مرت القصيدة العربية بتاريخ طويل تعرضت فيه لكثير من التحولات ومحاولات التغيير، ولعل تلك القصيدة لم تجابه بحدث زلزل قواعدها، وحاول تقويضها شكلاً ومضموناً كذلك الذي جاء مع قصيدة النثر. وقد ارتبطت هذه القصيدة بعدد من الإشكاليات التي ضاعفت من سوء استقبالها وفهمها أو التعامل معها بنوع من الحذر والتشكيك على أقل تقدير. لعل الإشكالية الأولى التي ارتبطت بهذه القصيدة تكمن في مفهومها ومنطلقها الأساسي الذي يقوم على التناقض، فانبثاقها من نقيضها – النثر – أثار إشكالية تحديد نوعها الفني، كما أن نزوعها نحو اللانمطية ورفضها للتقنين جعلا منها شكلاً هجيناً، وجعل كثيراً من مستقبليها ينظرون إليها على أنها نوع هجين وشكل مشوه .إن قصيدة النثر – كما تقول سوزان برنار – تنطوي في آن واحد على «قوة فوضوية هدامة تطمح إلى نفي الأشكال الموجودة، وقوة منظمة تهدف إلى بناء كل شعري. ومصطلح قصيدة النثر نفسه يظهر هذه الثنائية». «في قصيدة النثر إذاً توتر كامن يطيح بإمكانية التوازن بين نقيضين بقدر ما يحتضنهما، ومن هنا يتفق كثير من النقاد على أنهم أمام جنس أدبي شاذ غرضه تهديم الأنواع، فضلاً عن أن شكلها يحتوي على بعد تهديمي بصري، وبالتالي مفهومي، يقوم بنسف الأفكار المسبقة والعادات المفهومية لدى المتلقي الذي ما إن يرى عبارات مقطعة حتى يعتبرها قصيدة، ولا يعتبرها نثراً تبعاً لذاكرته الشعرية. هكذا تقوم قصيدة النثر على المفارقة، حيث تنبثق من نقيضها، وتحوله إلى جوهر تتأسس به، ومن ثم برر أصحابها تناقضها بأنه نابع من طبيعة انبثاقها الذي لا يقبل شكلاً ثابتاً، ولا ماهية محددة، وظلوا يكررون خصائص فيها مثل التعدد في الشكل والمرونة والكثافة والغموض والمجانية والوحدة والإيجاز، وعناصر التوهج، والرؤيا والحلم، مركزين على مبدأ الحرية والتجريب. إن ذلك يجعل من هذه القصيدة نوعاً يرفض التحديد المسبق، ويقوم على اتحاد المتناقضات ليس في شكلها فحسب، إنما في جوهرها كذلك (نثر – شعر)، (حرية – قيد)، (فوضوية)(مدمرة – فن منتظم)، ومن هنا تبرز تناقضاتها وازدواجيتها التي تلتقي مع ازدواجية أكثر عمقاً هي الرغبة في التخلص من القوانين الشكلية والرغبة في خلق شكل مختلف. هذا المبدأ المزدوج وتلك الرغبة في التجريب والتحرر والانعتاق هي ما شكل مدخلاً مهماً للهجوم على هذا النمط الكتابي، ولا مجال هنا للحديث عن كثير من الآراء التي هاجمت تلك القصيدة من هذا المنطلق، ويمكن الإشارة على سبيل المثال إلى ما ذكره عبدالله الفيفي الذي تحدث عن الشكل وفوضاه في قصيدة انثر، انطلاقاً من أن مفهوم الإبداع نفسه قائم في جوهره على ابتكار نظام، ومن ثم تتناسل أنظمة أخرى منه، وليس حتماً أن يكون نظام الخليل أو نظام التفعيلة، لكنه في النهاية نظام ما شعري أو نثري، فهدم نظام يستدعي استبداله بنظام آخر. ومن ثم يتحدث عن تهافت المصطلح ويرى أن هذه القصيدة نثر يسعى إلى أن يبتلع في طريقه آخر ما تبقى للشعر، وهو جنسه الغنائي الخالص. ومن ثم فإن قصيدة النثر بإمكانها أن تكون جنساً أدبياً قائماً بذاته، ولو أنها استوت ونضجت فإن حاضنها الأولى بها والطبيعي لاستيعاب نوعها هو النثر لا الشعر. ومن الجلي أن مثل هذا الرأي ينطلق من ذائقة تحتكم إلى المألوف، والإيمان بالنظام والفصل بين الأنواع، في حين أن قصيدة النثر تقوم في فلسفتها الجوهرية على طبيعة خلاسية جاءت لتجمع بين فضائل كلا النوعين – على حد تعبير كاظم جهاد- فقد أخذت من الشعر احتفاله بلعب الدوال، وأنعشته بقدرات النثر على قول ما لا يقوله الشعر المحض، ومع التوجه صوب الحداثة بدأ الشاعر يضيق بحدود البيت الشعري من جهة، وبعجز الشعر الصافي عن احتواء كامل التجربة الإنسانية، فثمة مناطق من التجربة وظلال من المعاني لا تقال إلا نثراً، وما تطمح إليه هذه القصيدة هو توسيع النص الشعري بحيث يقبل تلك المناطق، لكن بالعمل تحت مظلة الشعر والبقاء ضمن مناطقه. لقد تجاورت إشكالية المصطلح وتناقض النوع مع إشكالية أخرى ارتبطت بمرجعية هذه القصيدة، حيث نظر إليها على أنها نتاج الآخر الغربي، ومن ثم هي تعبير عن استلاب ثقافي يهدد القيم العربية، وخصوصية ثقافتها، أي أنها نتاج العولمة وتهديد للهوية ومحو لها بطريقة أو بأخرى. بهذا تشكل المرجعية الغربية عاملاً أساسياً في عزلة هذه القصيدة والتشكيك في نوايا أصحابها وتضاربهم مع المرجعية العربية والإسلامية. ويذكر محمد العباس أننا مع قصيدة النثر «أمام تمثل شعري عابر للثقافات، له ظاهر (شكل) فني مغاير أو صادم، وباطن (مضمون) اجتماعي، فيه مزيج من الأبعاض الأصيلة والمستعارة». وفي محاولة لردم هذه الهوة حاول بعض المدافعين عن هذه القصيدة إيجاد مرجعية ثقافية عربية لها وربطها بالتراث العربي – كما فعل أدونيس في آرائه اللاحقة - أو ربطها بالمنجز الصوفي أو بعض فنون النثر الفني في الأدب العربي، أو ربطها بالتحولات الاجتماعية على اعتبار أنها استجابة جمالية تعكس حاجيات جديدة جذرية لمرحلة اجتماعية – تاريخية لمجتمع ما، ومن ثم لا يمكن اعتبارها حدثاً عروضياً فحسب، بل هي ظاهرة تعبيرية آخذة في التشابك مع كل الخطابات الإنسانية، تتسع حتى لمن هم خارج تصنيف الشعراء . إنها تتأسس – كما يذكر محمد العباس – على حال تماس دائمة بالمؤثرات الفكرية والفنية، الداخلية والخارجية، وتقوم على ركيزة سوسيو ثقافية، فكل ظاهرة فنية مهما تمادت لا تأخذ مسارها إلا على قاعدة جمعية، أو ضمن ظاهرة اجتماعية أعمق. إن ما سبق يعني أن هذه القصيدة لم تكن مجرد انقطاع عروضي، بل هي محاولة لإيجاد أسس جديدة تحكم نظرة الشاعر إلى الأدب، وتطرح فهما جديداً لوعي الشاعر في علاقته مع الوجود، ومن ثم ظلت تحاول إثبات مشروعيتها، وإثبات حضورها المتجاوز لكثير من القيم والمفاهيم، بحثاً عن أسس جديدة في التلقي والتقبل. من هنا لم يكن أمامها سوى محاولة إثبات وجودها عبر الحضور القوي والكثيف، والكتابة المستمرة التي تؤسس لمفاهيمها وسماتها الجديدة حيث يدرك أصحابها أنها الشكل الفني الذي ما زال يعاني أزمة إثبات وجوده وفنيته، وحاجته إلى قارئ مختلف يستطيع تجاوز ذائقته الشعرية المألوفة، وينطلق من أفق قرائي مختلف يمكنه من فهمها أو إيجاد مصالحة نوعية معها على أقل تقدير. في الوقت نفسه يدرك هؤلاء أنهم يمارسون قطيعة معرفية مع تراثهم من جهة ومع مجتمعاتهم من جهة أخرى، ويقيمون تعارضاً جذرياً بينهم وبين تلك المجتمعات عبر كتابة تعارض السائد، وتعلي من مفهوم الفردية ووعي الأنا الوجودي، وتحقيق الرغبات الفردية «في مقابل التمسك العنيد الذي تبديه الجماعات العربية بما هو جمعي وأهلي وعشائري ومذهبي وعائلي، فقد اختاروا إرادياً الخروج على كل سلطة أسرية، أو سياسية، أو أخلاقية أو دينية «لقد اختار شعراء قصيدة النثر أن يتصرفوا – على الأرجح – كمنفيين ومنشقين يضمرون الكثير من الضدية لمنابتهم وأوطانهم، بل وكأنهم عن قصد وتصميم ينزعون إلى إنكار كل هوية عدا تلك التي يصوغونها كذوات مستقلة وحرة. بل إنهم يحبذون إظهار هذه الذات وكأنها احتفال دائم بالمخالفة والاختلاف عن الأهل وثقافتهم، والاقتداء والتماهي بالمثال الثقافي الغربي مع تبنٍّ فعلي لنمط الحياة الغربية وخياراتها الفلسفية والجمالية». من هنا يأتي تناقض هذه القصيدة مع واقعها، وإعلانها الظاهر أو المضمر عن قطيعتها مع كثير من مفاهيمه، وتبنيها لعدد من مفاهيم الحداثة التي تقوم على التناقض مع المؤسسة ورفضها، ورؤيا تقوم على المعرفة والاختلاف والتنوع والنقد، وهو ما جعل علي الدميني يصف قصيدة النثر – في معرض حديثه عن الحداثة في المملكة العربية السعودية – بأنها نص ما بعد حداثي، فرداني قائم على قطيعة مع المجتمع وهمومه، ووصف شعراءها بأنهم مغرقون في كتابة النص التأملي المتشظي البعيد عن الهم الاجتماعي، وأنهم بذلك ربما كانوا يحلمون برسم ملامح شعر إنساني وعالمي متعال عن الهوية الضيقة والخصوصية المنغلقة، وهذا الأمر هو ما رسّخه كثير من شعراء هذه القصيدة أنفسهم في مقابلاتهم وتصريحاتهم وكتابتهم في الصحافة وغيرها من وسائل الاتصال. * ناقدة سعودية.