في برنامج تلفزيوني عربي، يعيد الشاعر سعدي يوسف ازدهار القصيدة الجديدة في مصر، الى الانفتاح الديموقراطي، واتساع حرية التعبير. ولا ينسى أن يؤكد لاحقاً ازدهار القصيدة الجديدة أيضاً في الجزيرة العربية والخليج العربي، والمغرب العربي... الخ. ربما ينطوي مثل هذا الكلام على مفارقة صارخة، ذلك ان القصيدة الجديدة تنأى بذاتها عن وظائف القصيدة التقليدية، المتمثلة في النقد المباشر، وتداول الموضوعات العامة الكبرى. ونحن ندرك جيداً أن حرية التعبير في الوطن العربي مقرونة بالمسّ المباشر بالمحرمات التقليدية! إن الحديث عن القصيدة الجديدة، والكتابة الجديدة عموماً في الوطن العربي، يتطلب بحثاً أعمق في أسباب التحولات، وانفتاح الكتابة الجديدة على آفاق أكثر رحابة مما كانت عليه من قبل. وربما يقودنا هذا الى البحث في أزمة المجتمع العربي البنيوية، والتي أدّت بنا في نهاية الأمر الى الاقرار بالهزيمة، على رغم انحدارنا المتواصل الى قرارها - بحسب تعبير الدكتور محمد دكروب في البرنامج التلفزيوني ذاته -! ويحق لنا أن نتساءل: لماذا ينأى الكاتب العربي بنصِّه الآن عن القضايا الكبرى؟ لماذا يرتد الى ذاته عميقاً؟ ويوغل في البحث عن شكل مختلف عما كان سائداً في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال السياسي لأقطار الوطن العربي؟ إن الاجابة عن أسئلة كهذه، ينبغي لها أن تأخذ في الاعتبار، أن الكاتب - أي كاتب - إنما يحاول دائماً البحث عن معنى لوجوده، وتحقيق شكل من أشكال التوازن مع الذات والحياة معاً. وعليه، فإن الكاتب العربي وهو ينظر الى الخلف، يكتشف بسهولة ان التجربة الابداعية العربية السابقة... تلك المعجونة بالقضايا الكبرى وحاملة الآمال والأحلام العريضة، قد تعرضت الى الهزيمة ذاتها التي أصابت الأحلام والآمال والمشاريع الثورية الرامية الى التغيير الشامل وتحقيق الوحدة والتحرر والتحرير والعدالة الاجتماعية، وما شابه ذلك. وبمعنى آخر، فقد اكتشف الكاتب العربي خرافة الوظيفة الاجتماعية للأدب، وصار لزاماً عليه الآن أن يتفرغ لنصّه الحميم، من دون أوهام بقدرة هذا النص على القيام بدور مباشر في عملية التغيير. هكذا أعادت الكتابة الجديدة الاعتبار الى الأحلام الصغيرة، والهواجس الانسانية الحرّة، بعيداً من رغبات الحالمين بالدور الجماهيري للأدب. وهكذا لم تعد الكتابة الجديدة معنية بإعادة انتاج أفكار المتلقي، الذي تقولب ذهنه على ذائقة جمالية محدودة، ومحكومة بعناصر أساسية، تتمثل في الهم الجماهيري والتفاؤل بتحقيق الانتصارات بأشكالها المتعددة. على أن هذا كله لا يمنع من الاشارة الى كتابة جديدة مختلفة، تستغل المناخ الابداعي الجديد، للقفز في الهواء، والقيام بألعاب بهلوانية لا تهدف إلا الى لفت الانتباه، من خلال ما يسمى بمفارقة السائد. فالكتابة الحقيقية أو الأصيلة، ليست مجردة من القلق الانساني، والهمّ الانساني، والأحلام والأشواق والرغبات الانسانية، وإذا كان هنالك اختلاف بين الكتابة القديمة والجديدة، فإنه يتمثل في الرؤية الجديدة الأكثر عمقاً وبعداً وشمولية من السابقة... أي أن الكتابة الجديدة تطمح الى أن ترينا الحياة من زاوية لم تكن متاحة من قبل، ولعل التجربة الذاتية هي المفتاح الرئيس لهذه الزاوية... وربما هذا هو ما يفسر اهتمام الكتابة الجديدة في القصة والرواية والشعر بالبوح، وهو ما يتطلب جرأة فائقة في الكتابة، وخصوصاً اننا نتحدث عن مجتمع عربي محكوم بمفاهيم تقليدية! وعودة الى رأي الشاعر سعدي يوسف، فإننا نشير الى أن حرية التعبير لا تتجزأ، سواء كان ذلك في مصر أم في سواها. وإذا كانت حرية التعبير - على حد قوله - سبباً في ازدهار القصيدة الجديدة، فإن هذا يعني انها سبب مباشر في انحسار القصة القصيرة الذي أشار اليه! إن المسألة هنا لا تتعلق بمناخ ديموقراطي أو عسكري، بمقدار ما تعود الى قدرة الشعر على الانعتاق من الأقبية التقليدية، أكثر من سواه من اأجناس الابداعية الأخرى كالقصة والرواية، حيث يلعب الموضوع والوقائع دوراً رئيساً في بناء النص، بينما يستطيع الشعر التعبير على هيئة حلم عابر... وربما يكون ازدهار القصة القصيرة جداً، عائداً الى اقترابها من الشعر!! خلاصة القول ان الابداع كله يحتاج الى مساحة أكبر من حرية التعبير، وان ازدهار نوع أدبي ما في مرحلة ما يعود لأسباب متشابكة ومعقدة، وان حرية التعبير لا تفيد جنساً ابداعياً وتضر سواه!!