لا مكان للصفقات والمساومات وسط التصعيد القاتل الذي يقوده "حزب الله" وحلفاؤه المحليون داخل لبنان ووسط المحاولات السورية لمنع انشاء المحكمة الدولية لمقاضاة الضالعين في الاغتيالات السياسية في لبنان. لا مجال لتفاهم أميركي مع ايران في شأن العراق لأن ما تريده طهران هو المكافأة الاستراتيجية المتمثلة في امتلاكها مقومات الهيمنة الاقليمية من النفط الى القدرات النووية وليس مجرد فتات المكافآت. أحلام المحافظين الجدد الذين سبق واختطفوا جورج دبليو بوش وورطوا الولاياتالمتحدة في حرب العراق بهدف تفتيته كخطوة أولى على طريق تفكيك المنطقة هي أحلام خائبة ستصبح الكابوس الأضخم للأميركيين والعرب والمسلمين كلهم على السواء. ومسؤولية جورج بوش الكبرى الآن تتطلب منه الانقلاب الجذري على خطط وأوهام هذه الزمرة التي اقتادت أميركا الى حافة الهلاك وأدخلت منطقة الشرق الأوسط في حرب طائفية بائسة. وهذا يتطلب منه ان يتخلص من عبء العراق واعتماد استراتيجية الخروج منه بصورة فورية، أولاً من أجل اعادة الانتشار عسكرياً واستعادة المبادرة. وثانياً، من أجل ترك ايران تتخبط في إرث الحروب الطائفية التي وفرت لها الوقود في جيرتها المباشرة. وثالثاً، كي يفهم حلفاء ايران في سورية ولبنان ان وراثة ايران لعراق مشرذم أو مقسم سيحجب عنهم الأموال والسلاح والاستقواء بطهران، لأن حكام ايران سيسقطون في دوامة لم يحلموا بها تطالهم حتى في عقر دارهم، بصورة أو بأخرى. هكذا فقط يمكن تغيير مسار التيار الذي جاءت به حرب العراق، وهذا يتطلب من جورج بوش الطلاق الصريح والقاطع، في ذهنه وفي سياساته، مع فكر وخطط المحافظين الجدد الذين دمروا رئاسته. يتطلب اعتماد سياسة زج ايران في خانة وراثة العراق بحروب طائفية وبشبكة"القاعدة"واخواتها هناك. محاولات السيطرة على الثروة النفطية في المنطقة العربية من خلال محاولات السيطرة على منابعها سياسة استفزازية خطيرة سيدفع ثمنها الشيعي والسني على السواء وكذلك الأميركي أو الأوروبي أو الاسرائيلي الذي قد يكون شريكاً في هذا المشروع القديم الجديد. تنفيذ هذه السياسة سيثير عداء لا مثيل له يُقزم عداء اليوم للولايات المتحدة وحلفائها ويضرب استقرار المنطقة ويهدد بانتقام ونقمة نوعية. فلقد سبق ان اعتمدت السياسات الاميركية المتتالية مختلف المعادلات الطائفية في مراحل مختلفة إذ صنعت الاصولية السنية في افغانستان عندما كانت ايران الشيعية في مقام"العدو"بعد اندلاع الثورة الخمينية. وجاء"خريجو"الأصولية السنية من المدرسة الاميركية ليشملوا شبكة"القاعدة"وأمثالها وليتحالف بعضهم مع الثورة الايرانية ويقيم شراكة مع ايران في حرب الارهاب ضد الولاياتالمتحدة. اختبرت السياسة الأميركية تحريض السنة على الشيعة في حرب صدام حسين مع ايران، فقدمت للرئيس العراقي الذي تحوّل لاحقاً الى"العدو الأعظم"كل سلاح ودعم ومال، ليمنع تصدير الثورة الايرانية الى الدول الخليجية المجاورة، من جهة، وليتلهى السنة والشيعة في قتال بعضهم بعضاً لإنهاك الفريقين. وعندما جاء ارهاب 11 ايلول سبتمبر 2001 الى الساحة الاميركية تحولت السياسة الأميركية، بإيحاء من زمرة الاعتذاريين لاسرائيل، الى معاداة للسنة باعتبار ان الذين ارتكبوا ارهاب 11 ايلول جميعهم من الاصولية السنية. وأُقنع جورج بوش بحرب العراق، فيما وضع"المفكرون"داخل الإدارة الاميركية من ذوي العلاقة الحميمة مع تلك الزمرة خرائط طائفية تنتهي بتحالف أميركي مع القوة الشيعية الناهضة في العراق وعدد من الدول المجاورة ومع النظام الحاكم في ايران لانشاء المنطقة النفطية الأهم فيما يُعرف ب"بترولستان". الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد خرب بعض هذه الخطط بسبب شخصيته التي تفتقد الحنكة الايرانية المعهودة وبسبب تصريحاته المرفوضة أميركياً واسرائيلياً، ولأنه بالغ في استفزازاته النووية. الرجل الآخر الذي في أيديه مفاتيح القضاء الكامل على مثل هذه الخطط هو جورج بوش بشخصيته العنيدة الرافضة لاحتضان ايران بعد التحدي والجفاء. لذلك، من المستبعد ان يدخل جورج بوش في دهاليز المساومات مع ايران في هذا المنعطف. ما فعله عندما أعلن استراتيجيته الجديدة نحو العراق هو انه بعث رسالة صارمة الى طهران أدت بالقيادة الايرانية الى الشعور ببعض الزعزعة، فتحركت المؤسسة الايرانية الحاكمة في اتجاه ذبذبات الأخذ والعطاء. وزير الدفاع الاميركي الجديد روبرت غيتس الذي كان دعم اقتراحات فتح قناة ديبلوماسية مع ايران عاد من جولته في العراق ليقول ان لا مجال لهذا الخيار لأن ايران لا تريد شيئاً من الولاياتالمتحدة. وهذا صحيح تماماً، ان ايران لا تريد شيئاً يمكن للولايات المتحدة ان تعطيه لها الآن في عملية أخذ وعطاء. تريد ما وُعدت به عبر المحافظين الجدد وحلفائم من امتداد جغرافي نفطي، وهي تدرك ان هذا يتطلب حروباً طائفية أوسع وأكبر ويتطلب صبراً ووقتاً. فإما ان تتبنى الادارة الاميركية بإصرار من نائب الرئيس ديك تشيني سياسة استكمال وعود المحافظين الجدد، أو تتبنى بإصرار من جورج بوش الانقلاب على هذه الوعود واحباطها. ولأن المساومات الكبرى ما زالت بعيدة الأمل، في اي من الحالتين، فإن الكلام عن المساومات الصغرى ليس سوى للإلهاء والمناورات من أجل ايران وحلفائها. فكل ذلك الكلام عن استعادة سورية أوراقها الاقليمية هدفه تحويل الأنظار عن المخاوف التي تدق على أعصاب القيادة السورية. فليست هناك مساومات أو صفقات في شأن المحكمة الدولية، ولن تحصل دمشق على التعديلات التي تريدها في النظام الاساس للمحكمة وعلى رأسها اعفاء الرئيس من الجرائم التي يرتكبها مرؤوس. لن تحصل عليها مهما قدمت من تعاون في ملف العراق لأن ملف العراق خرج من خانة الاحتياج لمساعدة ومباركة ايران وسورية من أجل بقاء القوات الاميركية في العراق، ودخل خانة الاستعداد والتهيئة لخروج القوات الأميركية من مصيدة الرهينة في العراق. لن تحصل عليها مهما قايضت، عبر شخصيات اميركية أو في مفاوضات سرية مع اسرائيل، وعلى رغم الحماية التي تتلقاها من اللوبي الاسرائيلي في الولاياتالمتحدة الذي يعتبر بقاء النظام السوري افضل صمام أمان لاسرائيل بسبب تحييده الكامل للجبهة السورية - الاسرائيلية وبسبب لعبه دور المنطقة الفاصلة بين اسرائيل و"الاخوان المسلمين". ان ما تقوم به القيادة السورية في ارسالها مؤشرات الاستعداد للتفاوض والتفاهم والتوصل الى اتفاق مع اسرائيل أمر جيد وقرار سيادي عائد لها طالما هو بمعزل عن وبانفصال تام عما عليها ان تقوم به نحو لبنان. وليت المفاوضات على المسار السوري - الاسرائيلي تستأنف وتتوصل الى اتفاق ينهي الاحتلال الاسرائيلي للجولان ويقيم علاقات تطبيع بين الدولتين. ولو كانت هناك حقاً مفاوضات سرية بين الحكومتين، مباشرة أو عبر قنوات خلفية، فلا عيب في ذلك، اذ ان سورية سبقت وفاوضت اسرائيل واوشكت على التوصل معها الى تفاهمات واتفاق. ايضاً، إذا كانت دمشق تلعب دور التوفيق بين السلطة الفلسطينية وبين زعيم حركة"حماس"الموجودة خارج حكومة"حماس"خالد مشعل، عسى ان تتطور النيات الحسنة لتشمل كف القيادة السورية عن رعاية فصائل فلسطينية منشقة، وبالذات تسليح وتمويل تلك الفصائل الموجودة في لبنان. وعسى ان تتطور علاقات الفصائل الفلسطينية لتتحاور مباشرة في ما بينها وتحل مشاكلها من دون الحاجة الى القناة السورية. إذن، أمام القيادة السورية فرص عدة لبناء سمعة جديدة بعيدة عن تهمة التدخل بهدف التخريب والافساد بين الفلسطينيين وقريبة من الاستعداد للسلام مع اسرائيل. أمامها فرصة لبناء علاقة بناءة مع العراق، لا سيما وان الرئيس العراقي جلال طالباني ورئيس الحكومة العراقية نوري المالكي رجلان معروفان لديها عن كثب نظراً الى الدعم المادي والسياسي والمعنوي الذي تلقاه الرئيسان عندما كانا في صفوف المعارضة ضد صدام حسين. أمامها امكانية تنفيذ قرارات مجلس الامن الدولي واثبات قبولها باستقلال لبنان وذلك عبر ترسيم الحدود فوراً بين البلدين، واقامة علاقات ديبلوماسية، ومنع تدفق الاسلحة عبر الحدود السورية الى الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية التي تقوض سيادة الدولة اللبنانية وتنافس الجيش الوطني وتتحداه. إذا استثمرت القيادة في دمشق في هذا الاتجاه بدلاً من استقتالها على نسف انشاء المحكمة الدولية، لربما عندئذ تبدأ التفكير بغير النمط المعهود وتثبت انها انقلبت على فكرها وباتت جاهزة لوضع سورية فوق النظام، فلقد دأبت هذه القيادة على زج نفسها في الزاوية لدرجة انها جعلت شبه مستحيل عليها الخروج منها. الانقاذ الوحيد الآن ليس في التظاهر بأنها استعادت أوراقها الاقليمية وانما هو في إدراك القيادة السورية ان عليها ان تكف عن العراق وفلسطين ولبنان وتبدأ المحاسبة الذاتية داخل الحدود السورية. فإن لم تفعل، فإن ما قد ترثه ايران من إرث الاستثمارات البائسة في العراق، سترثه سورية ايضاً. وهذا قد يؤدي الى محاسبة باهظة تأتي ليس عبر ضربة عسكرية أميركية وانما عبر اصطدام قوى الارهاب في حروب طائفية تؤدي الى انهاك الأنظمة الحاكمة في طهرانودمشق وتؤدي الى استفاقة شعبية الى قدراتها هي على محاسبة الأنظمة وخلعها. والنظام الايراني فهم الرسائل المبطنة الآتية من واشنطن فأسرع الى مخاطبة عدد من القيادات العربية تماماً كما حاولت الادارة الاميركية قبل ذلك عندما ارادت اقامة شرخ بين الحكومة العراقيةوايران والميليشيات العراقية التابعة لطهران. لكن سياسات الانسلاخ هذه تدخل في مجال التمنيات والأوهام أكثر مما هي في فلك الواقعية. فلا الحكومة العراقية ستنسلخ عن ايران والميليشيات، ولا سورية ستنسلخ عن ايران طبقاً لأوهام بعض الاميركيين، ولا الدول العربية الفاعلة في جوار العراق ستقرر الابتعاد الآن عن واشنطن، ولا"حزب الله"في لبنان سينسلخ عن ايران. قيادة"حزب الله"زجت نفسها في زاوية قائمة ولا تعرف الآن كيف تخرج منها. قبل بضعة اسابيع، كان السيد حسن نصرالله محبوب الجماهير العربية بشعبية لا يتمتع بها أي زعيم عربي آخر. كان ذلك حتى اليوم التالي لشنق صدام حسين، اذ سقطت شعبية نصرالله لأن الجماهير ذات الأكثرية السنية سقطت في قاع الانقسامات الطائفية فتخلت عن محبوبها بالسرعة ذاتها التي جعلت منه بطلاً. اليوم، لا تعاطف شعبياً عربياً مع تحريض اتباع"حزب الله"وحلفائه على حرق الدواليب وارهاب المسافرين من لبنان واليه عبر قطع طريق المطار، بهدف تعطيل مؤتمر"باريس - 3"الرامي الى جمع الأموال لإنقاذ لبنان من الافلاس. اليوم، بدأ كثير من العرب يتساءل لماذا يعارض"حزب الله"ان تكون للمحكمة الدولية صلاحية المحاكمة على الاغتيالات الارهابية الأخرى التي يثبت التحقيق الدولي ترابطها مع جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري؟ السبيل الوحيد لإخراج"حزب الله"من تلك الزاوية هو في مفاجأة اقدام يقوم بها السيد حسن نصرالله يضع فيها لبنان فوق ايران وسورية ويعلن الآتي: انه لن يسمح بحرب أهلية في لبنان، ولن يعارض المحكمة الدولية، ولن يتفرج على تحطيم البلاد اقتصادياً واجتماعياً، ولن يقبل بأن يصبح لبنان ساحة حروب طائفية وعليه، يعلن مبادرته هو الى تطبيق القرار 1559 وتفكيك التنظيم العسكري ل"حزب الله"ليصبح جزءاً من الجيش اللبناني ويبادر الى الشراكة الحقيقية في العملية الديموقراطية في لبنان. هكذا فقط ستتمكن قيادة"حزب الله"من تحقيق حصانة الأمر الواقع لها وللحزب، وهكذا فقط تتمكن من اخراج نفسها من الزاوية التي زجت نفسها فيها. فقط عبر اختيارها الطريق الامثل يمكن لقيادة"حزب الله"ان تتجنب حصر المعادلة في التراجع أو الهزيمة. فالانتصار ليس وارداً في قاموس منطقة الشرق الأوسط في هذا المنعطف من تاريخها. فلا الولاياتالمتحدة منتصرة ولا ايران ولا اسرائيل ولا قوى التطرف ولا قوى الارهاب، وبالتأكيد، ان العرب جميعاً غير منتصرين في أي بقعة أو مكان. إذا انتصرت الحكمة والحنكة السياسية لربما أخرج بعض اللاعبين أنفسهم من الزوايا التي حشروا انفسهم فيها ولربما أصبح ممكناً التوصل الى تفاهمات اقليمية والى مبادرات جريئة على نسق ما عمل"المنتدى الاقتصادي العالمي"في دافوس من أجله دون ان يتمكن من تحقيقه في مؤتمره لهذه السنة. ما سعى المنتدى وراءه هو تحقيق اختراقات جذرية، وليس الاكتفاء بمجرد مساومات أو صفقات سطحية وعابرة هدفها الاستهلاك المحلي والمناورات. ما وجده هو ان منطقة الشرق الأوسط ما زالت ضحية عقلية البازار والحصار حتى اشعار آخر.