لا يبدو العالم الثقافي العربي مهجوساً أو مهموماً بقصيدة النثر، إلا في خلال الزوابع التي يثيرها بعض الشعراء، وفي أكثر من منبر إعلامي وثقافي، وفي أكثر من مناسبة أو مهرجان أو لقاء. ولكن هذا لا يعني قبولاً شاملاً ومطلقاً لهذه القصيدة لدى الأوساط الثقافية، وبخاصة التقليدية منها. لكنه أيضاً لا يعني رفضاً شاملاً ومطلقاً لهذه القصيدة، فالصحف والمجلات ودور النشر العربية، كلها تتقبل قصيدة النثر، وتتعامل معها باحترام، يفوق غالباً ما تحظى به قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية. بل إن كثيراً مما توصي به المؤسسات الثقافية الرسمية والشعبية الآن للترجمة إلى اللغات الأخرى، يكون لقصيدة النثر فيه نصيب الأسد - كما يقال -! فلماذا تثار هذه الزوابع بين حين وآخر؟ قصيدة النثر ليست جماهيرية، لا لأنها قصيدة نثر، بل لأن الشعر الحديث كله - النثر والتفعيلة - لم يعد جماهيرياً. وهذا يعني أن المناخ الثقافي العام لا يتربص بقصيدة النثر - كما يقول الشاعر رفعت سلام -، ويرفضها سراً أو علانية، بمقدار ما يعني أن ثمة خللاً أصاب معادلة الكتابة والتلقي. وهو أمر لا يقتصر على الشعر وحده، بل يتعداه إلى بقية الأجناس الأدبية، وبعض الفنون الأخرى. علينا أن نعترف بأن ثمة ظروفاً موضوعية، وتحولات ثقافية شاملة أصابت المجتمعات العربية، إن لم نقل العالم كله، ما انعكس سلباً على الآداب والفنون، إنتاجاً وتلقياً. كان الأدب - والشعر أحد أعمدته الأساسية - يعيد إنتاج أفكار المتلقي في شكل أو آخر، ما يعني أن القارئ كان يجد ذاته في الكتابة، تلك التي لم تكن معنية إلا بإرضاء القارئ المتعطش إلى الحرية والمساواة والكرامة. لكن ذلك الرضا كان يأتي دائماً على حساب تقديم رؤية معرفية وجمالية جديدة ومغايرة. وفي معنى آخر، فقد كان الأدب معنياً بتأدية الدور الذي رسمه له بعض الأيديولوجيين والسياسيين والمثقفين"الفوقيين". تلك المفاهيم والأفكار أنتجت أدباً جرى تحديد وظيفته الاجتماعية والثقافية والسياسية مسبقاً، ما يشبه وضع العربة أمام الحصان. فكان أن تضخمت صورة البطل الإيجابي في الكتابة العربية. البطل المواجه والقوي والصلب والعنيد، وصاحب الفضائل والقيم والأخلاق التي لا تشوبها شائبة. وترسخت إلى جانبه الدعوة المباشرة إلى الكتابة الثورية، وجرى تغييب الهواجس الإنسانية والأحلام البسيطة والصغيرة التي تطاول مفردات الحياة اليومية كلها، وغاب الإنسان العادي وحقه الطبيعي في الضعف البشري والخوف والتأمل الوجودي، وتساؤلاته الأزلية حول الموت والحياة والماورائيات وما شابه ذلك، ما حوّل الأدب إلى خطاب سياسي وثقافي واجتماعي سطحي وساذج، خال من الطاقة الهدامة الضرورية للتغيير وإعادة بناء البنية الراسخة من عقود أو قرون. غاب عن بال منظري الأدب الثوري التقليديين، أن تلك الطاقة الهدامة تتعين في أشكالها الفنية الجديدة الصادمة والمفاجئة والمغايرة، وهو ما دفع واحداً مثل ماركوز إلى القول إن أشعار بودلير ورامبو أكثر ثورية من سواها من الأشعار التي ترفع شعار الثورة في خلال أشكال تقليدية. فالأدب لا يصبح أدباً ما لم تتحول الأفكار والرؤى والمفاهيم إلى شكل فني، وهو ما لم يدركه الكثيرون من الكتاب والأدباء العرب في مرحلة سابقة. وما إن انطلقت حركة الكتابة الجديدة في العالم العربي، حتى ظهرت تلك الهوّة السحيقة بين الكاتب والمتلقي. وليس من قبيل المبالغة القول، إن قصيدة النثر التي مضى على مولدها قرابة نصف قرن، لم تدخل قلب المشهد الثقافي العربي في طفولتها. ولم يبدأ الاهتمام بها إلا في وقت متأخر، أي قبل عقدين أو ما يزيد قليلاً، بحيث أصبحت في قلب المشهد، لا على هامشه كما كانت من قبل، بغض النظر عن القبول أو الرفض. لكن هذا التأخير لم يكن محصوراً في قصيدة النثر، بمقدار ما طاول الكتابة الجديدة كلها، في الأجناس الأدبية المختلفة. فلم يكن من السهل تحطيم بنية من المفاهيم والأفكار المتعلقة بالأدب بين يوم وليلة. وليس هذا شأناً عربياً خالصاً، أو ميزة ثقافية عربية صافية، بل هي طبيعة التغيير والتجديد في المفاهيم والأفكار التي تطاول أي بنية ثقافية في أي مكان آخر. هذا ما حدث في الكتابة الروائية الجديدة، والتجارب القصصية الجديدة التي جوبهت بالرفض أو الاستنكار أو الريبة والشك والحذر، ما دامت قد خرجت على سياق الكتابة الروائية والقصصية المألوفة، وأوجدت لنفسها نسقاً جديداً في التشكيل الفني، القائم على توظيف اللغة توظيفاً جديداً مغايراً، قادراً على مخالفة السائد والراهن والمألوف، بحيث بدت هذه الكتابة كأنها تتنكر للدور الذي رُسم لها، وتدير الظهر للوظيفة الاجتماعية التي كبلت الكتابة الأدبية عقوداً من الزمن. بدت الكتابة الجديدة مجرد ترف ثقافي، ما دامت قد خلت من الدور الوظيفي التقليدي المباشر، حين وُصف الأدب يوماً بأرقى أشكال الوعي الاجتماعي. وإذا كانت أفكار المتلقي ومفاهيمه التي تشكلت على مدى عقود سبباً في حفر هذه الهوة، فإن ألواناً من الكتابة الجديدة - وقصيدة النثر منها - كانت هي الأخرى سبباً رئيساً في تعميقها. فقد تطرف بعض الكتاب في كتاباتهم - شعراً ونثراً -، وقاموا بانقلاب أحمر لا أبيض كما كان مؤملاً. وتعين هذا الانقلاب في كتابة غير معنية بقضايا الإنسان وهمومه وأسئلته الأزلية واليومية الطارئة والمتغيرة، بمقدار اشتغالها على هدم الموروث العربي كله، بصفته كذبة كبرى، أو جثة نخرها الدود. وقد تجلى ذلك في الكتابات التي أخذت على عاتقها الإغراق في تفاصيل الجسد وحاجاته، والتركيز على الجنس بصفته مرآة للنفس البشرية، والتحرر من المقدس في خلال هجوم شرس امتاز بالسطحية والمراهقة الفكرية والثقافية، ما جعله يفتقر إلى البحث والتأويل والدرس والتقويم. أي تغيير نطمح إليه، لا بد من أن تسبقه مراجعة شاملة للبنية كلها. وكان من الضروري أن تعاد قراءة التاريخ العربي، والميثولوجيا الدينية والشعبية، للبحث في مدى توافرها على مفاهيم وقيم يمكن إحياؤها، أو إعادة الاعتبار إليها، ولندرك أيضاً حجم الصواب والحقيقة والدّس والتشويه. لكن ما جرى كان قطيعة كلية وشاملة، وضعت الإنسان العربي الجديد أمام مرآة مهشمة، فبدا لنفسه مهشماً ومشظّى تماماً، ما دفعه إلى كتابة غريبة ومرتبكة، تخلو من أفكار ومفاهيم متماسكة، بغض النظر عن مدى صحتها! ولأن القارئ العربي اعتاد كتابة متماسكة المفهوم والرؤية والموضوع، مع صرف النظر عما يمكن أن يقال في ذلك كله، من اجترار المفاهيم الماضوية، إلى تكريس ثقافة النكوص والتقوقع، مروراً بالتنميط في الأشكال والعناصر الفنية الأخرى، إلا أن هذا القارئ لم يتمكن من استقبال الكتابة الجديدة كما كان الكاتب الجديد يتمنى ويأمل. في هذا المناخ، طرحت قصيدة النثر نفسها. وهي قصيدة جديدة لا في التحرر من التفعيلة والقافية، وإنما في رؤيتها للشعر أولاً، وفي رؤيتها للعالم وللحياة وللإنسان ثانياً. وعلى هذا الأساس بدت قصيدة غريبة ليس على المستوى الرسمي فحسب، بل على المستوى الثقافي العام، الذي تتالت الصدمات عليه من كل حدب وصوب! وهنا يصبح السؤال مشروعاً: لماذا استقبل محمد الماغوط بحفاوة واحترام في بداياته، بينما ثار المحافظون في ما بعد على قصيدة النثر؟ ببساطة، لأن المناخ الثقافي العام آنذاك كان مهيّأ للتجديد والتغيير، طالما كان القارئ قادراً على التحاور مع ما يقرأ. أما في ما بعد فقد تغير المناخ العام كله، وتراجعت مكانة الأدب بعامة، والشعر بخاصة، في ظل انكسار المشاريع الثورية والأحلام الرومنطيقية التي سادت أجواء العالم العربي، وكان الشعر والأدب كله خير وسيلة للتعبير عنها وتبنيها. أفاق القارئ العربي على شظايا المشاريع الكبرى، والأحلام الكبرى، فتخلى عن الحاضنة الرئيسة لتلك المشاريع والأحلام، وصار على الكاتب العربي الذي وجد نفسه أيضاً - كمواطن - مجرداً من تلك المشاريع والأحلام، أن يفتش عن شيء آخر لم يكن وارداً في الكتابة من قبل، فانبثقت الأشكال الجديدة، وتسارعت التغيرات والتطورات الكتابية إلى حد جعل فلول القراء يتساءلون عن كل ما يحدث من حولهم. ولكن ما يطمئن بعض الشيء، هو أن التجديد الحقيقي والجوهري، والمحموم بحثاً في أعماق الإنسان ومشكلاته وأسئلته، سيحتل مكانته اللائقة بالضرورة، سواء حاربته المؤسسة الرسمية أم الشعبية.