كيف ينظر الشاعر عز الدين المناصرة الى قصيدة النثر العربية في النصف الثاني من القرن العشرين؟ مهّد "الشعر المنثور" و"النثر الشعري"، لظهور قصيدة النثر منذ اوائل الخمسينات، صدرت مجموعة "ثلاثون قصيدة" لتوفيق صايغ عام 1954، وكان لترجمة الكتاب المقدس تأثير على تجليات قصيدة النثر، كذلك كتابات الصوفية النفري ومحيي الدين بن عربي، كذلك النصوص الكنعانية والمصرية وملحمة جلجامش، إضافة الى ترجمات قصيدة النثر الفرنسية والشعر الأوروكي. وبالتالي يمكن تحديد مرجعيتين لقصيدة النثر: إحداهما اوروكية والأخرى عربية موروثة. لكن طغيان شعرية الترجمة كان اكبر. كما ان تأثير المدرسة السوريالية هو الأكثر وضوحاً، وقد ظهرت قصيدة النثر موازية لحركة الشعر الحديث او الحر قصيدة التفعيلة، وترجم ادونيس مصطلح سوزان برنار قصيدة النثر عن الفرنسية عام 1960، اما روّادها، فهم: جبرا ابراهيم جبرا، توفيق صايغ، ادونيس، محمد الماغوط، انسي الحاج وشوقي ابي شقرا. وتمركز ظهورها الأول في لبنان، لكن قصيدة النثر من حيث النشوء كانت كنعانية لبنان - سورية - فلسطين. ويبدو ان الهدف في المرحلة الأولى كان الجمع بين الثقافة الفرنسية والثقافة الأنجلو اميركية. لكن الصراع بين هاتين المرجعيتين كان واضحاً، ففي النهاية انتصرت المرجعية الفرنسية لقصيدة النثر، وكان لرواد قصيدة النثر - ايديولوجيا وموقف سياسي لا يتفق مع الموقف القومي الوطني اليساري الذي كان يميل إليه معظم رواد حركة الشعر الحديث، آنذاك، وإن كان بعض كتّاب قصيدة النثر تأثر بطروحات الحزب السوري القومي، فإن بعضهم تأثر بفلسفة شارل مالك وبتوجهات اخرى. لهذا أثيرت "الشبهة السياسية" حول مجلات شعر - ادب - حوار، التي احتضنت قصيدة النثر. ففي الستينات، اثيرت شبهة علاقة هذه المجلات بالمخابرات المركزية الأميركية لجهة التمويل. وأثّر هذا، سلباً على مسألة عدم رواج قصيدة النثر آنذاك. ومنع مناقشة نقدية علمية لظاهرة قصيدة النثر بإيجابياتها وسلبياتها. وكانت مجلة "شعر" محدودة الانتشار، تتداولها نخبة محدودة من المثقفين اللبنانيين والسوريين في شكل خاص. وتضاءل تأثير قصيدة النثر منذ عام 1965 وحتى عام 1985 تقريباً، بسبب صعود الشعر الثوري الحديث. ومع ظهور "العولمة" منذ اوائل التسعينات والنظام العالمي الجديد بقيادة الولاياتالمتحدة - فتحتْ وسائل الإعلام الصحف والمجلات ودور النشر والفضائيات والمهرجانات صدرها للترويج لقصيدة النثر بما يتلاءم مع ميل العولمة للترويج لتبريد اللغة الشعرية ومحو الهويات الثقافية واستبدالها بشعارات "الليبرالية التابعة"، كذلك من اجل إشباع الفراغ بالتشظّي الثقافي الفسيفسائي في مفصل تاريخي، هيمن فيه الآخر. ولهذا يُفترض ان نتفهم - حال التدمير الروحي لدى كتّاب قصيدة النثر في نهاية القرن - لأنه جيل ولد في ظل قيم جديدة تعصف به. هذا التفهم يفترض بدقة ان لا صلة حقيقية لا من قريب أو من بعيد له بمرحلة الشبهة السياسية القديمة. هذا الجيل الشعري هو ابن زمانه وأمكنته. بدأت قصيدة النثر من وحدة السطر ووحدة الفقرة، حتى وصلت الى التدوير الكامل. كما بدأت من اللغة الرومانطيقية واليومية بتكثيف السطر الشعري والفقرة الشعرية. لكنها وصلت في التسعينات الى قمة النثر، حيث سيطرت الأساليب السردية، مثلما وصلت الى درجة الصفاء اللغوي الشعري. ومعنى ذلك انه في التسعينات وصلت قصيدة النثر الى درجات عالية من الشاعرية ودرجات عالية من النثرية - اي الى درجة الإشباع، وهذا ما يؤكد صحة التسمية الشائعة "قصيدة النثر"، إذ وصلت قصيدة النثر الى ما سمّي بالنص المفتوح، والكتابة الحرّة. لهذا ارى ان المصطلح "قصيدة النثر" هو المناسب لمواصفاتها، فهي "نثر " شعر". بالنسبة الى مسألة التجنيس، هناك من يرى انها "شعر خالص"، وهناك من يرى انها "نثر خالص"، وهناك رأي ثالث يرى انها "جنس ادبي ثالث مستقل"، بما تحمله من درجات الشاعرية ودرجات النثرية، وبما ان قصيدة النثر اتسعت من حيث كمية المنجز منها ونوعيته، فقد باتت تشكل ظاهرة كبرى تميل الى الاستقلال عن الشعر بمفهومه الموروث وعن النثر ايضاً. وهي في الوقت ذاته تميل الى الجمع بين السرد والشعر. لهذا كله، تميل قصيدة النثر الى الاستقلال في المدى المنظور، ولم تعد مواصفات سوزان برنار قائمة في واقع النصوص. فالقصدية ليست شرطاً، والكثافة بوجود السرد المهيمن تكاد تتضاءل. ويغيب التوتر الشعري في ظل تبريد اللغة الشعرية. ومع انهيار الحيطان الحديد بين الأنواع، تكاد قصيدة النثر، تشكل نصاً يجمع الأنواع الأدبية، لهذا يمكن ان تكون اطروحة "الجنس المستقل" هي الأقرب للواقع. اما الجدل الأعمى حول لقب الشاعر فهو ينطلق من عقلية المفاضلة بين النثر والشعر، فلا احد يجادل في درجات الشاعرية العالية فيها ولكنها ايضاً تمتلك درجات عالية من السردية بأنواعها التي لا تحصى. اما مسألة الوزن، فقد قلنا إنه لا يوجد ناقد في العالم كله قديمه وحديثه جعل الوزن فقط معياراً للشعر. اما الإيقاع فهو إن كان منتظماً بأشكال عدة لا اعني الوزن فهو يخلق شكلاً من اشكال وحدة النص، ومما لا شك فيه ان الدلالة الإيقاعية - إن وجدت تخلق متعة اضافية مهمة للنص. لكن مضاهاة قصيدة النثر ومحاولة إلصاقها بالإيقاعات الخارجية والداخلية للشعر، هو امر شبه مستحيل، لأن النبر الارتكازي المنظم في الشعر الأوروبي، لا يقاس عليه، بسبب اختلاف النبر في اللغات كلها. فقصيدة النثر، قصيدة مشبعة بالنبر، كذلك الأمر في قصيدة التفعيلة وحتى الشعر العمودي. فالنبر موجود في اللهجات وفي اللغة الفصحى. لكن النبر في قصيدة النثر بلا نظام. ومعنى ذلك ان كل قصيدة نثر لها نبرها الخاص بها، وهو يختلف عن النبر في اي قصيدة نثر اخرى. ولا أرى في مسألة النبر سوى اننا نصف مئات المواقع المنبورة ونحصيها من دون ان نتمكن من حصرها. فالنبر في قصيدة النثر يشبه النبر في النثر، فهو مفتوح لا حدود له. طوال خمسين سنة من قصيدة النثر العربية - لم تحصل قصيدة النثر على "الشرعية" من التنظير النقدي - لأن التنظير كان شعاراتياً متناقضاً، وبسبب وجود فجوة بين التنظير وبين النصوص. لكن قصيدة النثر اكتسبت شرعيتها من كمية - المنجز النصي المتنوع ومن النوعي في النصوص احياناً. فقد صدرت آلاف المجموعات من نوع قصيدة النثر، ما يوحي ويقرر ان الاحتياج للظاهرة متوافر لدى المثقفين العرب. لكن الصراع بين الشفوي الصوتي وبين الصامت المقروء، ظل عائقاً امام وصولها للجماهير. كما ان الإصرار على المقارنة مع الشعر - جعل التواصل معها ضعيفاً، بسبب ثقافة القارئ. لهذا فإن اطروحة "الجنس المستقل" قد تفتح الأبواب امامها، لأن القارئ سوف يتقبل الشعرية والنثرية فيها بصفتها خاصية طبيعية من خصائصها. اما الإصرار على وضع صفات شعر - شاعر - قصيدة فهي مسألة إعلامية، لأن طرح قصيدة النثر بصفتها بديلاً للقصيدة - ما زال يواجه صعوبات على رغم مرور خمسين سنة على ميلاد قصيدة النثر العربية بمفهومها الأوروبي. قصيدة النثر جنس مستقل ونص مفتوح على الأنواع وعلى الآخر هجين. ايديولوجيا قصيدة النثر هي ايديولوجيا العولمة التشظي - وفق تعبير كتكن - العولمة بجمالياتها الشكلية ووحشيتها المرعبة. إنها التعبير عن الحوار مع الآخر، بشروط غير مثالية، فهي تنطلق من التلذذ الوجودي المتعالي بالتبعية مع ملامح دونية واضحة، خصوصاً إذا كان التوحيد القهري هو البديل لتنوع الهويات. الآخر، ديموقراطي وديكتاتوري، الآخر جميل وإنساني واحتلالي وعنصري، الآخر ليس واحداً، لهذا فإن الهامش الديموقراطي الأوروكي الذي نتحاور معه في الواقع هو هامش تضامني ضعيف، يعيش على فتات تصدير الصورة الإيجابية مضخمة. ويعيش على اختراع التمثيل المزور لتصديره إلينا، ممثلاً لنا، على رغم معرفتنا بأنه لا يمثلنا. هناك من كتّاب قصيدة النثر الشباب، من لا يعرف كلمة اجنبية واحدة، مع هذا يفتي برسم صورة الآخر الإيجابية في شكل مطلق، انطلاقاً من ثقافة السماع السطحية. بدأت العولمة بعد الحرب الثانية، حين استبدلت اوروبا الاستعمارية مدافعها بمدافع ثقافية تلبس ربطة عنق انيقة، ثم عادت بوضوح تام علني منذ عام 1985 تقريباً. قصيدة النثر ليست ضد الموروث، لأنها حين توغل في السردية تعود الى منابعها النثرية العربية. ولا نستطيع ان نجزم في شكل مطلق ان قصيدة النثر هي منظور للعولمة فقط، بل هي "شكل" ايضاً لجنس ادبي جديد. من يستطيع الزعم ان قصيدة التفعيلة مثلاً ليس لها منظور للعولمة او البحث عن معنى المعنى بعمق. لا يمكننا اطلاق احكام قاطعة على منظور او شكل اي نوع بالزعم ان هذا النوع بكامله - حداثي وذاك غير حداثي، إلا باستقراء النصوص بعيداً من التصريحات الصحافية لكتّاب وشعراء - اي نوع ادبي. هناك نوع من التنظير الفكري والنقدي لقصيدة النثر معها أو ضدها، منفصل تماماً عن النصوص، كأنها اطروحة ايديولوجية، تعبر عن رغبة الناقد او المفكر او السوسيولوجي ولا تقترب من حقائق النصوص، بل تدور في دائرة شعارات الحداثة، تماماً مثل المفكر السلفي الذي يغلق على نفسه الغرفة، متوهماً ان العالم هو هذه الغرفة المغلقة!!! قصيدة النثر تعود بعد خمسين سنة الى جبران النثر الشعري بأساليب جديدة. حتى لو سمّيت قصيدة الكتلة او اي اسم آخر. ويفترض ان تقدم جماليات بديلة للتعويض عن جماليات الموروث الشعري.