدودهما معه لتسريب المقاتلين والسلاح والعتاد لمحاربة القوات الاميركية هناك. رأيه ان الدولتين لعبتا دوراً اساسياً في تقوية"العدو"في حرب الارهاب التي تتخذ من العراق اليوم الساحة الأهم لها. ولأن جورج بوش يعتبر هذه الحرب بوصلة رئاسته، فهو يرفض القول انه انهزم فيها ويرفض صيغ ومعادلات انتشاله من حرب العراق بصفقات انهزامية. ان جورج بوش ينظر الى اقتراحات تأهيل ايران وسورية كدولتين صديقتين تساعدان الولاياتالمتحدة على الخروج من العراق بأنها مكافأة للابتزاز ومكافأة لدعم الارهاب واستخدامه وسيلة لإخضاع اميركا. ولذلك، قد لا يوافق على التوصيات باحتضان ايران وسورية وضرب صفقات معهما للخروج من العراق. فهو ليس مقتنعاً تماماً بهذه النصيحة. الضغوط الانتخابية والأوضاع السيئة في العراق بدأت تدفع بوش الى التراجع عن المضي في مسلكه والموافقة على التحدث عن خيارات أخرى. ما يتفق عليه الجمهوريون التقليديون في الحزب الحاكم والديموقراطيون الساعون وراء السلطة هو ان هناك حاجة لوضع استراتيجية خروج من العراق. كلاهما يتحدث بلغة"الواقعية"وضرورة التخلي عن"أوهام"الديموقراطية في المنطقة العربية والعودة الى متطلبات"الاستقرار"التقليدية، بما فيها دعم الأنظمة التي تخدم المصالح الأميركية بدلاً من المغامرة بالفوضى والحروب لخلق نظام اقليمي مختلف. في هذا، كلاهما يكن بالغ الكراهية للمحافظين الجدد وينظران اليهم بأنهم دعاة الحرية والديموقراطية في المنطقة العربية وليس كزمرة متطرفة ورطّت المنطقة في حرب العراق خدمة لاسرائيل ولايران، عملاً وليس بالضرورة سهواً، انما هذا ايضاً كلام فترة انتخابية يدخل في حديث المزايدات وليس بالضرورة برنامجاً سياسياً للعلاقة الأميركية الاستراتيجية بمنطقة الشرق الأوسط والخليج. القاسم المشترك في حديث هذين المعسكرين، الجمهوري والديموقراطي، ينطوي على بعض العنصرية ضد العرب، اذ كلاهما يقول بمنتهى الراحة و"الواقعية"ما فحواه ان الشعوب العربية غير مؤهلة للديموقراطية. كلاهما يريد سياسة جديدة نحو المنطقة لكنه غير مستعد لاتخاذ القرارات الضرورية لاصلاح العلاقة الاميركية - العربية المتدهورة، مثل المعالجة العادلة للقضية الفلسطينية لأن اسرائيل مسألة داخلية في الانتخابات الاميركية. كلاهما يتحدث عن انسحاب تدريجي من العراق باسم الواقعية فيما المصلحة الأميركية تتطلب حقاً اما الانسحاب الفوري من العراق والتمركز على متن سفن حاملات الطائرات وفي القواعد القريبة منه لاستعادة القدرة الأميركية على ممارسة القوة بدلاً من الاستنجاد بايران أو غيرها، أو مضاعفة عدد القوات الأميركية لكسب الحرب في العراق وهذا يتطلب بالضرورة الدعوة الصادقة والواضحة الى التجنيد الاجباري ورفع الضرائب الأميركية. أثناء الحملات الانتخابية تتكاثر الوعود وتنمو الطموحات ويلبس التضليل قبعة تخفي مظاهر الاضطراب، ليس فقط داخل الولاياتالمتحدة وانما في عواصم عديدة في العالم. بعض التأني في محله قبل القفز الى استنتاجات. فالدول الكبرى في خضم المقايضات على عديد من الملفات. لكن هذا لا يعني تلقائياً ان الصفقات باتت جاهزة للتوقيع، بل العكس. انه الفرز الذي يفتك بالأعصاب الملتهبة للمستقتلين على صفقات تنتشلهم من استحقاقات آتية.